قصة قصيرة…..من ذاكرة الزمن

فضيلة مرتضى
في أول يوم من أيام العيد الأضحى كانت النساء يستيقظن من النوم مع ظهور أول خيط من خيوط الفجر وتدب الحركة في البيوت وتتحرك النساء بسرعة فائقة يسحبن الأطفال من الفراش ويغسلن وجوههم ليمسحوا النوم من عيونهم ويضعون ملابس العيد الجديدة على أجسادهم الصغيرة والأحذية الجديدة يحشرون أقدامهم فيها ويكونون قد جهزوا أنفسهم أيضآ إيذانآ ببدأ السفرة الى العتبة المقدسة في النجف الأشرف.ويكون هذا بعد نقاش مع رب الأسرة لكي يهيأ لهن مصروف للسفرة حيث سيمكثون في محافظة النجف الأشرف طيلة أيام العيد وجائز أكثر أحيانآ . كانت النساء من أفراد العائلة بكسوات وعبائات سود يمسكن بكفوف الأطفال بقوة ويسحبوهم الى سيارات الأجرة للتوجه نحو المحطة المخصصة للعربات المتجه نحو العتبات المقدسة وهن يحملن الأغراض من ملابس ومناشف وصابون وسكر وشاي ومعجنات مثل {الكليجة العراقية} وخبز العروق أي خبز معمول مع اللحم المثروم وأشياء أخرى . عند الوصول الى گراج السيارات أي محطة السيارات يحشرون أنفسهم داخل العربة وتكون غالبآ عربات ضيقة من الداخل بكراسي صغيرة مصنوعة من الخشب . تستعد العربة للأنطلاق بعد أن يكتمل العدد وتنطلق على طريق ترابي متجه نحو محافظة النجف وفي منتصف الطريق تقف العربة للأستراحة . ينادي السائق:
_سنتوقف نصف ساعة للأستراحة.
حينها تنقض أذرع النساء على أجساد الأطفال وتشل حركتهم خوفآ عليهم من الضياع ,وهنا تظهر على جانبي الطريق بائعوا الطعام وعادة يكون سندويش اللوبيا مع الخضرة والطماطة أو البيض المسلوق واللبن الطازج{الروبة} باللهجة العراقية والتمر ومن يبيع الماء للشرب معبأ في سطل ومنه يسكب الماء في طاسة{ أناء مصنوع من معدن الفافون} .ينادون الباعة بصوت عالي يروجون لبضاعتهم فتبدأ رؤوس النساء بالبروز من خلال النوافذ الضيقة ويلوحن بأيدهن للباعة والغالبية تشتري سندويش اللوبيا لأنها الأرخص وتبدأ الفكوك تتحرك والأسنان تمضغ وتمتزج روائح العرق مع روائح الكراث والبصل وتعطر داخل العربة الضيقة وتدخل الأنوف ولاأحد يبالي وكأنهم يشتمون روائح أفخر العطور الفرنسية في بارس . بعد أنتهاء مدة الأستراحة ينادي سائق العربة :
_ أنتهى الوقت المحدد سنتحرك الآن عليكم الصعود الى العربة أنتم من في خارجها فيسرع بالصعود من كان خارجها لغرض الشراء أوقضاء حاجة وتتحرك العربة من جديد على الطريق الترابي الغير معبد بالأسفلت والطويل والمتعب بطساته الكثيرة ولهذا السبب يأخذ وقت أطول بأضعاف الوقت الحقيقي حيث أن الرحلة تبدأ الساعة السابعة صباحآ والوصول الساعة الثانية عشر ظهرآ واحيانآ ساعة أكثر لوعورة الطريق. وما أن تظهر منارة الضريح المقدس لعلي ابن أبي طالب حتى تتعالى الأصوات على نغمة واحدة وتنطلق الحناجر معأ:
_اللهم صلي على محمد وآل محمد
ويرددون هذه الصلوات الى أن يصلوا الى گراج السيارات في محافظة النجف الأشرف.
وقبل وصول العربة الى گراج النجف بقليل تظهر رؤوس القبور على الجانب الأيمن من الطريق فتبدأ النساء بالصراخ والعويل واللطم على الوجوة . تقف العربة في الگراج وتتدافع الركاب للنزول من العربة مع صياح النساء كالدجاجات المحبوسة داخل قفص خشبي فتحت بوابته يسحبن الأطفال والحقائب والبقج{ البقجة عبارة عن منديل كبير توضع فيها الملابس وتشد من أطرافها الأربعة على شكل كرة كبيرة} كانت البقجة مخزن للملابس عند العوائل العراقية في تلك الحقبة الزمنية وحتى قبلها بأزمنة أبعد وتقوم النساء بأختيار أجمل أنواع الأقمشة بألوان براقة ويضعنها في الكنتور {دولاب لحفظ الملابس} أحيانآ باب الكنتور مزين بمرآة بحجم الباب لكي يتسنى لهن رؤية هندامهن .
