قراءة الشاعر والناقد د. وليد العرفي لقصيدتي (نصّ خارج النصوص)

قراءة الشاعر والناقد د. وليد العرفي لقصيدتي (نصّ خارج النصوص)

عبد الستار نورعلي

سردنة الشّعر ورموز الإحالة في خلق مجاوزة النّصّ د. وليد العرفي

(نص خارج النصوص) للشاعر عبد الستار نور علي أنموذجاً

لسْتُ صاحبَ حانةٍ،

لأبيعَ خمرةً مغشوشةً..

يطرح الشاعر: عبد الستار نور علي منذ العتبة النصية في العنوان إشكالية النص في علاقته مع الموروث من جهة، والمتلقي من جهة أخرى، وهي حالة مواجهة قائمة على تعدّد التأويل المُغاير للسائد، إذ يبدو العنوان لعبة فنية إشارية تفيد بالاختلاف، وكلمة خارج إحالة مكانية وحالة تعبيرية؛ فكل خروج على النمط يُعدُّ تمرّداً , هو ما يعنيه الشاعر بالتأكيد من خلال رغبته في إحداث فعل انعتاق من كل مُحدّدات النص المُسبقة، وتجاوز جغرافية الشعر، وتاريخ اللغة معه، ولعلّ هذا الاختلاف في طريقة التناول والتعبير تبدت بظهوراتها اللغوية باستخدام الشاعر أسلوب النفي (لست) ما يفيد بإمعان تلك الحالة التي يسعى الشاعر إلى تأكيد وجودها وتأصيلها في أسلوبه الشعري، ووفق هذه الرؤيا يُشير إلى أنه ليس صاحب خمارة، والحانة هنا ترميز للثقافة السائدة بوصفها فعل تخدير للوعي في فعلها تماماً كما هي نتائج الخمرة في إذهاب الوعي وامحاء فاعلية التفكير، وجاءت الكلمة الواصفة (مغشوشة) إشارة لافتة إلى تزييف الحقيقة، إذْ يرى الشاعر أنَّ من مهام النص أن يكشف ويعري لا أن يُدلّس ويُموّه الحقائق، وهذه المكاشفة تقتضي وجود طرف مُتلقٍ يعي ما يُقال، ويدرك أهمية تلك المكاشفة التي تُمكّن من إحداث تغيير في التفكير الذي يقود بالضرورة إلى تغيير في السلوك الفردي والمجتمعي على حدٍّ سواء، وهو ما عبّر عنه شاعرنا بالقول:

لسكارى..

لا يعرفون الكلامَ المختلف،

ويتقنون فنَّ الرَغْي..

منْ غير ألسنةٍ،

ولا عيونٍ،

ولا آذانٍ،

ولا أطرافْ.

ويبدو الزمن نقطة تحوّل فاصلة ومُفارقة لفيزيائية الوقت؛ فالساعة الخامسة والعشرون ساعة افتراضية مُضافة من مخيلة الشاعر إلى الزمن، وهو ما يعني إرادة الشاعر في زمن آخر يُمكنه من فعل ما؛ لأنه يُدرك أنَّ الزمنَ الحاليَ أضيقُ من أن يُحقّق فيه ما يأمل بإنجازه، ولذلك فالساعة هنا ملمح من ملامح المجاوزة التي بدأها الشاعر في إعلان عنونته

توقّفْتُ..

على قارعةِ “الساعة الخامسة والعشرين”؛

فقد تجاوزَني قطارُ الشرقِ..

السريعُ..

الذي انطلقَ..

في الساعةِ الرابعةِ والعشرينَ..

متوجّهاً….

الى بلدةِ “كوستانتين جيورجيو”،

عند أقاصى الذبح.

