الجســـــر ..!

قصة: نبيل عودة

زار وزير أشغال عربي دولة أوروبية، ونظرا لأن الزيارة من المستوى الاستراتيجي الأول، لن نستطيع تقديم معلومات تدل على سعادة الوزير والدولة التي يمثلها، حفظاً على أمن سعادته من المؤامرات الصهيونية والقوى المعادية للعرب والإسلام.

بعد الاستقبال والضم والقبل على الخدين، ثم العشاء وشرب الانخاب بالسر، لأنها محرمة، (رسميا فقط) على الوزير العربي، نام الوزير من التاسعة مساء حتى الثانية عشرة ظهر اليوم التالي، مع ان الموعد مع الوزير الأوروبي في العاشرة صباحاً. ولم تكن هنالك ضرورة قصوى ليجرؤ مستشاره لشؤون العلاقات العامة، كي يقلق نومته الهانئة…

احتراماً للضيف لم يتنفس الوزير الأوروبي… وبلع امتعاضه من هذه الاستهتار بالوقت. الذي قيده وعطل أعماله في رعاية شؤون وزارته.

في الثانية عشرة ظهراً استيقظ سعادة الوزير وتثائب وحمد الله على العناية بأمنه ونومه.

وعلى صوت تثاؤبه، التم حوله موظفو وزارته والمساعدون والمستشارون وهم على أتم جاهزية لخدمته.

بعد ان تجشأ وقحّ بحضورهم، دون أن يسجل ذلك بالبروتوكول، ارتدى بدلته بمساعدة الملحق الثقافي للوزارة، وقام الحلاق، النائب الثالث عشر للمدير العام للوزارة، بتمشيطه وقص الخصلات الزائدة وترتيب شعره المصبوغ بالأسود لإخفاء ما شاب من شعره ودهنه بالزيت ليظهر لمعانه الأسود الذي يشير الى شباب دائم. واختار له المستشار العسكري ربطة العنق المناسبة للقاء الاستراتيجي الهام مع الوزير الأوروبي، وارتدى حذاءه بمساعدة الموظف المسؤول عن التشريفات في الوزارة، وقام مسؤول المشتريات برشه بعطر خاص للرجال، يحتفظ به في الحقيبة الدبلوماسية، وهو إنتاج المستوطنات اليهودية، ورغم المقاطعة العربية، التي تجاوزت فتحاتها فتحة طبقة الأوزون، الا انه عطر الوزير المفضل، فاستورده عن طريق سمسار لبناني صليبي، بعد ان طلب من الشركة المنتجة في تل أبيب بتغيير اسمه ومكان انتاجه عن الإرسالية المخصصة له!

وهكذا، كاملَ الأوصاف، متأخراً أربع ساعات فقط، حسب التقليد القومي، خرج للقاء الوزير الأوروبي الذي كان يحوص في مكتبه ضارباً أخماساً بأسداس، شاغلاً فكره بتأخر الضيف، لدرجة انه بات يظن ان ضيفه قفل راجعاً الى بلاده، ربما بسبب تصرف غير لائق من أحد موظفي مكتبه، وقد كان في حيرة من أمره، قلقاً من ان يتسبب ذلك بأزمة دبلوماسية ومقاطعة الأجبان واللحوم والقمح والشعير للناس والحمير، التي تستوردها دولة سعادة الوزير العربي وسائر الدول الشقيقة، والتي تراكمت ديونها، مما يضطر دولة الوزير الأوروبي الى إجراء تعديل كل عدة سنوات على قائمة الديون، وهذا يعني لمن لا يفهم لغة العلاقات السياسية بين الدول، شطب الدين!.

تحركت قافلة الوزير العربي نحو مبنى الوزارة، بنفس اللحظة كان مدير مكتب الوزير الأوروبي قد وصل للفندق ليستفسر عن التعويق المقلق للوفد العربي برئاسة سعادة الوزير، وقد اطمأن عندما رآه بأبهى ملابسه وسط حاشيته. فسارع يتصل بوزيره ليبلغه ان الوزير العربي ومرافقيه في الطريق لمبنى الوزارة الأوروبية، لعقد لقاء عمل مع الوزير الأوروبي.

كان السجاد الأحمر قد فرش منذ ساعات الصباح، من موقف السيارات حتى مدخل الوزارة. واستعد حراس الشرف بكامل ملابسهم الأنيقة، والفرقة الموسيقية العسكرية أرهقها البرد، انتظاراً للوزير العربي في هذا الطقس البارد وعندما جاءتهم الإشارة ان الوزير بالطريق، بدأوا عزفهم مع بعض النشاز بسبب تجمد أصابعهم.

