الآياتُ الكونية ُ وفريضة ُ التّفكِير الجزء الثّاني

عمر بلقاضي- الجزائر
نتيجة : نستخلص مما سبق أن النظر والتفكر في كتاب الله المنظور( الكون وما فيه من مخلوقات وظواهر) فرض وعبادة من أعظم العبادات في الإسلام مثل النظر والتفكر والتدبر في كتاب الله المقروء ( القرآن ) جاء في حديث نبوي شريف “لا عبادة كالتفكير” أخرجه ابن حبان عن علي بن أبي طالب . وقال ابن عبا س رضي الله عنه ” فكر ساعة خير من قيام ليلة ” وأدرك العقاد رحمه الله مكانة التفكير في الإسلام فألف كتابا سماه ” “التفكير فريضة إسلامية ” .
هذا الموقف الإسلامي من العقل والتفكير في الكون يؤدي حتما الى نتيجتين هما ركنا الحضارة الإنسانية الراشدة وجناحا الرقي البشري الحقيقي لا الوهمي و هما:
1- تطور الاكتشافات العلمية وزيادة انتفاع الإنسان من الطبيعة وظواهرها التي سخرها الله ودعاه الى الانتفاع بها قال تعالى:” وسخَّر لكم ما في السَّماوات وما في الأرض جميعا منه انَّ في ذلك لآيات لقوم يتفكَّرون ” 13 الجاثية ومدلول الآية
أن في كل موجود في الأرض أو في السماء منافع للإنسان عليه أن يبحث عنها , والقران بهذا التوجيه يفتح باب البحث العلمي على مصراعيه أمام الإنسان , بل هو من دل الإنسان على مفاتيح كل العلوم المعروفة اليوم كعلم الأحياء, الفلك, الجغرافيا , الأجنة, الآثار ,الجيولوجيا , المناخ , نشأة الكون ,الفيزياء …….كل العلوم الحديثة ….ونحن موقنون أن هذه الدعوة القرآنية الى تدبر آيات الله في الكون هي التي كانت سببا في اهتداء علماء الإسلام الى المنهج التجريبي في البحث العلمي واعتماده في علومهم , وبالتالي انطلاق النهضة العلمية إبان ازدهار الحضارة الإسلامية, ومن شك في ذلك فليقرأ حياتهم وكتبهم مثل الإدريسي والقز ويني والفارابي وابن سينا وغيرهم….. فقد كانوا موسوعات علمية في جميع التخصصات استجابة لدعوة القرآن الكريم الى النظر في كل مخلوق وظاهرة , ونقحوا العلوم من خرافات الأمم السابقة والمعاصرة لهم , نبراسهم في ذلك قول الله تعالى:” ولا تقف ما ليس لك به علم إن السَّمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ” الاسراء 36 وقوله ” إن الظن لا يغني من الحق شيئا ” يونس 36 ثم أخذ الأوربيون بذلك المنهاج فكان ما كان, وما هو حادث الآن , من تطور في العلوم .
2- رسوخ الإيمان وحصول اليقين بحقائق العقيدة والدين وذلك يؤدي الى الخضوع لله عز وجل
وإتباع تعاليمه ومنهجه في الحياة, فتسود القيم والفضائل كالتواضع والتآلف والتعاون والتراحم والإيثار..ويتحرر الإنسان من الأنانية والعنصرية والعدوانية والشهوانية وكل الشرور والآثام ويسمو الى عالم الروح عالم الأخلاق والقيم, وتلك هي الحضارة الإسلامية الراشدة التي جاء بها الإسلام , فهي تطور مادي في ظل القيم الخلقية النبيلة والسمو الروحي, هدفها خدمة الإنسان وإسعاده ماديا وروحيا.
