المواجهة الحتمية مع إيران

حميد الكفائي
كاتب وأكاديمي عراقي
التدخل الإيراني في الشؤون العراقية تعاظم منذ عام 2003

على الرغم من العقوبات الأميركية والدولية على إيران والمقاطعة العربية لها، والحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات، فإنها لم تتوقف عن التمدد كالأخطبوط في العالم العربي، ولم تنجح هذه الإجراءات العالمية من إعاقة خطتها في الهيمنة والتمدد خارج حدودها.

أين الخلل يا ترى؟ هل اصبحت التدخلات الإيرانية في بلداننا قدرا محتوما، علينا أن نتجرعه؟ أم أن هناك تقصيرا عربيا وعالميا في التصدي للتمدد الإيراني السرطاني الذي ينتشر في كل بقعة من عالمنا؟ ماذا ينتظر العالم العربي كي يتبنى خطة دفاعية لمواجهته، ويكون له موقف حازم وحاسم تجاه هذا الخطر الداهم؟

ليس هناك من شك عند أحد أن النظام السوري أصبح أداة طيعة في أيدي النظام الإيراني، إذ تزايد النفوذ الإيراني باستمرار وفي كل الاتجاهات، السياسية والاقتصادية والأيديولوجية، منذ عهد الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد ثم استفحل في زمن وريثه بشار الذي تولى الرئاسة بعد موت أبيه في عملية توريث (جمهورية) فاقعة، فقد عُدِّل الدستور خلال ساعات كي يتلاءم مع مواصفات الخليفة الجديد.

ولا أحد ينكر بأن حزب الله اللبناني هو أداة إيرانية في لبنان والمنطقة، وقد عبر عن ذلك علنا رئيسه حسن نصر الله مرات عديدة، والكل يعلم أن حزب الله أصبح الآن يتحكم بالشؤون اللبنانية من تنصيب الرئيس (المسيحي) إلى رئيس الوزراء (السني) إلى رئاسة البرلمان المخصصة تقليديا للشيعة الذين يهيمن عليهم الحزب، حتى وصلت الأوضاع في لبنان إلى أزمة اقتصادية خانقة لم يشهد لها البلد مثيلا، ولا توجد حلول عاجلة لها سوى فرض القانون وتقليص دور القوى الموازية لسلطة الدولة أو المناهضة لها. رئيس الوزراء اللبناني الحالي، حسان دياب، شخصية أكاديمية مرموقة ووطنية وقديرة، وقد تعرفت عليه شخصيا قبل سنوات أثناء مشاركتنا في مؤتمر الدبلوماسية الثقافية في برلين، ولكن التدهور وصل حدا لا يمكن إيقافه إلا بتضافر جهود لبنانية وعربية ودولية.

ولا أحد يمكن أن يتوهم بأن إيران بعيدة عن مليشيات الحوثي (أنصار الله) في اليمن والتي دمرت البلاد ومزقتها وأضافت إلى فقرها فقرا ونشرت الفوضى في كل مكان فيها فعم الفقر والمرض والجوع في هذا البلد العربي الذي كان يسمى يوما بـ(اليمن السعيد).

ونأتي الآن إلى العراق، حيث الكارثة الحقيقية والمأساة المتفاقمة التي يعيشها الشعب العراقي منذ عقود عديدة، وحتى قبل مجيء نظام الملالي الحالي، فالتدخل الإيراني لم يتوقف عبر الأزمان المتعاقبة إذ اتخذ أشكالا عدة، طائفية ودينية واقتصادية واجتماعية وعسكرية، أو جميعها معا.

