أسرار آلعشق – ألحلقةُ آلثانيّة

أسرار آلعشق – ألحلقةُ آلثانيّة

بقلم : ألعارف ألحكيم عزيز الخزرجي
قصّة زليخا و يوسف أحْسَنُ آلقصص

حين نقرأ أو نشاهد أو نطالع قصص آلعشاق عبر التأريخ ينجذب ألجّميع نحوها و يزداد الحديث عنهم و عن الحُبّ خصوصاً في هذا الزّمن ألمالح .. و نتوهّم أنّهم عموماً يُجسّدون أسمى معاني آلنّبل و العشق و الأنسانيّة بمدّعياتهم .. و لكن حين نسترجع حيثيات ما يدّعون نراها تنتهي لمآرب آخرى للأسف بعكس قصص العشاق الخالدة للأنبياء و الصالحين و المخلصين بوعيّ، و بآلتالي نكشف أننا لا نعلم شيئا عن أسرار الحُبّ والوفاء و فلسفة العشق حين نسخّرها لمآرب دنيئة مادية و محدودة، ففي آلماضي كان الحُبّ خالصاً, يُقدّم صاحبهُ بلا مقابل كلّ شيئ, و يُضحّي حتى بروحه، بحيث تكاد لا تجد قصة تشبهها بهذا الشأن رغم تقدم الزمن و تطور العقل و الفكر في زماننا, بل حدث العكس على ما يبدو أيضاً و للأسف حيث تقلّص معنى الحُبّ مع تطوّر الفكر و التكنولوجيا و قوّة العقل, بحيث بدأ يتناسب الحُبّ عكسياً مع العقل!

لقد أحَبّت ملكة مصر (زُليخا) يُوسف الصِّديق وقتها حدّ العشق(1), فكان لا يمض يوم إلّا و يزداد شغفها بجمال و نور يوسف إلى أن راودته عن نفسه ظانّة أنه سيطيعها في معصية الله سبحانه و تعالى، إلّا أنّ يُوسف(ع) أبى أن يرتكب الخطيئة لولا (أن رآى برهان ربّه) وهو إنذاره تعالى له بسوء العاقبة فهرب خارجاً و هو يُناجي ربه:
[رَبِّ ألسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ] (2).
لكنهما وجدا فجأةً (بوتيفار) زوجها عند الباب, حين كان يهمّ بآلهروب للتخلّص مِنْ كيدها و من آلذنوب.

وأخبرت زليخا(3) زوجها (بوتيفار) على آلفور بأنهُ (أيّ يوسف) حاول أن يفعل معها الخطيئة، فحكم بأنّ الفيصل (الفصل) في هذه الحالة هو قميص يوسف (ع) .. فلو كان قد قُدّ بمسمار من الدُّبر فيكون في هذه الحالة بريئاً و إن كان قد قُدّ من قبل فمذنب، و وجد (بوتيفار) أنهُ مُمّزق من الخلف فأيقن وقتها أن زوجته (زليخا) هي الخائنة وهي من راودت يوسف(ع) عن نفسه(4).

و إستشاطت بعدها زليخا غضباً و سعت جاهدة لتبرير صنيعها بإقامة حفل لنساء أكابر مصر اللاتي تكلمن في هذه القصّة ألعجيبة و المشينة لها, و طلبت من يوسف (ع) أن يخرج عليهنّ, فإذا بالنّسوة يُقطعن أيديهن مبهورات من جماله و نوره عندما شهدن جمال يوسف فقُلن: [فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ](5).

و أمرت زليخا بزج يوسف (ع) في السجن حتى ينصاع لرغباتها، لكنه ثبت على موقفه فقضى في السجن أكثر من 10 سنين، لكن زليخا أخذت تعاني من آلام فراقهِ كثيراً و ازداد عشقها و تعلقها به حتى باتت تقضي أيامها بالبكاء شوقاً إليه ممّا أضعف بصرها و جعلها تشيخ بسرعة و تفقد جمالها, لأن فقدان الحبّ أو حتى نصف الحب من طرف واحد و كما قلنا في حكمة كونية في القسم الأول من هذا البحث (6) فأن الأنسان يشيب حتى لو كان شاباً في مقتبل العمر.

ومن شدة إشتياقها له طلبت زليخا من السجان أن يذهب ويضرب يوسف (ع) من أجل سماع صوتة فقال السجان ليوسف لقد أمرتني الملكة أن أضربك لتسمع صوتك ولكني سوف أضرب الأرض وأنت أصرخ، وظلوا يفعلون هكذا لعدة أيام، ولكنها كانت تعلم بذلك فقالت بعدها للسجان أريدك أن تضرب يوسف (س) حقا فقال لها أنا أفعل ذلك، فردت عليه أنك لم تفعل فلو فعلت كنت أحسست بالصوت على جلده قبل أن يصرخ.