وصلت القافلة وتنفس الوزير الأوروبي الصعداء. ترجل الوزير العربي بعد ان فتح له مدير الاستيراد في وزارته باب السيارة.

كان وجه الوزير الأوروبي بشوشاً، بعد ان زال قلقه بسبب تعوق الوزير العربي. وتعانق مع الضيف الكبير:

آمل ان تكون قد نمت نوماً هنيئاً ايها الضيف العزيز؟

ابتسم الوزير العربي، وقال معتذراً:

في الواقع لم أغف إلا صباحاً، كنت مشغولاً طوال الليل مع مدير عام الوزارة الذي ظل في الوطن لإدارة أشغالنا الكثيرة. العمل كثير والمشاريع لا تتوقف وكل نصف ساعة تلفون، وقد قررت أخيراً منع الاتصال معي حتى لا تعرف الصهيونية أين أنا، فيتآمروا على العلاقات الأخوية بيننا وعلى الصداقة الوطيدة بين دولتينا، ويمنعوا توطد العلاقات الاقتصادية بيننا وتبادل الخبرات.

اوه بالتأكيد… تفضل.

قال الوزير الأوروبي، مستصعباً فهم هذا التوجس من مؤامرات يسمعها كلما التقى بوزير عربي. ولكنه فضل الصمت، وقاد ضيفة الكبير الى مكتبه في الطبقة الخمسين من مبنى الوزارة.

وبعد تناول فنجان قهوة سادة أعدّها المخطط الاستراتيجي للوزير العربي في مطبخ مكتب الوزير الأوروبي، وهذا حسب بروتوكولات الزيارة المتفق عليها سلفاً، ولكن الوزير الأوروبي لم يستطِب القهوة المرة، مما جعل الوزير العربي يقول في سره: “مسكين، رغم انه وزير الا انه متخلف”. لكن الوزير الأوروبي لم ينبس ببنت شفة متجمطاً بصمت القهوة المرة. وقال:

قبل ان نبدأ جلستانا الرسمية يا سعادة الوزير، تعال سعادتك وانظر من شباك نافذتي الى هذا الجسر الجديد الذي افتتحناه قبل أسبوع، لقد استغرق العمل فيه ثلاث سنوات. وكلفنا ملياراً ونصف يورو، ويعتبر أهم إنجاز لوزارتي في العقد الأخير.

انتقل الوزيران مع الحاشية الى الشباك العريض، فاذا هم أمام منظر رهيب في جماله، شوارع عريضة نظيفة، ومئات السيارات تتحرك بدون توقف، وأبنية تناطح السماء، وجسر يمتد لمسافة عدة كيلومترات فوق النهر، عريض يتسع لثلاث سيارات في كل اتجاه.

جميل جدا (قال الوزير العربي)، بنيتُ في عاصمتنا جسراً شبيهاً له وكلف أيضاً ملياراً ونصف يورو. آمل ان ترد لنا الزيارة قريباً لنأخذك لمشاهدته، والمهم انه نفذ بجهود وطنية وبدون خبراء أجانب، وكان هذا فتحاً في عملي منذ كلفت بالوزارة.

ثم انتقل الوفدان الى طاولة المفاوضات، وكانت الأبحاث سرية، والغريب ان صوت إسرائيل بالعبرية ذكر في نشرته أثناء الاجتماع، ان الوزير العربي في زيارة لوزير أوروبي لطلب معونات لترميم السوق القديم، وشق شارع جديد من بيت الوزير العربي الى الشارع الرئيسي حتى لا تتعثر السيارة الأولدزموبيل بالحفر والمطبات في شوارع البلد، التي يُحافظ عليها لأسباب أمنية تتعلق بالصراع العربي الاسرائيلي… وعليه، رغم معرفة اليهود بالزيارة السرية، الا ان الخبر ظل سراً على المواطن العربي والوزراء العرب في الدول الشقيقة، منعا للمنافسة على المكان الأول في قائمة المساعدات التي تقدم من وزارة الزميل الأوروبي لدولة سعادة الوزير العربي.

اما بقية الأسبوع، فكانت جولات تعرف على المنشآت التي بنتها الوزارة الأوروبية، حيث قضى الوفد أسبوعاً رائعاً في التجول على حساب الدولة الاوروبية، وتذوق أفخر انواع الأجبان واللحوم والأسماك والنبيذ، ولكن بزجاجات كتب عليها عصير تفاح كما اتفق في بروتوكول الزيارة السري. ومما يفرح القلب حقاً، ان الأوروبيين ملتزمون دائماً بنص الاتفاق، الأمر الذي يبعث على التفاؤل بأن تمحى الديون المتراكمة على دولة الوزير العربي، دون نقاش طويل وليسوا مثل الأشقاء العرب، ينقضون الاتفاق بعد ثوان من تحليق الطائرة في طريق العودة الى الوطن. وبالطبع تبقى حقيقة الخمر في زجاجات عصير التفاح سراً!