أما الحضارة الغربية الحالية فإنها وان انبثقت عن تلك الدعوة القرآنية الى التفكر والبحث في الكون لاكتشاف أسراره, بعد أن تأثرت بها عند احتكاكها بالحضارة الإسلامية عامة وحضارة الأندلس خاصة ,إلا أنها تقوقعت على الجانب المادي الدنيوي منها وأهملت الجانب الأهم , وهو الجانب الروحي , أي الإيمان والأخلاق الإيمانية , فتطورت ماديا كما – نرى اليوم – لكنها أفلست روحيا وأخلاقيا , فسببت الشقاء للبشرية بدل أن تسعدها, لأنها سخرت تلك الاكتشافات والعلوم لتقوية الغرائز الذميمة في الإنسان , كالشره , والجشع, والشهوانية, والكبر, والأنانية, والعنصرية ,
والعد وانية, وجحود حق الله في الاعتراف بوجوده ووحدانيته وعبادته, فأردتها في المآسي التي لم تشهد مثلها في العصور السابقة , كالحروب الكونية .وتلويث الأرض والبحر والجو, واستعباد شعوب بأكملها أو إبادتها , وإنكار الإلوهية وما يتبعه من مفاسد ومذاهب هدامة, وهذا التوجه الحضاري المادي البحت هو الذي أشار إليه القرآن الكريم منكرا له ومحذرا منه في قوله تعالى : ” فأعرض عمن تولَّى عن ذكرنا ولم يرد إلاّ الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم …” (30 النجم) وفي قوله سبحانه : ” يعلمون ظاهرا من الحياة الدّنيا وهم عن الآخرة هم غافلون ” والحضارة بهذه الصفة تحمل عوامل فنائها في ذاتها ولا تعمر طويلا , والقرآن الكريم ركز على ذكر أخبار الحضارات الكافرة السابقة وما آلت إليه وحذر الإنسان من مغبة التقوقع في المادة والإخلاد الى الأرض , ودعاه الى اتخاذ العلم الكوني وسيلة للسمو الروحي والأخلاقي بتجاوز الظاهر والمحسوس الى الغيبي والروحي أي التعرف على الله والإخبات له.
وعليه فاني اجزم و اؤكد أن الأمة الإسلامية لا يمكنها إطلاقا الخروج من التخلف المخزي والمذل إلا بالعودة الجادة الى العمل بالقرآن الكريم وبث وعيه الفكري والروحي والأخلاقي في الأجيال , فهو بالعلم يحرس الإيمان, وبالإيمان يشحن المؤمنين بالرغبة الصادقة الصالحة المجردة عن الأغراض التافهة في طلب العلم والاستزادة منه , وفي تزكية النفس والسمو بها, فالعلم عند المسلم وسيلة لمعرفة الله عز وجل والتقرب إليه, ونفع الخلق بنتائجه طلبا للأجر, لذلك فهو لا يشبع منه ولا يمل من الاستزادة منه ( وقل رب زدني علما ) وذلك يحقق له المصلحة الدنيوية تبعا , ومن الآيات التي ترسم المنهج الحضاري للأمة الإسلامية بشقيه الروحي والمادي قوله تعالى : ” وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدّارَ الآخِرَةَ ,وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنيا,َ وَأحْسِنْ كَمَا أحْسَنَ اللهُ إَِليكَ, وَلاَ تَبْغِ الفَسَادَ فِي الأَرْضِ, إنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ المُفسِدِينَ ” القصص 77
أما الاعتماد على الغرب الحاقد وتقليده بتبني برامجه ومناهجه ونظرياته الضالة , فلن يؤدي إلا الى الدمار والبوار والتسارع في الانحدار, وقد جربنا ذلك فهل نعتبر ونتعظ ؟ إن الغرب لا يطلعنا إلا على القشور وبمقابل فادح وخطير, وهو التفريط في عقيدتنا وقيمنا , وذلك هو العدم والتلاشي .
