عزيز محمد .. شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار – الحلقة الرابعة

عزيز محمد
شيوعيـة بـلا جنـاح: الاستعبار والاستبصار
الحلقة الرابعة

عبد الحسين شعبان

“ليت لي رقبة كرقبة البعير كي أزن الكلام قبل النطق به”
الإمام علي

عزيز محمد – الأممي والقومي
إذا كان توجّه الحزب “أممياً” في موقفه من القضية القومية وتمسّكه بحل مبدأي للمشكلة الكردية يقوم على “حق تقرير المصير” وعلى تلاحم الحركة القومية الكردية بالحركة القومية العربية، لأنهما يعبّران عن حركتي تحرّر وطني ، تريد الانعتاق وتحقيق أهدافهما الوطنية والاجتماعية (كونفرنس العام 1956)، لكن جزءًا من هذه المعادلة بدأ يختفي تدريجياً، وخلال حملات القمع الدموي التي مارسها النظام السابق برزت نزعات لمعاداة العروبة وازدراء العرب، وهم أغلبية سكان البلاد الأصليين وأغلبية أعضاء الحزب، الأمر الذي أدّى إلى إضعاف الهوّية الوطنية للحزب، وهو ما ظهر بشكل صارخ إبان الحرب العراقية – الإيرانية، وخلال فترة الحصار الدولي الجائر المفروض على العراق 1991-2003، خصوصاً حين كان الجسم الأساسي للحزب في كردستان.
وكان الموقف من الاحتلال والتعاطي معه تحصيل حاصل للأزمة التي أخلّت بهوّية الحزب، وقد ترافق ذلك مع تفاقم ظاهرة التمييز القومي وهي ظاهرة خطيرة اتّخذت طابعاً حاداً بما يتناقض مع مبادئ الأممية والتآخي القومي، وهو ما عكسه واقع الهيئات الحزبية من المكتب السياسي واللجنة المركزية ومروراً بالمنظمات الحزبية.
والأكثر من ذلك كانت العروبة تُنسب إلى صدام حسين والحكومات الدكتاتورية وهي منحة أو هديّة لا يستحقّها، وليس من حق أحد أن يهبها إليه وكأن الاعتراف بحقوق الشعب الكردي بما فيها حقه في تقرير المصير الذي هو ليس منّة أو هبة أو هديّة من أحد، ينبغي أن يقترن بالتنديد بالعروبة، لأنها ملك لصدام حسين وللحكام المعادين لحقوق الكرد.
قلت في العام 1992 في ندوة “للحوار العربي – الكردي”(لندن) التي نظمتها المنظمة العربية لحقوق الإنسان التي كان لي الشرف برئاستها، وكرّرت ذلك على مدى عقود من الزمان وترك هذا القول صداه، لاسيما حين تأثّر به واقتبسه آخرون، إن “أغلبيات” كثيرة اجتمعت مصادفة في شخصه، فهو مسلمٌ حسب هوّيته الحضارية الثقافية العامة، والمسلمون أغلبية الشعب العراقي، وهو عربي والعرب يشكّلون أكثر سكان العراق، وإذا أراد بعضهم أن يصنّف الناس على الانتماء المذهبي، فإنّ عائلته يمكن أن تكون ضمن أغلبية المسلمين في العراق وفقاً لهذه المسطرة، ويزعم أنه يدافع عن مظلومي العراق وكادحيه وفقرائه، ودفاعه لاحقاً عن تطلعات الناس جميعهم في حياة أكثر عدلاً وحرّية ومساواة وشراكة ومشاركة، وهم غالبية سكان العراق، بغض النظر عن دينهم وقوميتهم ولغتهم وجنسهم وأصلهم الاجتماعي، لكن انحداره الإسلامي الحضاري وعروبته الإنسانية وجذر عائلته الديني ودفاعه عن حقوق المسحوقين والمظلومين، كلّها تتعرّض للظلم والتشويه إنْ لم يؤيد حقوق القوميات الأخرى، ولاسيما الكرد، وهو مؤمن إيماناً لا يتزحزح بحقهم في تقرير مصيرهم واختيار شكل علاقتهم مع شقيقهم الشعب العربي بما فيه تكوين كيانية خاصة بهم، سواء دولة أو أي شكل آخر يلبّي حقوقهم ، وذلك لأنه عربي ويتغنّى بعروبته ويرى فيها رابطاً حضارياً وثقافياً أصيلاً، وليس هناك تعارضاً بينها وبين حقوق القوميات الأخرى.