تنتشر الزوار في أزقة محافظة النجف للبحث عن غرف للأيجار لمدة أيام العيد أوأكثر حسب رغبة العائلة والعوائل النجفية تستقبل الوافدين الى المحافظة وتؤجر لهم الغرف بأسعار زهيدة وتكون قد خصصت هذه الغرف على طول أيام السنة وبالأخص بالمناسبات الدينية والأعياد. وبمجرد أن تدفع العائلة أجرة الغرفة تترك الحاجيات في الغرفة الخالية من الأثاث سوى بساط بسيط يغطي وجه أرضية الغرفة ثم تغلق العائلة باب الغرفة بالمفتاح وتنطلق الجموع الى المقبرة مباشرة .نساء بعبائات سود يجرجرن الأطفال بأتجاه المقبرة الكبيرة وادي السلام قبور على مدى البصر وتعتبر أكبر مقبرة في العالم والقبور متراصة تكاد تكون صعب السير بين هياكلها وسراديب كبيرة للعوائل المعروفة . منذ بداية الدخول الى المقبرة يولولن النساء , منهن تبكي زوجها الذي مات أو أخآ أو أبآ أو أختآ أوأمآ أو أحد من أقرباء العائلة . الأطفال يلعبون بين القبور والنساء يصرخن ويبكين وتراب المقبرة تقوم بالواجب فتغطي العبائات وأجساد الأطفال والكل يأخذون مظهر هياكل ترابية وملابس العيد تختفي ألوانها ينال منهم التعب والأرهاق فيعودون الى مكان السكن بوجوه متربة وعيون منتفخة وفي طريق العودة يشترون المأكولات ويبدأون أما الطبخ على الپريمز وتكون أستعارة من صاحبة المنزل أو تكون العائلة جلبتها معها لهذا الغرض والبريمز يعمل بالنفط باللغة المصرية أسمه وابور الغاز .أو يشترون الكباب والطرشي والخبز بعد الأنتهاء من الأكل يشربون الشاي وقليل من الأستراحة وأخيرآ يتجهون الى العتبة المقدسة حيث يمكثون هناك تحت الأنوار المتلألئة والأطفال يقضون أجمل وقت بعد التعب المضني خلال السفرة المنهكة. طيلة مدة المكوث في المحافظة يرغب الأطفال بشراء العصافير الصغيرة يربطون أرجلهم بخيوط ويمسكون طرف الخيط بحذر شديد والعصفور المسكين يحاول الأنفلات لكي يطير بعيدآ عن هؤلاء الأطفال دون جدوى وأحيانآ يموت العصفور ضحية لتلذذ الأطفال الاشقياء.
وللمتعة أكثريشترون السميط عند مدخل المقبرة أو المكاوية نوع من أنواع المعجنات يتلذذون بألتهامها .وطيلة أيام تواجدهم في المحافظة يقومون بنفس الروتين حيث صباحآ الى المقبرة وفي الظهيرة فترة الغذاء وبعده مرة ثانية الى المقبرة واستراحة قصيرة وتناول العشاء ثم التوجه الى العتبة المقدسة يمكثون هناك في الحضرة الى زمان النوم .
أما في أعياد نوروز يمكثون العوائل في المحافظة من 20 يوم الى 30 يوم والأطفال يتغيبون عن دوام المدرسة . هكذا كانت العوائل تمارس طقوسها في تلك الحقبة الزمنية وليست كل العوائل وأنما العوائل الميسورة والمتوسطة الحال الذين لهم دخل معقول ويستطيعون السفر.
كان هذا في القرن الماضي من الأربعينيات والخمسينيات واليوم نحن في بداية الألفية الثالثة ورغم ذلك نرى نسائنا بملابس وعبائات سود متربة وأول يوم من أيام العيد هو البكاء والنحيب كأننا نعيش تلك الفترة ذاتها وكأن شيئآ لم يتغير . قسم من النساء تغيرن في الشكل فقط ولكن متمسكات بالمقدسات الموروثة .كل شيء تغير حولنا في العالم إلا نحن بقينا نراوح في مكاننا والمجتمع ينظر الى المرأة بعين واحدة هي عين الرجل.
هنا أتسائل لم إصرار المرأة أحيانآ على أرغام نفسها على تحمل وزر العذاب حتى في الأعياد وما ذنب الأطفال .الطفل في العيد يحب أن ينطلق خلال ألعابه الخاصة بفئته العمرية وليس بين هياكل المقابر والموت ولماذا تستهين بنفسها الى هذه الدرجة؟؟؟؟؟؟؟
لكي أكون منصفة هناك عوائل تغيرت في مفاهيمها ولها بصمتها الواضحة للعيان ولكن القسم الأكبر لازال يراوح في مكانه.
07/09/2020

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here