* * *

بعد عدة أشهر وصل الوزير الأوروبي في زيارة لصديقه الوزير العربي لاستمرار المفاوضات حول التعاون وتبادل الخبرات. وكان الوزير العربي قد عرض مثلاً على زميله الاوروبي ان يرسل المخطط الاستراتيجي في وزارته لتقديم خبراته لحكومة الوزير الاوروبي في طريقة إعداد القهوة العربية السادة، لأنها تحتاج الى مهنية تكنولوجية عالية، وأباريق خاصة، وطريقة إبقائها ساخنة كل الوقت، مما يقتضي تعيين موظف خاص أيضا في قسم التشريفات بالوزارة الأوروبية لشؤون القهوة السادة يكون خبيراً في إشعال الفحم ايضا، لأنه قد يصل وزيرٌ عربي بدون ان يرافقه المسؤول الوزاري عن شرب القهوة، وتقع مشكلة دبلوماسية، وربما تقود الى طرد السفراء المتبادل بين البلدين!!.

كالعادة، استيقظ الوزير الأوروبي باكرا، ولكن الوزير العربي لم يحضر لمكتبة، الا بعد ساعتين من الموعد المتفق عليه. وهمس مستشار الوزير الأوروبي لشؤون العالم العربي: “انه التقليد القومي يا سعادة الوزير، يجب ان تتعود عليه”!!.

آسف يا سعادة الوزير، مشاغلنا مرهقة، قضيت ليلتي أعالج مشكلة عويصة تتعلق بشبكة شوارع جديدة ستكلف الدولة مليارين ونصف المليار يورو، ولا نعرف من سيقدم لنا الدعم المالي، صندوق النقد الدولي يريد ان يشرف على التنفيذ والدفع، ونحن لا نقبل ان يتدخل أحد بشؤوننا الداخلية. هذه وقاحة استعمارية وأيدي الصهيونية الدولية وراءها، ربما تقنعوهم أيضا ان يدفعوا ولا يتدخلوا…؟ ونأمل من حكومتكم بالطبع ان تساعدنا على هذا المشروع القومي العظيم، ونقترح ان نسمي أحد هذه الشوارع باسم دولتكم الصديقة، ليكون نصباً تذكارياً للصداقة والتعاون، سنتحدث عنه في جلستنا.

قال الوزير الأوروبي:

حسنا اعطونا تفاصيل المشروع لندرسه. وستتلقون الجواب عن طريق سفيركم في عاصمتنا.

بالطبع، فكرة جيدة، ولكن سعادتك يجب ان تتأكد بأن مبلغ المساعدة يجب ان يبقى سراً، حتى لا تظن اسرائيل اننا نبني فرناً ذرياً، وان تتأكدوا بان لا تقصف طائرات العدو الصهيوني الشوارع بعد ان ننهي تعبيدها، هذا ما يجعلنا نصر على عدم تحديث شوارعنا، وعدم ترقيع الحفر!

ويبدو ان الوزير الأوروبي عجز عن فهم مخاوف الوزير العربي، فهز رأسه علامة الموافقة. وواصل الوزير العربي:

خرائط المشروع القومي العظيم جاهزة، سأطلب من سكرتيرة مكتبي، الفتاة القملية التي التقيتها قبل دخولك، ان تعد لك نسخاً من المشروع، وربما نسخاً من المشاريع الأخرى، لنوسع التعاون الحضاري بيننا. على فكرة هل لاحظت ان سكرتيرتي أجمل من العجوز الشمطاء في مكتبك؟

قال الوزير الأوروبي:

– سيدي دعنا نتحدث في التعاون، قلت لي انكم بنيتم جسراً كبيرا مثل الجسر الذي شاهدته من غرفة مكتبي؟!

– أجل، سنذهب الى مشاهدته، ما رأيك أن نؤجل الجلسة الى بعد الظهر؟. وربما نتحدث بالطريق ونتفق، وفيما بعد يسجل المعاونون البروتوكول ونوقعه باحتفال خاص يحضره رئيس الجمهورية. ما رأيك؟

وقبل ان يرد الوزير الاوروبي واصل الوزير العربي:

– هلم يا سعادة الوزير الضيف، السيارات جاهزة للبدء في الجولة.