يُعيد الشاعر في لحظة التوقّف هذه الأمور إلى مساقاتها الطبيعية من حيث الزمان والمكان؛ فقطار الشرق السريع يتجاوز الشاعر، وهو تجاوز يجعل من الشاعر حالة مُتجدّدة في سعيه إلى فعل تجاوزي أكثر مساحة من جغرافية المنطقة المُحدّدة بالشرق، وهي غير خافية بدلالاتها على كل ما هو عالق في ذاكرة الشاعر من موروث ثقافي، ونمط تفكير عقائدي، وعلى هذا المنحى تبدو رمزية “كوستانتين

جيورجيو” ذات مغزى اجتماعي، وبُعد فلسفي ينهض بالأسئلة التي ستبدأ من خلال حوار بين الشاعر والآخر:

سألني الواقفُ..

في المحطَّةِ الأخيرةِ مثلي:

ألستَ المُسمّى بـ(عبد الستار) ؟

قلْتُ:

(بلى)، وربِّ الكعبةِ!

قال:

لا تقلْ “بلى”!

وقلْ (نعم)..

مُخالفاً القاعدةَ

ـ سينهض المرحوم مصطفى جواد..

الجواد

محتجّاً ـ

قلْ (نعم)،

فتنالَ وسامَ التقديرِ والتصفيق..

لأنكَ خالفْتَ..

ولم (تختلفْ).

ألستَ ابنَ (الملا نور علي)..

المواظبِ..

على القياسِ،

ولم يختلفْ،

فواظبْتَ..

ولم تختلفْ؟!

قلْتُ: نعم.

فصفّقَ طويلاً..

وغابَ..

في لجّةِ الساعةِ الرابعة والعشرين..

ولم يختلفْ!

يبدو فعل القص القائم على تقنية الحوار بتناوب الفعل: قال و قلت نمطاً يُحاول الشاعر من خلاله أن يُحقّق للشعر عنصراً مهماً من عناصر التقنيات السردية، إذ الحوار من أركان البناء القصصي، ووفق هذا التصور الذي طرحه الشاعر في الاستهلال أراد الشاعر أن يقوم بفعل سردنة الشعر، أو تسريد الشعر وفق ما يجد فيه مقدرة على إيصال الفكرة وطاقة إضافية؛ لتحقيق غايته في عبوره إلى ضفاف مختلفة غير مسبوقة، وبهذا التوق وتلك الرغبة تتكشف لنا أبعاد الحوار بين الشاعر والآخر الذي يبدو عارفاً به؛ فهو لا يسأل بمقدار ما يُفسّر ويكشف وعلى هذا؛ فالسؤال ليس للإجابة، وإنما هو حوار تساؤل كاشف عارف، تلك المكاشفة التي أراد الشاعر فيها إثبات اختلافه مع المعهود والقار في الذهنية الشرقية سواء ما كان على المستوى اللغوي التي دلَّل عليها برمزية اللغوي:مصطفى جواد أم على مستوى آلية التفكير التي لم تغيّر من طبيعتها المتمثلة في والد الشاعر، وطريقته القائمة على القياس بالتزام صارم .

ولا بدَّ من التعريج على الرموز التي اتَّكأ عليها الشاعر في نصّه، إذ الرمز في النص الشعري ليس مجرّد علامة تزينية، وإحالة مرجعية وحسب، بل إنَّه عنصر داعم للفكرة، وركن من أركان التأسيس النصي في اشتغالاته البانية لثقافة ترتكز عليها القصيدة في أبعادها المتشعبة، ومن هذا المنطلق تتبدّى رموز النص وفق أبعادها الثقافية أو النفسية

الرمز الثقافي: وهو ما يكشف عنه رمزية (قطار الشرق السريع) في إحالة على إحدى روايات الإنكليزية آجاتا كريستي التي تحمل عنوان: (جريمة في قطار الشرق)، وما يؤكّد لنا أنَّ الشاعر يقوم بفعل الاستدعاء عن مقصدية هو مآل

السياق في النّص الشعري (الذبح) الذي يتّفق مع عنوان الرواية الذي يبدأ بلفظ: جريمة

ويندرج في السياق ذاته التحديد الزمني: (الساعة الخامسة والعشرون) لمؤلفها الراهب الروماني جيورجيو فرجيل قسطنطين، وهي رواية تستند إلى أسئلة وجودية كبرى تتحدّث عن مصير الإنسان في واقع يمثّل متاهة لا يجد فيها الإنسان نافذة أمل للنجاة منها.

