خلوة مع النفس بصوت مسموع: حول التاريخ والسياسة والشفافية والنشر

كاظم حبيب

حين يواجه الإنسان حالة معينة في حاضره الجاري، سرعان ما يتذكر حالات مماثلة واجهته في الماضي. وبسبب أهميتها تبقى في الذاكرة ولا يغطيها تراب العمر المتراكم عبر السنين المديدة التي عاشها، لاسيما بالنسبة لكبار السن والشيوخ من أمثالي. في فترة حكم الطاغية صدام حسين أصدر أمراً بـ “إعادة كتابة التاريخ”، أي تزويره لصالح العرب ولصالح ما يدعيه النظام لنفسه. وقد سقط في الفخ جمهرة من كتاب التاريخ والمثقفين الطيبين، ومنهم الأستاذ الدكتور أحمد سوسة، الباحث الكبير في شؤون الري والمؤرخ، يهودي الديانة وتحول في الثلاثينيات من القرن العشرين إلى الإسلام، وفي ثمانينيات هذا القرن كَتَبَ ما طلبَ منه صدام حسين أن يكتبه عن تاريخ العرب واليهود.

قيل قديماً: أن التاريخ يكتبه المنتصرون. هذا القول يحمل كثير من الصواب، لأن التاريخ يكتبه مؤرخو الدولة الرسميين أو أتباعها، وهو تاريخ رسمي لهذه الدولة أو تلك. وغالباً ما يدرس هذا التاريخ في مناهج تدريس تاريخ الدول في المدارس والمعاهد والجامعات. وندرة من المدرسين وأساتذة الجامعات الذين يشيرون إلى وجود تاريخ أخر غير ما يدرسونه، إنه تاريخ الشعوب.

التاريخ يكتب كما هو معروف بعدة طرق، أهمها الطريقة التي يكتبها مؤرخو وكتاب الحكام والنظم السياسية الحاكمة، حيث يذكرون منجزات هذا الحاكم أو نظامه السياسي ونجاحاته وانتصاراته ودوره في حماية الشعب ونجدة الفقراء والمساكين!

ولكن التاريخ يكتبه أيضا كُتّاب الشعب، حيث يتطرقون إلى المعجزات التي سطرها الشعب المنتج والبنَّاء في مسيرته التاريخية الطويلة، حيث

يبرزون بصواب الحضارات التي بناها هذا الشعب أو ذاك والعمران الذي تحقق بجهودهم من جهة، والمظالم التي عانى منها من حكامه العتاة وهو ينتج الخيرات المادية والروحية للمجتمع من جهة أخرى. ويضطر كتاب الشعب وهم يكتبون التاريخ أن يكتبوه على طريقة الكاتب الهندي صاحب كتاب “كليلة ودمنة”، ليتجنب ما يمكن أن يلحق به من ضرر من الحكام ونظمهم السياسية.

شاركت في وفد نظمه اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي في عام 1964 في موسكو لمناهضة العنصرية في روديسيا وجنوب أفريقيا. ثم اخترت عضوا في محكمة لمحاكمة الحاكم العنصري البغيض ايان سميث (1919-2007) ونظامه السياسي العنصري في روديسيا. وقد حكمت المحكمة المشكلة من الشبيبة من النساء والذكور على النظام بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية وبتجريم القائد العنصري أيان سميث.

خلال فترة نشاط وفود اتحاد الشبيبة الديمقراطي العالمي في موسكو نظمت لنا زيارة لمتحف التاريخ في موسكو. وخلال تجوالي في المتحف شاهدت صورة كبيرة تعرض أعضاء اللجنة المركزية للحزب الشيوعي في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية ومكتبها السياسي بعد المؤتمر الثامن عشر لهذا الحزب في عام 1952، حين أعيد انتخاب جوزيف ستالين (1878-1953) سكرتيراً للجنة المركزية، أي قبل وفاة ستالين بعام واحد، حيث برزت مناقبه الكبيرة على مدى تاريخه الطويل في الحزب ولم يذكر أي شيء عن سيئاته. كنت قد شاهدت هذه الصورة في الصحف قبل ذاك حين نشرت أول مرة بعد انتهاء مؤتمر الحزب الشيوعي السوفييتي. وقد جلب انتباهي أن الصورة التي عرُضت في المتحف حُذفَ منها صورة واسم جوزيف ستالين تماماً. طلبت من مرافقي والمترجم أن يذهب بي إلى مدير المتحف. التقيت المدير في غرفته. طرحت عليه السؤال التالي: ألم يكن ستالين حاضراً وقت التقاط الصورة وكان سكرتير عام الحزب؟ قال بلى. قلت: لماذا إذن حذفتم الصورة واسم ستالين من قائمة الأسماء؟ سكت قليلاً ثم نظر لي بشيء من القلق ثم

قال: هكذا وردتنا التعليمات. ومدير المتحف أستاذ معروف وكبير في علم التاريخ. قلت له: ألم يكن سليما نشر الصورة وفيها ستالين، ثم يشار إلى أعماله الإيجابية والسلبية في حياته الطويلة في الحزب والدولة السوفييتية؟ أليس في هذا النشر والشرح ما يسمح بتعليم الأجيال الجديدة من دروس الماضي القريب للحزب والدولة السوفييتية؟ قال بلى ولكن ما العمل، هذه هي التعليمات وعليَّ أن التزم بها! لقد شعرت ببؤس حالته، وهو العالم حين قال ما العمل هذه هي التعليمات!!!

هذه الواقعة تذكرتها حين صدمت بحالة غريبة أخرى لها علاقة بجوزيف ستالين لم أكن أتوقعها. ولكنها ممكنة الحدوث، وهي محنة بالنسبة للمثقفين والكتاب الذين يشعرون بأهمية الاستقلال الفكري حتى لو كان ملتزما حزبياً.

