مآسي الشعب العراقي مع الأجهزة الأمنية وضرورات تغييرها الجذري 1-3

كاظم حبيب
مآسي الشعب العراقي مع الأجهزة الأمنية وضرورات تغييرها الجذري
1-3
حين يتابع الباحث نشوء وتطور الأجهزة الأمنية في العراق قبل وبعد تأسيس الدولة الملكية تحت السيطرة الاستعمارية البريطانية وانتدابها الفعلي على العراق، سيكتشف أن العراق لم يتمتع يوماً بأجهزة أمنية، كمؤسسة، ذات انتماء وطني فعلي للشعب العراقي، بل كانت منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا تمثل إما مصالح الأجنبي مباشرة وإما المصالح المشتركة للأجنبي والفئات الحاكمة المناهضة لمصالح الشعب في آن واحد، وإما خاضعة لهيمنة الفئات الحاكمة المستبدة. وهذه الأشكال من تبعية الأجهزة الأمنية يمكن متابعتها في تاريخ العراق الحديث بين عام 1917، حيث تم تأسيس دائرة “طابع الأصابع” لأول مرة من قبل القوات البريطانية في البصرة، ثم نقلت الدائرة إلى بغداد، وتوسعت بدوائر أخرى تحت القيادة البريطانية، ثم أصبحت تحت أمرة الشرطة بقيادة البريطانيين وإشراف الخبراء والمسؤولين المباشرين البريطانيين، حيث عين العقيد العسكري الشريفي نوري السعيد عام 1921 أول مدير عام عراقي للشرطة العراقية، والتي انتهت إلى منحها اسم “مديرية شرطة التحقيقات الجنائية”، وبين عام 2020، حيث يواجه الشعب مجموعة من الجهات الأمنية الرسمية أو غير الرسمية التي تدار من قبل جهات عديدة داخلية وخارجية. وقد شهد العراق هذه الأنواع الثلاثة من ولاءات وتبعية هذه الأجهزة الأمنية خلال الفترة 1917-2020.
أن المعاينة المدققة للمؤسسة الأمنية تشير إلى وجود قواسم مشتركة بين طبيعة عمل ومهمات ونشاطات وأساليب عمل هذه الأجهزة والتي اعتمدت قواعد معينة في عملها، منها:
1) عدم الثقة بالشعب والشك في حركة ونشاط المواطنين والمواطنات.
2) رغم القاعدة الفقهية التي تقول المتهم برئ حتى تثبت إدانته، فأن عمل أجهزة الأمن تعتمد قاعدة المتهم ليس بريئاً وعليه أثبات براءته مع عدم توفير الفرصة للبرهنة على براءته.
3) ممارسة القوة والعنف والزجر لانتزاع اعترافات من المتهم، وغالباً من يجبر المتهم على الاعتراف بذنب لم يقترفه بأمل النجاة من التعذيب.
4) ابتعاد أجهزة الأمن وعموم أجهزة الشرطة والقوات العسكرية عن معرفة حقوق الإنسان وماذا تعني ضرورة الحفاظ على كرامة الإنسان.، فالتثقيف العام يؤكد بأن من هو ليس مع النظام هو ضد النظام، وهكذا اعتبرت قوى المعارضة السياسية الديمقراطية عدوة للنظام القائم يجب التخلص منها أو تأديبها!
5) كانت هذه الأجهزة تلتزم في عملها أيديولوجية الفئات الحاكمة والنظام السياسي القائم، وترفض كل منها الأيديولوجيات الأخرى وتحاربها وتتصدى لنشاطاتها الفكرية والسياسية والاجتماعية,
6) العمل على فرض البراءة من المبادي التي يؤمن بها المعتقل أو الحزب الذي ينتمي إليه، والتي كانت ترفض من غالبية المناضلين، سواء أكانوا شيوعيين أن وطنيين وديمقراطيين مستقلين.
7) وجود تراث وتركية ثقيلة ومديدة تعرض لها الشعب العراقي عبر تاريخه الطويل تجلت في الأساليب القهرية والدموية، النفسية والجسدية، في ممارسة التعذيب ضد المعارضين، والتي أصبحت تقليداً ثابتاً في عمل أجهزة الأمن والشرطة في البلاد ابتداء من فترة استعمار (فتح!) العراق من قبل عرب البادية المسلمين، ومروراً بالدولة الأموية، فالدولة العباسية، والدويلات اللاحقة، ومن ثم في فترة حكم الدولة العثمانية، أو في فترة الوجود الاستعماري الفارسي وحكم المماليك في العراق. (راجع في هذا الصدد: عباس الشالجي، “موسوعة العذاب” في سبعة أجزاء. كاظم حبيب، “الاستبداد والقسوة في العراق”، الصادر عام 2006 عن مؤسسة حمدي في السليمانية، أو كتابات هادي العلوي عن التعذيب في الإسلام).