رمزية الشخوص التي اعتمد فيها على رمز لغوي باستدعائه مصطفى جواد

اللغوي المعروف في إشارة إلى عصر كانت فيه اللغة العربيّة في أوج قوَّتها وازدهارها، إذْ تجد من يدافع عنها، ويصون تراثها نحواً وصرفاً وبلاغة

الرمز النفسي الذي يمثّله استدعاء شخصيّة الأب: (الملا نور علي) وفي هذا الاستدعاء تجلّت رمزية المستدعى من ناحيتين: الأولى سيكولوجية لما تعنيه الشخصية المستدعاة للشاعر بحكم رابطة العلاقة الجامعة بينهما على مستوى العلاقة الأبوّية من جهة، وعلى صعيد المرجعيّة الثقافية بما كانت تُجسّده تلك الشخصيّة من علم ومعرفة .

تبدو قصيدة الشاعر عبد الستار نور علي قصيدة خارقة لحدود الأنماط، وهي بهذا تتشكّل في خصوصيّة غير مسبوقة، وتظل مفتوحة على أسئلة في تأكيد أن النص الشعري يظلُّ مُرتهنا بالإبداع ؛لأنَّ ديدن الإبداع الحركة،لا الثبات،والتغيير لا التأطير، وهو ما أبرزه الشاعر في جوابه الأخير بــــ حرف الجواب: (نعم) بدلاً من (بلى) في تأكيد فعل تخلّق حالته الشعرية المتجاوزة .

د. وليد العرفي

5/948785-http://www.almothaqaf.com/b/readings

العدد: 5086 المصادف: 2020-08-08 06:15

نص القصيدة:

نصّ خارج (النصوص)…

عبد الستار نورعلي

لسْتُ صاحبَ حانةٍ،

لأبيعَ خمرةً مغشوشةً..

لسكارى..

لا يعرفون الكلامَ المختلف،

ويتقنون فنَّ الرَغْي..

منْ غير ألسنةٍ،

ولا عيونٍ،

ولا آذانٍ،

ولا أطرافْ.

توقّفْتُ..

على قارعةِ “الساعة الخامسة والعشرين”؛

فقد تجاوزَني قطارُ الشرقِ..

السريعُ..

الذي انطلقَ..

في الساعةِ الرابعةِ والعشرينَ..

متوجّهاً….

الى بلدةِ “كوستانتين جيورجيو”،

عند أقاصى الذبح.

سألني الواقفُ..

في المحطةِ الأخيرةِ مثلي:

ألستَ المُسمّى بـ(عبد الستار)؟

قلْتُ:

(بلى)، وربِّ الكعبةِ!

قال:

لا تقلْ “بلى”!

وقلْ (نعم)..

مخالفاً القاعدةَ

ـ سينهض المرحوم مصطفى جواد..

الجواد

محتجّاً ـ

قلْ (نعم)،

فتنالَ وسامَ التقديرِ والتصفيق..

لأنكَ خالفْتَ..

ولم (تختلفْ).

ألستَ ابنَ (الملا نورعلي)..

المواظبِ..

على القياسِ،

ولم يختلفْ،

فواظبْتَ..

ولم تختلفْ؟!

قلْتُ: نعم.

فصفّقَ طويلاً..

وغابَ..

في لجّةِ الساعةِ الرابعة والعشرين..

ولم يختلفْ!

عبد الستار نورعلي

فجر الأربعاء 22 يوليو 2020

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here