وباعتقادي لا يمكن للمرء أن يكون أممياً حقيقياً إذا ازدرى قوميته أو تنكّر لاستحقاقاتها، بزعم وجود قوى حملت اسمها زوراً وبهتاناً، كما لا يمكن للمرء أن يكون أممياً صادقاً إذا تهاون إزاء ميوله القومية لتطغى على الجانب الإنساني لديه. وهكذا سيكون الأمر أكثر حساسية لمسؤول شيوعي أول، وهو الأمر الذي تحسّس منه شيوعيون كثيرون على مستويات مختلفة، سواء على نحو مباشر أو غير مباشر. ولعلّ أول من لفت الانتباه إلى ذلك هو الرفيق حسين سلطان منذ مطلع السبعينات.
ومع تقديري لخصوصية الوضع الكردي والحق في تأسيس حزب شيوعي كردي، لكنني كنت وما أزال أرى أن حزباً شيوعياً عراقياً موحداً يضم مختلف القوميات في دولة قائمة ، هو تأكيد على وحدة الطبقة العاملة والكادحين والمثقفين، وتكامل أممي في دولة متعددة القوميات والثقافات؛ أما إذا استقلت كردستان وأسست دولة سواء باتحادها من أجزاء كردستان الأخرى في (إيران وتركيا وسوريا) أم لخصوصية هذا الجزء العراقي، فإن النواة موجودة لقيام حزب شيوعي كردي مستقل وهذا حق لا نقاش فيه وندعمه بقوة.
وعليه لا يصبح المرء شيوعياً بقرار، حتى وإن احتفل بعيد العمال أو حفظ نشيد الأممية عن ظهر قلب وزين صدره بالمنجل والجاكوج، لأن الشيوعية مثلُ وقيمٌ إنسانية وفكر ومدنية وجمال وعمران ومحبة للخير تسعى لإلغاء الاستغلال وإقامة مجتمع الوفرة والرفاه والعدل والمساواة، وليست ضغائن أو أحقاداً أو كراهية أو خداعاً وغشاً وأكاذيب، مثلما هي مساواة وشراكة ومشاركة وليس تمييزاً أو استعلاءً أو اضطهاداً، سواء من جانب القومية الكبرى أم ضيق أفق وانغلاق من جانب القومية الصغرى، ولعل ماركس هو الذي قال ” إن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن أن يكون حرًّا”، وبقدر ما ينطبق القول على الجماعة البشرية، فإنه ينطبق على الفرد أيضاً، وكان الرفيق فهد هو الذي عبّر عن الترابط بين الوطني والاجتماعي، حين قال:”لقد كنت وطنياً وعندماً أصبحت شيوعياً صرت أكثر حباً لوطني”.
عزيز محمد الحزبوي والشخصي
كان عزيز محمد مسالماً ولا أظن أنه دخل معركة، بل كانت المعارك تُفرض عليه، وكان يسعى دائماً لعدم المواجهة، حتى وإن كانت السلبية ترتقي لتصبح شراكة، وقد يترك لمن حوله مثل هذا الهامش، وقد شخّص العديد من الشيوعيين مثل هذا الدور إبان انشقاق الحزب العام 1967، وكان هذا واضحاً أيضاً خلال التحضير للمؤتمر الرابع وما بعده، وحتى وإنْ بدا مغلوباً على أمره، لكنه كان يحاول مدّ الجسور مع الآخرين دون أن يعني قدرته على تحقيق مصالحة أو معالجة للأوضاع الشاذة التي شهدها الحزب، لأنه كان يعرف توازن القوى قد أصبح في غير صالحه، واستسلم لقواعد اللعبة أخيراً، مع إدراكه إن معظم مظاهر الصلابة التي يبديها البعض كانت تخبئ خلفها نقاط ضعف شديدة، حتى وإن احتمت بدرع سميك.
وقد يكون رهانه على أن العديد من الرفاق الذين لحقهم التنكيل دون وجه حق ، ظلّوا ينظرون إلى الحزب كمرآة يرون فيها صورهم، وحتى لو كانوا أجدر من الذين وقف معهم، فإنهم أو بعضهم على الأقل اعتبر تاريخه مثل تلك اللمسة التي تهدئ الروح وتدفئ النفس، في حين كان عليهم ،أي على الجميع، أن يروا النواقص والعيوب والأمراض التي أخذت تتسلّل إلى جسد الحزب.
وكان على عزيز محمد أن يكون أكثر حساسية من غيره إزاء المخالفين في الرأي، فهو وجمال الحيدري وعبد السلام الناصري وعبد الرزاق الصافي وكوادر أخرى اعترضت على قرارات بهاء الدين نوري العام 1952 واعتبرتها متطرّفة، خصوصاً بنقده لفهد ورفعه لشعارات ” يسارية” طفولية لم يكن العراق متهيئاً لها، وقد اتّخذت قيادة بهاء الدين نوري التي عُرفت فيما بعد بـ ” القاعدة” قرارات بفصله ورفاقه واتهمتهم بأنهم خدم البلاط وأطلقت على صحيفتهم “راية البلاط” ونشرت أسماءهم الصريحة، وكان عليه أن يتقبّل الرأي الآخر ويسمح بالنقد وحق التعبير طالما كان الأمر يتعلق بسياسة الحزب وتوجهاته، لا أن يسمح لإدارة تفريطية ترفع شعارات ” يسارية” “مغامرة” وتدخل معارك لم يكن لها مبرر على الإطلاق، تلك التي راح ضحيتها المئات من الشيوعيين، بأن تتصرّف بحجة الانضباط الحزبي للتنكيل بجمهرة واسعة من قيادات وكوادر الحزب وأعضائه.