وعاد السجان ليوسف (ع) وحكى له ما دار بينه وبين الملكة فقال نبي الله يوسف افعل ما أُمرت به فأخذ السجان الصوت وضرب يوسف (س)، وفي لحظة وقوع الصوت على جسده الشريف أحست به زليخا قبل أن يصرخ يوسف (س) في حينها صرخت زليخة فقالت “ارفع سوطك عن حبيبي يوسف فلقد قطعت قلبي”.

و لما قام النبي يوسف (ع) بتفسير رؤيا ملك مصر أخناتون “أمنحوتب الرابع” و ظهور براءته بآلتزامن مع ذلك باعتراف زُليخا، و شهادة نساء مصر بكون يوسف (ع) كان عفيفاً تقياً كملك طاهر، قام الملك أخناتون بإطلاق سراحه وتعينه عزيزاً لمصر بعد وفاة بوتيفار زوج زليخا و الذي مرض وتأثر من خيانة زوجته له، و ندمه ألشّديد على سجن يوسف (ع) لسنوات طويلة و قاسية.

و بعد أن تولى يوسف(ع) العرش و أصبحت زليخا كسائر الناس تعبد الله في ركن ليس ببعيد عن القصر مع إحدى وصيفاتها، وقد شَابَ رأسها و تغيير حالها وعميت عينها و تقوّس ظهرها حباً بيوسف (ع) و كانت معظم الأيام تجلس زليخا أمام بيتها وبجوارها جاريتها عسى أن تخبرها بقدوم يوسف (ع) أملاً بملاقاته، فعشقها ليوسف كان له لهيب لا ينطفئ، و بالفعل ظهر موكب يوسف (ع) ذات يوم فاستوقفته زليخا و ناشدتة أن يُحدّثها و تراه لتروي ضمئها من رؤيته بعد تلك الغربة(7)!

و حين رآها يوسف تألّم عليها و إستغرب من وضعها, و سألها:
هذا أنتِ يا زليخا؟

قالتـ: نعم .. كنت أنا يوماً ما .. و آلآن كليّ أنت, و لا زليخا في الوجود.

أَ لَا تسألني عن حُسني و جمالي أين ذهب؟
أَ لَا تسألني عن مالي و ثروتي أين ذهبت؟
أَ لَا تَسألني عن الحشم والخدم أين ذهبت؟
أَ لَا تَسأَلني عن جاهي وجلالي أين ذهب؟

لقد ذهب و ذاب كل ذلك بسببكَ, بعد ما أصبح عشقي لك كل شيئ .. و ما زال ذلك العشق قائمأً و حافظت عليه بسويداء قلبيّ!
و للآن و لم يبق لي أملٌ سوى رؤيتك!؟
قال يوسف و قد بدأت دموعه تنحدر .. حيث كان يحبها أيضاً: ألَمُ آلعشق يُذيب القلب و يجلب الهمّ و النكد و حتى الغربة ..
ثمَّ قالت: بقي لي آخر رجاءٌ .. و هو رؤيتك التي تحتاج لعينيين بصيرتين .. لا أملكهما كما تشهد!؟
فتألّم يوسف كثيراً و كاد أن ينهار من شدّة التأثر لحالها .. و لحظتها دعا نبيّ الله ربّهُ لشفائها ببركة الصلاة على محمد و آل محمد, فعاد بصرها و جمالها و شبابها في الحال و كأنها كانت في الرابعة عشر من عمرها!
و حين لمحت تلك المعجزة الألهيّة التي تجسّدت في وجودها, أسلمت لله و شكرته و عشقته و إنشغلت بآلعبادة في غرفتها تناجي معشوقها و تتلذّذ بعبادتها بجانب خادمتها و عاشت على حالها فترة من الزمن!