لكن التدخل الإيراني في الشؤون العراقية تعاظم منذ عام 2003 وتفاقم كثيرا منذ 2014 عندما سيطر تنظيم داعش الإرهابي على عدد من المدن العراقية، فاستغلت إيران ضعف العراق وانسحاب القوات الأميركية منه، وغيبا النفوذ العربي فيه، وشكلت أو ساهمت في تشكيل واستغلال مليشيات تابعة لها وتأتمر بأمرها، فأصبحت بغداد والمدن العراقية الأخرى محاصرة كليا من قبل هذه المليشيات (الولائية)، التي تسيطر عليها عبر نقاط تفتيش عسكرية خاصة بها، أو عبر تغلل أفرادها في الأجهزة الأمنية العراقية، واستخدامهم أدواتها وأسلحتها وهوياتها وتسهيلاتها ومقارها، فأخذت تتحكم بالبلد اقتصاديا وتقتل وتختطف وتهدد وتبتز كل من يعارضها.

وقد ساهمت هذه المليشيات في قتل الناشطين العراقيين المطالبين بالإصلاح والمناهضين للتدخل الإيراني في الشؤون العراقية، ويتهمها مراقبون كثيرون، بينهم الخبير الأمني المغدور هشام الهاشمي، بقتل ما لا يقل عن 700 متظاهر واختطاف مئات الأشخاص وجرح 25 ألفا آخرين في مختلف ساحات التظاهر في بغداد والناصرية والبصرة والنجف وكربلاء.

وقد بثت إحدى القنوات التلفزيونية مؤخرا تقريرا خطيرا اعتمد على وثائق تركها الباحث الاستراتيجي في شؤون الجماعات المسلحة، هشام الهاشمي، قبل اغتياله في السادس من تموز الجاري على أيدي جماعة إرهابية معروفة، خرائط لأماكن وجود المليشيات الموالية لإيران في نقاط التفتيش المنتشرة في العاصمة العراقية.

وهذه النقاط، لا تتحكم في حركة الناس والبضائع، أو تجمع المعلومات الأمنية والسياسية والاقتصادية فحسب، وإنما تفرض أتاوات على الشاحنات المارة وتتحكم بمن يمكن أن يمر عبرها. وتبلغ الأتاوات في بعض نقاط التفتيش، حسب التقرير، مئة ألف دولار يوميا! وكل هذه الأموال تذهب لتمويل المليشيات وتتحكم بها جهات إيرانية محددة، وهي نفسها التي تتحكم بالمليشيات العاملة في العراق.

الولايات المتحدة في المقابل، قلصت وجودها العسكري تحت ضغوط المليشيات الإيرانية، ليتركز في عدد صغير من القواعد، إحداها عين الأسد في الأنبار، وأخرى في كردستان. أما السفارة الأميركية في المنطقة الخضراء، وسط بغداد، فهي تتعرض باستمرار لهجمات بالصواريخ من قبل المليشيات، التي يصفها البعض بـ(المنفلتة)، لكنها في الحقيقة منضبطة وتنفذ أجندات إيرانية محددة، الأمر الذي عالجته السفارة بوضع مضادات للصواريخ وتسيير طائرات دون طيار كي تدافع عن نفسها، ما يعني أن إيران وميليشياتها تحاصر الولايات المتحدة والحكومة العراقية في عقر دارها. كما إن مقار الحكومة وأجهزة الأمن والجيش لم تعد آمنة لمنتسبيها، فقد اتخذت هذه المليشيات قواعدَ ومقراتٍ قريبةً منها بهدف مراقبتها والسيطرة عليها، وربما مهاجمتها إن تطلب الأمر ذلك.

وعندما قررت الحكومة العراقية مواجهة إحدى هذه المليشيات واعتقال 14 شخصا من أفرادها، شنت تلك المليشيا (كتائب حزب الله) غارة على المنطقة الخضراء وتمكنت من إطلاق سراح المحتجزين لتذعن الحكومة لاحقا وتصدر بيانا هزيلا يدل على ضعفها أمام هذه المليشيات، إذ قالت في البيان الذي تلاه الناطق الرسمي لها، إنها كانت تبحث عن شخص واحد، لكنها اعتقلت 14 فاطلقت سراح 13 منهم وأبقت على الشخص المطلوب!