8) ومن الجدير بالإشارة إن المؤسسين البريطانيين هم الذي بدإوا بممارسة أساليب التعذيب لانتزاع الاعترافات أو إسكات المعارضة ومارسها معهم الشرطة وجهاز الأمن العراقي. والاختلاف البارز هو أنه كلما تغير النظام كانت أساليب التعذيب تزداد قسوة وعنفاً وهمجية، والتي عاشها الشعب في ظل البعث والاحتلال الأمريكي (فضائح سجن أبو غريب) والنظام السياسي الطائفي الفاسد الراهن.
لقد خضع الجهاز الأمني الأول للهيمنة البريطانية، ومن ثم للحكم الملكي برعاية وتوجيهات خبراء ومستشارين ومفتشين بريطانيين، ومن ثم توجيهات حلف بغداد منذ العام 1955. وكان هذا الجهاز قد مارس الأساليب القديمة المتوارثة من العهد التركي، لاسيما وأن أغلب من عمل فيه كانوا من الضباط الذين درسوا في المدارس العسكرية العثمانية، والتي استهدفت انتزاع الاعترافات من المتهمين، سواء أكان المتهمون من السياسيين أم من العاديين حقاً أو باطلاً، ومورست مختلف أساليب الضرب بالهراوات والخيزران والتعليق في المراوح وقلع الأظافر والكوي بالسجائر والحرمان من النوم أو التغطيس في حوض ماء أو وضعهم على السطح لينعرضوا في حر الصيف إلى أشعة الشمس المحرقة، أو حتى محاولات الاغتصاب للذكور والإناث. كل ذلك كان يجري في سراديب التحقيقات الجنائية ببغداد، لاسيما في البيت الثالث حيث مقر رئيس الجهاز بهجت العطية ونائبة في الخمسينيات من القرن العشرين نائل عيسى ومساعده فزاع فهد. وعلى أيدي ضباط من عانة وحديثة وراوة في الغالب الأعم من أمثل أدهم العاني ونوري الراوي، أما شرطة الحراسة الأميين فكانوا في الغالب الأعم من الطائفة الشيعية، مثل عبد الأسود. لقد كانت الكراهية والعداء موجهة ضد الوطنيين والديمقراطيين، لاسيما ضد الشيوعيين، حيث شكلوا الغالبية العظمى من المعتقلين والمعذبين والمحالين إلى المحاكم والمسجونين في سجون بغداد والكوت ونقرة السلمان وبعقوبة. وقد وجد في كل مدينة من مدن العراق شعبة تابعة لشرطة التحقيقات الجنائية التي تركز اهتمامها على الجانب السياسي، ومن ثم أعطيت مهمة أخرى لها ضد الحركة الصهيونية، والتي عانى منها اليهود غير الصهاينة الأمرين على ايدي هذا الجهاز، كما حصل للسياسيين العراقيين. (راجع: د. كاظم حبيب، شرطة التحقيقات الجنائية في العراق، بين المهمات النبيلة والأفعال الدنيئة. دار ميزوبوتاميا-بغداد، ط1/2013). لقد تعرفت على أساليب عمل التحقيقات الجنائية وشرطتها خلال اعتقالي في شتاء عام 1955 مع رفيقي المناضل والفنان الموسيقار عبد الأمير صالح الصراف. وقد سجلت ما حصل لي خلال وجودي في مبنى مديرية التحقيقات الجنائية خلال أسبوعين من تعذيب نموذجي أو نمطي شديد القسوة والعنف، ولا شك في أنهم قد مارسوا أبشع من ذلك في حالات أخرى، كما حصل مثلا مع طالب الطبية حينذاك جبار حسين أثناء اعتقاله مع مجموعة من الشيوعيين العراقيين عام 1954/1955، والذي صمد بوجه المحققين شهوراً عديدة. (راجع: كاظم حبيب، ذكريات مُرّة في ضيافة التحقيقات الجنائية في العهد الملكي! -في اليوم العالمي لمناهضة التعذيب- الحوار المتمدن-العدد: 880 – 2004 / 6 / 30 – 03:29 ، المحور: حقوق الانسان (.
لم يجر تغيير جذري لمؤسسة التحقيقات الجنائية في العهد الجمهوري الأول، إذ استمر جهاز الأمن العراقي يمارس عمله، حتى بعد تغيير بعض كوادره وتقديمه للمحاكمة، بذات الأساليب القهرية والقسرية في انتزاع الاعترافات أياً كان الخصم السياسي المعتقل، وهو أمر ساعد القوى الانقلابية على استخدام تلك الأجهزة لصالحها بعد التحول الكبير ضد الشيوعيين في عهد الزعيم الركن رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، في تصفية مؤيدي قاسم من وطنيين وديمقراطيين وشيوعيين واشتراكيين وكرد من أتباع الحزب الديمقراطي الكردستاني أو من رافضي الحرب في كردستان، سواء كان بزجهم في السجون أم إبعادهم عن مواقع المسؤولية المهمة في القوات المسلحة ودوائر الدولة، أم تقديم تقارير مضللة ضد اخلص العناصر للجمهورية الأولى وعبد الكريم قاسم التي وجدت العنت والتعذيب والجور على أيدي تلك الأجهزة.