انطلقت قافلة السيارات تسبقها الموتورسيكلات، التي تطلق زعيقها المزعج. ولم يطل الوقت، ربع ساعة ووصلت قافلة السيارات الى ضفة نهر لا يزيد عرضه عن خمسة وعشرين متراً يمتد فوقه جسر حديدي صدئ بالكاد يتسع لسيارة واحدة في اتجاه واحد.. وعند وجود سيارتين، تنتظر سيارة الأخرى حتى تعبر السيارة الأولى. ويمنع عبور المركبات التي يزيد وزنها عن أربعة أطنان.

نزل الوزير الأوروبي وحاشيته من السيارات، وأخذوا يتلفتون حولهم بحثاً عن جسر يشبه الجسر الذي بني في عاصمتهم.. وأخيراً ظنوا انها استراحة ليواصلوا بعدها السفر الى موقع الجسر.. ولكن الوزير العربي جاء ضاحكاً ضحكة كبيرة تمتد من الأذن اليسرى الى الأذن اليمنى. وقال مغبوطاً:

– سعادة الوزير الضيف، هل رأيت الجسر؟

– أين الجسر؟

– انه أمامك.. سلامة نظرك؟

– هذا… هذا تسميه جسراً شبيهاً بجسرناً؟

– من ناحية وقت العمل استغرق العمل فيه ثلاث سنوات ونصف أي أكثر من جسركم، من ناحية الثمن كلف نفس الشيء ومن ناحية البناء بنته الأيدي الوطنية ورفض البنك الدولي الاستعماري ان يدعمنا الا بالقليل، بنصف المبلغ فقط. وكان الحل ان نهرِّب الأفيون الى أوروبا والى أمريكا.. ونزيد الضرائب على المواطنين، ونحصل على دعم مالي من الأشقاء.. وهكذا أنجزناه.

– ولكنه لا يكلف ملياراً ونصف المليار دولار.. الا تبالغ في تقدير التكلفة؟

-هذا صحيح يا سعادة الوزير الضيف.. انت لم تأخذ بالحساب عاداتنا القومية وقيمنا الأخلاقية.

– اذن أين ذهب المبلغ؟

– سؤال وجيه جداً، نصف مليار وزعت على الوزراء وموظفي الدولة الكبار ليقروا المشروع بجلسة الحكومة، بدون إثارة تساؤلات حول حجم الميزانية المقترحة للجسر ليجري تنفيذه على وجه السرعة. ربع مليار للمفاوضات والسفريات من والى البنك الدولي والدول المانحة، اذ كنا مضطرين لسرية المشروع ان نسافر بطائرات خاصة، وتكلفة 100 مليون للمقاولين وتضمن تكلفة الجسر، بالطبع هناك الهدايا والهبات للمؤثرين على القرار، وهناك الولائم و.. و… عصير التفاح الفاخر.

وهناك هبات لبناة الوطن، لأنهم محسوبون على سيادة الرئيس ولا يمكن التساهل بحقوقهم.

– وبقية المبلغ، اين ذهب؟

– لم يتبق كثيراً، تقصد ال 650 مليون يورو، 150 مليون على الموظفين الكبار في الوزارة على إخلاصهم للوطن وجهودهم الكبيرة في تنفيذ المشروع على أكمل وجه، وتزويد الصحف الوطنية والعربية بأخبار تقدم البناء ودور الوزارة والوزير في التقدم الحضاري للدولة بإصراره على تنفيذ المشاريع الضخمة، وانت تعرف ان الصحف لا تنشر الا بالدفع.. وال 500 مليون المتبقية أدخلت الى حسابي البنكي في سويسرا، مقابل أتعابي وعمولتي من تحصيل الأموال من الدول الشقيقة والبنك الدولي، الذي يرفض الآن دعمنا الا بالتدخل في شؤوننا الداخلية. وبالطبع الهدف من الأموال في سويسرا هو هدف وطني قومي من الدرجة الأولى، من أجلة ضمان أمن الوطن والرئيس حبيب الشعب وقائد مسيرته النضالية ضد الاستعمار والصهيونية.

وقبل ان يسأل الوزير الأوروبي سؤالاً لا حقَّ له فيه ويعتبر وقاحة وتدخلاً في شؤون دولة صديقة، انطلق هتاف مستشار الوزير العربي لشؤون الاعلام:

– يسقط البنك الدولي الاستعماري الصهيوني..

وهتف الوفد المرافق للوزير العربي بصوت جهوري قوي أجفل الوزير الأوروبي ووفده:

– يسقط.. يسقط.. يسقط!!

ولم يفهموا سبباً لهذه الجلبة… فآثروا الصمت!!

[email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here