وأما العودة الى الأخطاء التي سلفت في تاريخنا, والتي أدت الى ما نحن فيه من ضعف وتخلف وهوان
كالطرق الصوفية, فما هو الا إطالة في عمر الأزمة ومرض الأمة , لأن التاريخ يشهد أن هذه الطرق من أهم الأسباب التي أدت الى تشتيت وحدة المسلمين وعودتهم على الخمول والبطالة , حيث صار لكل حي شيخه ووليه وضريحه الذي يرجع إليه ويتعصب له, غافلا عن آمال الأمة وأحوالها, وأوهنت علاقة المسلمين بربهم فصاروا يتوكلون على الأولياء بدل أن يتوكلوا التوكل الايجابي ( أعقلها وتوكل) على رب السماء , أي اعمل بكل طاقتك وحيلتك ثم انتظر ثمار عملك من الله , ولا تيأس مهما كانت النتائج , فما دامت النية صالحة فالأجر حاصل بإذن الله , وما تمكن الاستدمار من الأقطار الإسلامية الا بسبب انتشار هذه الطرق وأمراضها , فالعلة المزمنة التي أودت بالخلافة العثمانية هي اهتمامها بالأولياء والأضرحة على حساب العلم والفكر والإعداد والاستعداد , فحين كان الأوربيون يجوبون بحار العالم ويابسته ويكتشفون الأمريكتين ويبحثون عن الطرق والمنافذ البحرية التي تسهل لهم الانتشار لاستدمار الارض , ثائرين متمردين على رهبانية الكنيسة وجمودها وخرافاتها , و كأنهم ينفذون أوامر القرآن الكريم وتوجيهاته فيما يتعلق بالتعامل مع الكون من مثل قوله تعالى: (هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها ..),( قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدا الخلق.. ) (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم… ) (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض.. ) ( وفي الأرض آيات للموقنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) (وسخّر لكم ما في السّماوات وما في الأرض جميعا منه ) (فلا اقسم بمواقع النّجوم وانّه لقسم لو تعلمون عظيم ) ( فإذا قضيت الصّلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله )( وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله …) ( وأنزلنا الحديد فيه باس شديد ومنافع للناس ) ….. الخ . قلت لما كان الأوربيون يجوبون البحار ويبحثون ويكتشفون كانت الخلافة العثمانية محجوبة عن هدي القرآن بأفكار الرهبنة الكنسية والهندوسية التي تسربت الى العالم الإسلامي في صورة التصوف الدخيل على الإسلام من حيث المصطلح ومن حيث المضمون , فلا يوجد إطلاقا مصطلح التصوف في القرآن والسنة, الذي جاء به الإسلام هو الزهد في الدنيا والتقوى , والزهد لا يعني إهمال الدنيا وأسباب العمران فيها , بل يعني تعميرها باسم الله , وفق منهاج الله , إرضاء له وتقربا إليه بها , أي اتخاذها مطية للآخرة , وعدم الإخلاد إليها بالتمتع المفرط والاستهلاك الجشع والأنانية البغيضة , فالزاهد يعمل ويكدح وينتج تقربا الى الله وعبادة له وطلبا للأجر, ثم هو يشرك إخوانه المؤمنين العاجزين في ثمرة كدحه وإنتاجه وقد يؤثرهم بها ( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون ).
والزاهد يحرص على العلم النافع ومنه العلم الكوني ويسعى دائما من أجل الاستزادة منه كي يزداد إيمانا بمعرفة آيات الله الدالة على قدرته وحكمته ورحمته أولا , ولكي ينفع إخوانه المؤمنين ويزيد في قوة أمته وعلو شأنها ثانيا, ( واعدُّوا لهم ما استطعتم من قوة…) ولكي ينال الأجر عند الله على ما يتوصل إليه من اكتشافات واختراعات تحسب له صدقات جاريه يصله أجر الانتفاع بها بعد وفاته ثالثا
وينزه العلم عن الإغراض الدنيئة والنوايا السقيمة , والرغبات المنحطة .
فالزهد الإسلامي عامل أساسي في تطور العمران وسمو الإنسان وسعادته ماديا وروحيا , دنيويا وأخرويا, أما التصوف الطرقي الدخيل – خاصة في صورته الحالية – فهو شيء مناقض تماما للزهد الإسلامي , انه انحطاط مادي وروحي , أنه موت حضاري , لأنه باختصار ختل الدنيا بالدين , وطلب المتعة والجاه بالبطالة والراحة , واستخدام الدين مطية للإغراض الدنيئة , من شهوات وجاه وسلطة بمخادعة العوام والجهال والسذج بمظاهر التنسك , وهو علة مهلكة لأنه يحجب الناس عن الله ورسوله وكتابه بالأولياء والمشايخ وأقوالهم ومواثيقهم , فإذا بالمريد الصوفي يتقرب الى الشيخ لا الى الله , ويدعو الشيخ ويخشاه ويغفل عن الله وينساه .