لم يجد البعثيون والقوميون بعد انقلاب شباط الدموي الفاشي في أساليبه وأدواته وأهدافه، إجراء تغييرات واسعة جداً في جهاز الأمن الداخلي بعد أو وضعوا على رأسه بعض أبرز عناصرهم الأمنية، إذ كان الجهاز مهيئاً قبل ذلك ومستعداً على ممارسة تصفيات جسدية وسياسية فعلية ضد الشيوعيين والديمقراطيين من أتباع عبد الكريم قاسم والمستقلين وضد منظمات المجتمع المدني مثل حركة أنصار السلام والطلبة والشبيبة ورابطة المرأة العراقية والنقابات، إضافة إلى قتلهم قادة الثورة وعلى رأسهم عبد الكريم قاسم بطريقة انتقامية حاقدة. وجرى في هذه الفترة تعاون متين بين جهاز الأمن الداخلي والحرس القومي والقيادة السياسية البعثية من جهة، وبين جهتين أساسيتين غربيتين هما السفارة الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية أولاً، والسفارة البريطانية ثانياً، من جهة أخرى، حيث تم توفير معلومات كثيرة جداً عن القوى الوطنية مثل الحزب الشيوعي العراقي والقوى الديمقراطية اليسارية والمستقلة والحزب الوطني الديمقراطي وكثرة من عناصر القوى الديمقراطية المؤيدة لقيادة عبد الكريم قاسم لضمان اعتقال وسجن وتصفية من يراد تصفيته منهم. وقد كان لبيان 13 لسنة 1963 الذي أصدره الحاكم العسكري القومي رشيد مصلح الدور البارز في اعتقال وقتل جمهرة كبيرة من القيادات والكوادر والأعضاء الشيوعيين والديمقراطيين أو سجنهم وتعذيبهم وقتلهم تحت التعذيب، إضافة لما حصل في قطار الموت الشهير، وكذلك في أعقاب حركة حسن سريع الثورية. لقد قام القوميون الناصريون بقيادة عبد السلام عارف بعد انقلاب تشرين 1963 بفضح حليفهم البعثي والكشف عن الأساليب الدموية والمرعبة التي تشابكت فيها أساليب القرون الوسطى بالأساليب التقنية الحديثة في التعذيب والتمثيل والقتل, التي مورست في معتقلات نظام البعث الأول بين انقلاب 8 شباط وانقلاب 18 تشرين الثاني عام 1963. ويمكن للأساليب الجهنمية والوحشية التي مورست مع مجموعة قيادية وكوادر كثيرة للحزب الشيوعي العراقي التي جرى تعذيبها وقتلها بخسة ودناءة في قصر النهاية، ومنهم القائد الشيوعي سلام عادل. (راجع: أحمد الحبوبي، ليلة الهرير في قصر النهاية، دار البراق، لندن، 1999). أي في القصر الذي غدرت فيه العائلة المالكة الهاشمية، ومنهم الملك فيصل الثاني والوصي على عرش العراق عبد الإله بن علي بن الحسين شريف مكة عام 1958، وهو قصر عبد الإله الذي كان يسمى بـقصر الرحاب، وكان قصر الملوك الثلاث فيصل الأول وغازي الأول وفيصل الثاني يطلق عليه بقصر الزهور. (راجع: عبد الخالق زنگنة، يوميات سجين عراقي في معتقل ‘قصر النهاية’ ، ميدل إيست أونلاين، الأحد 2014/11/16).
ورغُم مبادرة القوميين الناصريين بفضح أساليب البعثيين الدموية في تعذيب المعتقلين والسجناء السياسيين، إلا أنهم لم يتخلوا عن استخدام ذات الأساليب الهمجية ضد الشيوعيين وجمهرة من البعثيين حلفاء الأمس. فالمؤسسة الأمنية الضالة ذاتها، مهما تغيرت أسماء الضالين العاملين فيهاـ توارثت أساليب التعذيب والتمثيل والقتل والتغييب أيضاً، رغم التخفيف السياسي النسبي الذي شهدته فترة حكم عبد الرحمن محمد عارف بعد تسلمه الحكم في اعقاب موت شقيقه عبد السلام محمد عارف في حادث طائرة مريب. (راجع: كتاب “المنحرفون” الوثائقي المهم الصادر عام 1964 ، بعد عام من سقوط النظام البعثي الفاشي الأول 1963).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here