ولعلّ ذلك النهج هو من أمراض الحركة الشيوعية المزمنة، بل والمستعصية، التي ظلّت مهيمنة على ممارسات أصحاب القرار، والأمر يخص جميع التشكيلات التنظيمية ذات التوجه الآيديولوجي الشمولي، سواء كانت قومية أم دينية.
وكان ينبغي على عزيز محمد أن يفتح صدره للحوار وأن يستجيب لمناشدات صادقة لرأب الصدع بحيث يستطيع الحزب مواجهة أزماته بتوجّه جديد وموحّد، وخصوصاً لإعادة النظر بسياسته بعد محاولات القوات الإيرانية اختراق الأراضي العراقية العام 1982، وكان عليه أن يدعو الجميع بمن فيهم المحتجّين للتفكير الجاد والمسؤول بمصير الحزب ومستقبله لا أن يراه يتآكل ويذبل دون أن يحرّك ساكناً، لدرجة كان البعض يعتبره الغطاء الضروري لاستكمال منهجه التصفوي ، مثلما كان على المحتجين والرافضين أن يتحلّوا بالمزيد من الحكمة وطول النفس والصبر، والجميع في نهاية المطاف بشر ولهم إيجابياتهم وسلبياتهم، فحتى لمن يعشق فيجب عليه أن لا ينسى سلبيات المعشوق. وعلى ذكر العشق فلعزيز محمد رأي فيه أقرب إلى الصوفية حيث يقول: العشق بالعقل لا طعم له ولا لذّة.
أستطيع القول أن ثمة فوارق كبيرة بين عزيز محمد السياسي أو الأصح الحزبوي وبين عزيز محمد الشخصي، فهو كشخص لا يضمر حقداً لأحد وشديد التواضع، لكنه كحزبوي كان سلبياً ويتبع مراكز القوى، وخصوصاً بعد الهجرة الواسعة في العام 1979، وكان عليه دفع الظلم الواقع على رفاقه وأصدقائه ، لأن ذلك بحدّ ذاته غاية بغض النظر عن الأخطاء والسلبيات التي وقع فيها حتى المظلومون.
وكان الصحافي توفيق التميمي المختفي قسرياً منذ ستة أشهر قد سألني عن عزيز محمد ومواصفات القيادة الشيوعية بقوله : ضمن منهجيتك الموضوعية كنت تفرّق بين الأشخاص والمواقف… بين الآيديولوجيات وتطبيقها، فمثلاً تعتزّ بالمزايا الشخصية والإنسانية لعزيز محمد أمين عام الحزب السابق وتعترف بكارزميته القيادية، كذلك في الوقت نفسه لا تتوان من نقد سياساته وتؤشر إلى إخفاقاته التي قادت إلى نتائج سلبية على الحزب وجماهيره، وربما للحركة الوطنية العراقية. هل لك أن تبيّن أبرز ملاحظاتك على قيادة الحزب خلال العقود الأربعة الماضية، لاسيّما بعد العام 1963، وخصوصاً في فترة التحالف مع حزب البعث فيما يسمى بالجبهة الوطنية؟
وكان جوابي كالآتي وهو مدوّن في الكتاب الحواري الذي أصدره التميمي في حواراته المطولة معي ضمن كتاب ” عبد الحسين شعبان – المثقف في وعيه الشقي” ، دار بيسان، بيروت، 2014:
يمكنني القول أن عزيز محمد شخصية ودّية وسلمية ومحبّبة، لكنها غير حاسمة ومتردّدة وغير مواجهة، ولذلك يتم التأثير عليها، وإذا ما عَمِلَ معه شخصيات إيجابية ومسالمة وجامعة فسيكون سبّاقاً إلى ذلك، لكنه إذا عمل معه شخصيات سلبية أو عدوانية أو مفرّطة، فسيضطّر عزيز محمد إلى مجاراتها والانصياع لها، وتلك مشكلة عاشها من عرف عزيز محمد عن قرب أو من راقب سلوكه الحزبي، ولذلك فأنت لا تستطيع أن تخاصمه، وإذا خاصمته فإنه لا يتحوّل إلى عدو، وهو مستعد للمصالحة في أية لحظة، ولكن ذلك يعتمد على من يعمل معه، ولهذا ترى الجميع حريصين على صداقته وتلك واحدة من المفارقات.
يتبع

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here