قد يقول قائل أنت إذا ضد التربية الروحية التي صارت ضرورية لعصم الأجيال من تيار المادية الجارف . وأقول : إن مشرب التربية الروحية الإسلامية ليس إطلاقا في الطرق الصوفية , بل إن تلك الطرق هي مما أفسد التربية , ومن أراد التأكد من ذلك فليلق نظرة فاحصة على ما يجري في معظم الزوايا من سلوكات يندى لها الجبين , وعلى أحوال وتصرفات أكثر شيوخها الذين لا هم لهم الا المادة والمظاهر الخادعة الفارغة , من تهافت على المعالف وتباهي بالمعارف , فهم في حاجة الى تربية مركزة طويلة فكيف يربون ويتمشيخون ؟
إن التربية الروحية التي نريدها هي التربية القرآنية النبوية التي تقدح في المريد زند العقل فيضيء سنا
التفكير, فينطلق على ضوئه باحثا عن الحق , فإذا ذاق حلاوة العثور علية استزاد منه حتى يدمن عليه فيخبت ويستسلم لله وتزكو نفسه , فتثمر الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة , أي نساعده على أن يشعل سراج العقل والإيمان ثم ينطلق على ضوئهما في طريق الاستقامة حرا عزيزا ( ومن يؤمن بالله يهد قلبه ) ( واتقوا الله ويعلّمكم الله ) ( إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا)(والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وانّ الله لمع المحسنين ) لا أن يقوده الطرقيون كالأعمى في طرق ما أنزل الله بها من سلطان , وقد يسقطونه في الحفر والمتاهات , أو يلقونه في المهالك والهاويات .
التربية الروحية الإسلامية التي تنفع البلاد والعباد لا تحتاج الى شيخ طريقة , فلا واسطة في الإسلام بين المسلم وربه ( وإذا سالك عبادي عني فانِّي قريب ) ( وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير) إنما تحتاج الى مؤسسات ووسائل وقرارات مسئولة , تحتاج الى الروضة والمدرسة والجامعة بالبرامج والمناهج السليمة الصالحة المستمدة من قرآننا وسنتنا وثقافتنا , المراعية لقيمنا وعقيدتنا ولغتنا , والمسجد الحر الذي يؤدي وظيفته التربوية والتوجيهية بصدق وأمانة , والتلفاز والمذياع بالحصص الهادفة الهادية , والنادي الثقافي بالنشاطات الثقافية التي تنمي الوعي الإيماني والأخلاقي , والجريدة التي ترشد وتعلم وتبصر, والمحيط النظيف من المظاهر اللا أخلاقية , والمسئول والإمام والمعلم والولي والقاضي والشرطي والتاجر القدوة في مجال نشاطه , بقوة القانون في البداية ثم بالاقتناع في النهاية ( إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن ) . أما التهرب من المسؤولية وذر الرماد في العيون بالتمسح بشيوخ الزوايا وأقطاب الطرق الصوفية , فهو نوع من المخادعة للعوام السذج والضحك عليهم وهو حضاريا انتقال من الفوضى والطيش الى الجمود والتحجر.
ألا فلندع الى الله ورسوله لا الى أنفسنا وشيوخنا وزعمائنا, والى كتاب الله لا الى أقوالنا وآرائنا, والى الصراط المستقيم لا الى طرقنا وأحزابنا قال تعالى : ” وَأنَّ هذا صِرَاطِي مُستقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُم ْعن سَبِيلِهِ ذَلكُمْ وصَّاكُمْ به لَعلَّكمْ تَتَقُوَنَ ”
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
أرجو من أهل الاختصاص في الدين والدراسات الحضارية أن يثروا هذا الموضوع ويعطوا رأيهم في ما كتبت تأييدا أو تفنيدا, وسأتلقى تدخلاتهم وآراءهم بكل عناية واهتمام حتى ولو كانت مخالفة ومناقضة لما ذهبت إليه في هذه المقالة, فهدفنا تبادل الآراء الجادة وتبادل الأفكار حتى مع المخالفين و الكفار’ عملا بتوجيهات القرآن الكريم الذي يدعونا الى الحوار الفكري الهادئ والجاد في آيات كثيرة كما جاء في المقالة , منها قوله تعالى ( قُلْ إنَّماَ أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا للهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here