كتبت مقالاً اقتصادياً واجتماعياً تحت عنوان “ملاحظات على مقال الكاتب البريطاني صاموئيل كاهر…” نشر في موقع الحوار المتمدن والناس وصوت العراق ومركز النور ومواقع أخرى، أُناقش فيه مفهوم اللبرالية والعولمة لكاتبين وصحافيين بريطانيين شيوعيين نشرا مقالاً لهما في جريدة مورننغ ستار البريطانية، جريدة الحزب الشيوعي البريطاني. وقد تضمن المقال في بدايته التطرق إلى نظرية نيقولاي كوندراتييف الموسومة بذات الموجة الطويلة، أي الأزمات التي يمر بها النظام الرأسمالي العالمي بين كل 40-60 سنة، وهي أزمة بنيوية تمر بها الرأسمالية العالمية. وبسبب هذه النظرية وتحليلات الماركسي وعضو الحزب الشيوعي السوفييتي نيقولاي كوندراتييف، سجن الباحث الاقتصادي الفذ ثم اعدم في عام 1938 رمياً بالرصاص. والسبب هو أن ستالين وجهاز الحزب اعتقد بأن هذه النظرية تريد مناقضة الحديث عن الأزمة العامة للرأسمالية. ولم يكن هدف نيقولاي كوندراتييف ذلك، إذ تحدث عن مجمل الأزمات التي تمر بها الرأسمالية على الصعيد العالمي وعلاقتها بالثورة العالمية ضد الرأسمالية.

هذا حدث تاريخي بطابع سياسي، حيث أعدم ومعه في ذات الفترة كثرة من شيوعيي الاتحاد السوفييتي بسبب اختلافهم الفكري والسياسي مع تنظيرات وسياسات ستالين واعتبروا خونة للحزب والدولة السوفييتية، ولم يكونوا كذلك، حيث أعيد الاعتبار للغالبية العظمى منهم بعد وفاة ستالين، ومنهم نيقولاي كوندراتييف حيث أعيد له الاعتبار في عام 1987. هكذا هو أسلوب تعامل المستبدين حتى مع رفاقهم في الحزب حين يبرز الاختلاف أو المنافسة…الخ.

لم يذكر الكاتبان عن وفاة هذا العالم الجليل، ولكن مترجم المقال أشار إلى وفاة العالم وكأنه موت طبيعي، مما تطلب مني توضيح حالة الوفاة.

وفي مجري البحث عن العولمة تطرقت إلى الرئيس الأمريكي وسياساته النيوليبرالية الراهنة التي تدعي العمل من أجل “أمريكا أولاً”، ولكن ما يكمن وراء أمريكا أولاً هي مصالح ذاتية لهذا الرئيس أولاً.

أرسلت هذا المقال، وهو بحث علمي، كما أرى، للنشر في مجلة علمية. خشى الصديق العزيز، الذي أعتز بصداقته واحترم أراءه، من أن المقال يمكن أن يرفض من هيئة التحرير ويفضل عدم عرضه لكي لا يرفض، احتراماً لي. طبعاً هذا الموقف هو تعبير عن رأي الصديق ذاته قبل رأي هيئة التحرير، كما اعتقد. حدث لي هذا مع الصديق والمجلة ذاتها مرة سابقة. لهذا قررت سحبت المقال رغم قناعتي بعدم صواب رأي صديق العزيز، وقمت بنشره مباشرة. مع كل احترامي لهذا الرأي أختلف معه بهذا الصدد تماماً، وأعتقد أن هذا الأسلوب لم يعد مقبولاً في العصر الذي نمر به عالمياً.

علم التاريخ يبحث في أحداث الماضي السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفكرية والبيئة والعسكرية …الخ، ويعرض الحالة وما حصل، وهل ما حصل كان سليماً حتى في وقت وقوع تلك الأحداث وليس بمعايير اليوم أم خطأً. والعلم في خلفيته سياسة، فالسياسة الاقتصادية تعبر عن طبيعة النظام السياسي القائم في البلاد، إذ أن السياسة والاقتصاد هما

وجهان لعملة واحدة، وبالتالي حين تتحدث كعالم عن الاقتصاد لا يمكنك فصله عن السياسة وعن طبيعة الحكم القائم.

كنت لسنوات استاذا جامعياً في العراق والجزائر، كنت رئيساً لتحرير مجلة الاقتصادي التي تصدرها جمعية الاقتصاديين العراقيين، وهي مجلة علمية، وكنت عضواً في هيئة تحرير الثقافة الجديدة ورئيس تحرير لسنوات لجريدة طريق الشعب، كما كنت ولا زلت أدعي مشاركة متواضعة في البحث العلمي، ضمن الباحثين العلميين والناشرين، كما أشرفت على رسائل دكتوراه وماجتسير. وبالتالي فمن غير المعقول أن لا أميز بين البحث العلمي، دع عنك الأكاديمي، والبحث السياسي الصرف. لهذا اعتقد أن هذا الاتجاه في منع النشر بذريعة السياسة الذي أشار إليه الصديق العزيز خاطئ ومؤذي للبحث العلمي، كما أرى، في حالة استمراره.

يجب أن لا نخشى ذكر الحقائق التاريخية حتى لو مسَّتنا كأشخاص أو قوى أو أحزاب سياسية أو حتى دول كنا ومازلنا نحترم تراثها الإيجابي وننتقد سلبياتها، فالحقيقة، وأن كانت نسبية ولها وجوه عدة، ولكن هناك ضرورة لقول الحقيقة التي يراها الكاتب، لأنها تتضمن تجارب ودروساً كثيرة لا يجوز إغفالها أو التغطية عليها لصالح المستقبلِ.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here