ويراد لنا أن نصدق أن كل هذه الهجمات بالصواريخ والأعمال العسكرية الأخرى والاغتيالات قام بها شخص واحد؟ ومما زاد في إذلال الحكومة العراقية والاستهانة بها أكثر، أن منتسبي المليشيا المطلق سراحهم داسوا بأقدامهم على صور رئيس الوزراء وأحرقوا العلم الأميركي في تحدٍ وقح وسافر لسلطة الدولة، وإلا ما معنى أن تضطلع فصائل عسكرية (يفترض بأنها تابعة للمؤسسة العسكرية العراقية) في شؤون سياسية داخلية وخارجية! أليس من واجب العسكري أن يطيع الأوامر ويحترم السياقات الرسمية والضوابط العسكرية ولا يتدخل في السياسة؟

تحاول حكومة مصطفى الكاظمي أن تستعيد بعضا من سلطة الدولة الغائبة على العديد من مرافقها، خصوصا الاقتصادية منها، فالخزينة خاوية والحكومة تواجه عجزا ماليا يهدد بتفكك الدولة، بسبب سيطرة الجماعات المسلحة وعصابات الفساد المتحكمة بالدولة العراقية على الموارد المالية الرسمية كالمنافذ الحدودية والموانئ والعقود الحكومية وشبكات جباية الضرائب والرسوم واستخدامها البنوك الأهلية والشركات الوهمية لنقل أموالها وتصريفها وتبييضها.

لكن الحكومة، وبسبب تغلل هذه الجماعات في كل مفاصل الدولة خلال الفترات السابقة، خصوصا فترة عادل عبد المهدي الذي استسلم كليا لهذه الجماعات وأصبح أداة طيعة بأيديها، ستبقى ضعيفة إن لم تحصل على مساندة عربية ودولية فعلية، وليست فقط سياسية ودبلوماسية. العراق بحاجة إلى الدعم المالي والاستخباري والعسكري، وبحاجة إلى الاستثمارات العربية والدولية في مرافقه الاقتصادية كي يتمكن فعليا من الفكاك من الكماشة الإيرانية أو تقليص تأثيرها وتخفيف قيودها على البلد كي يتمكن العراقيون من العيش بحرية وأمان.

أهم نقطة تستثمرها إيران ضد البلدان الأخرى هي العامل الديني، والطائفي تحديدا، الذي يتركز على إيهام بعض الجماعات الشيعية بأنها ضعيفة وبحاجة لقوة إيران كي تقف إلى جانبها! والحقيقة هي أن نشاطات وسياسات النظام الإيراني هي العامل الأول في إضعاف الشيعة وزعزعة استقرارهم وتهميش دورهم وتشكيك الآخرين بهم، والشيعة في الحقيقة ليسوا بحاجة لإيران ولم يكونوا بحاجة لها يوما من الأيام، فقد عاشوا ومازالوا يعيشون في كل البلدان العربية والإسلامية والغربية، دون أن يتعرضوا للأذى. الشيعة هم في الواقع المتضرر الأول من سياسات إيران، ولن ينعموا بحياة آمنة ومستقرة مازالت إيران تتحدث باسمهم وتدعي تمثيلهم وتستخدمهم في تشكيل مليشيات عسكرية تتدخل في شؤون بلدانهم.

يجب أن يكون هناك مشروع عربي جدي وموحد لتخليص العراق من الاخطبوط الإيراني أولا، وإيقاف التمدد الإيراني في المنطقة ثانيا. الانتظار ليس حلا، فالنظام الإيراني مصمم على التمدد، وحماسه للتغلغل في المنطقة العربية ازداد شراهة بعد نجاحه في العراق وسوريا ولبنان واليمن خلال الحقبة المنصرمة، لذلك، فإن الوقوف إلى جانب العراق الآن، سياسيا واقتصاديا، سيكون الخطوة الأولى لإيقاف المشروع الإيراني، الذي يستهدف المنطقة بأسرها انطلاقا من العراق.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here