بعد فترة إشتاق يوسف لرؤيتها, لأنّ آلجّمال و آلصّفاء و المحبة الألهية و رحمته تعالى التي شملتها جعلتها أجمل مما كانت من قبل و من كل نساء مصر, فسعى للقائها .. و حين وصل الصّديق و طرق بابها, فتحت الخادمة الباب له, و سألها يوسف بعد السلام؛ أن تسمح له لزيارة زليخا!؟
فعادت الخادمة لسيدتها لتأخذ الأذن ليوسف .. فرأت سيدتها تصلي و تتعبد لله, فرجعت و أخبرت يوسف .. بأنها مشغولة بآلصّلاة و لا تستطيع مقاطعتها, فإنتظر يوسف ساعةً على بابها حتى أنهت صلاتها, فسألتها الخادمة؛ يا مولاتي إنّ يُوسيسيف بآلباب يريد مقابلتك, فهل تأذني له!؟
قالت زليخا: إنا مشغولة بآلعبادة ولا وقت لي لرؤيته الآن, فليرحل لوقت آخر!
رجعت الخادمة ليوسف و أخبرته بما قالت زليخا, لكن شوق يوسف إزداد لها!
كيف لزليخا أن تفعل ذلك و أنا ملكها و سلطانها و نبي الله و فوق ذلك أحبها!؟
أرجوك أن تسأليها مرّة أخرى بأني مشتاق كثيراً لرؤيتها و لو للحظات و أرحل؟
دخلت الخادمة مرة أخرى على زليخا ليسألها : أنّ يُوسف يلحّ و يرجو مقابلتها .. فماذا تقولين!؟
قالت زليخا: قولي لهُ: [إنّ عشقك كان لي وسيلة للوصول إلى المعشوق الحقيقيّ, و قد وصلتُ آلآن لمُنيتي و لا شغل لي به]؟ عند ما سمع يوسف ذلك الكلام .. أخذ يبكي بحرقة لأنه هو أيضا كان يُحبّها, ثمّ رجاها للمرّة الأخيرة أن تسمح بلقائها!؟
و عندما سمحت لهُ بعد تلك التوسلات .. دخل يُوسف ملك مصر مندهشاً و الدّموع تنهمر على خدّيه و سلّم سلام حائر مشتاق, و ردّت السلام؛ فعاتبها يوسف بدموعه و نظراته, و قال: لماذا هذا الجّفاء يا سيّدتي؟
قالت: بل أنت آلجافي!
ثم أضافت: نحن كلنا عشاق الله, و أشكرك على الجفاء و آلوصل بيننا .. لقد كنت يا يوسف سبباً لوصولي إلى معشوقيّ الحقيقيّ, و عليكَ أنت أيضاً الأستعداد للقاء المعشوق, و لا تُجادلني في الذي كان .. فآلأسرار آلعشق كثيرة و كبيرة, و أنا كشفت (سرّ العشق) الأزلي الذي به سأخلد, و عليكَ السّعي لبلوغ ما بلغت فقد أحببت أن تلحق بمن أُحبّك! و الحمد لله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) سابقاً في الدّيانة اليهودية كما الدّيانات التي سبقتها؛ كانت المرأة تستطيع أن تتزوّج من رجل ثان و حتى زواج إبن الأخر من العمة(أخت الأب) أيضا كانت رائجة, لكنّ المسيحية كما الأسلام غيّرا هذا القانون و صار العكس فيما بعد, فأصبح بإمكان الرجل أن يتزوج أكثر من امرأة و المرأة لا حقّ لها, مع حرمة زواج العمة من إبن أخيها.
من جانب آخر؛ قد يعلم بعض العرفاء بأنّ هناك فرق كبير بين الحبّ و العشق أو ما أسماه القرآن الكريم بـ (الحب ألشديد), راجع مؤلفاتنا بهذا الشأن.
(2) سورة يوسف / 33.
(3) (زليخا), هي (راعيل بنت رماييل) و زُليخا لقبها, هي زوجة عزيز مصر (بوتيفار), و يقال بأنها تزوجت يوسف بعد موت زوجها بوتيفار.
(4) إستوقفتني مسألة هامة و أنا أطالع تلك القصة لدراستها و تحليلها, حيث كنت وقتها ألقي المحاضرات الشبه يومية على الأسرى و المهاجرين العراقيين خارج العراق, لاحظت أن فرعون مصر بل جميع الفراعنة الذين لم نعرف عنهم سوى الظلم و القسوة و الصرامة في الحكم و التعامل .. و هذه كانت حقيقة لا يمكن نكرانها, لكن بجانب هذا رأيت نوعاً من العدالة الموزونة في سيرتهم و حكمهم خصوصا مع مقربيهم و عمالهم و موظيفهم, بعكس الصورة آلمشينة التي وحدها دخلت عقولنا من الصغر للأسف, فأصبح الناس للأسف ذو حدية و صرامة و كأنها صفات إيجابية .. لقد أوعز بوتيفار الأمر إلى القضاء العادل مع الأدلة كي يحكم بآلأمر .. فكان ما كان و كما يعرف العالم (مسلمين ؛ يهود ؛ مسيحيين) تلك القصة التي أعتبرها القرآن من أفضل القصص, و ليس هذا فقط .. بل نرى أن زوج زليخا بوتيفار, قد إغتمّ و حزن كثيراً لخيانة زوجته و بقي حتى آخر العمر لم يتزوج و مرض و قعد لأكثر من سنة عليلاً حتى مات, لهذا فإن العشق عالمٌ غريب يتعدى آثاره و حدوده حتى حدود المعتقدات و الدّيانات!
(5) سورة يوسف / 31.
(6) راجع القسم الأول عبر الرابط:

أسرار آلعشق …بقلم: ألعارف الحكيم عزيز الخزرجي

(7) عندما رآها يوسف (ع) بتلك الحالة, قال لها: أين شبابك و جمالك؟ فقالت لقد ذهب بسببك، فردّ عليها؛ و كيف بك لو تَرَىن نبيّ آخر الزمان و هو أملح منيّ و أكثر جمالاً و سخاءً و هو سيّد ألرّسل (ص) وخاتمها فقالت (زليخا)؛ آمنت بذلك النبي, فجاء جبريل(ع) ليوسف و قال له: يا يوسف قل لزليخا (أنّ الله تاب عليها ببركة الصلاة على محمد وآل محمد).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here