انتفاضة تشرين .. تأملات اقتحام آخر .. للسماء ذاتها ! 1-3

رضا الظاهر

إذن، فقد مر عام على أيام تشرين، العابرة جسور التحدي .. المفعمة بالأمثلة الملهمة .. والمتطلعة الى غد العراق الوضاء ..

ذلك التراكم الكمي للسخط عبر سنوات المعاناة المريرة، وقد أعقبت عقوداً من الاستبداد والحروب والحصار والانحطاط الروحي، أدى الى تحول نوعي في الحراك الاجتماعي .. من شرارة ذلك السخط المتعاظم اندلع لهيب الانتفاضة ونهض الأمل المتقد، دوما، مثل جمرة تحت رماد بلاد لا تعرف أن تستكين .. وكيف لها أن تستكين وقد سالت في دروبها دماء الضحايا، وامتلأت شوارعها بملايين من “مقتحمي السماء”، حملة الرايات الخفاقة، مطلقي الأصوات الصادحة، التي تجول في بلاد الرافدين، وقد تألقت جذوتها، وتحولت الى شبح ترتعد أمامه فرائص اللائذين بالنظام القديم ..

صيرورة مفتوحة الآفاق

هذا، إذن، هو اقتحام آخر للسماء ذاتها .. تمرين الكفاح الذي لن يكون الأخير ..

وحين نحتفي، اليوم، بهذا الحدث الجليل، المتواصل والمتعاظم، فإننا لا نتوقف عند حدود الاستذكار، بل نمضي الى حيث يتعين استثمار هذا الحدث الجاري بعنفوانه، لتقديم اجاباتنا على أسئلة حارقة، وتحقيق غاياتنا بالوسائل الثورية السلمية، ونحن نعرف أن أمامنا طريقا طويلا لا يخلو من الأشواك والانعطافات، لكنه طريق تنيره أمثلة الشهداء الملهمة، والرؤية الواضحة، والاصرار على الوصول الى تلك الضفاف ..

والانتفاضة التي اندلعت في الأول من تشرين الأول (أكتوبر) العام الماضي، وبلغت ذروة في الخامس والعشرين منه، هي صيرورة مفتوحة الآفاق، يصعب الجزم بما ستؤول اليه مصائرها، وتحديد استنتاجات نهائية بشأن عواقبها الاجتماعية والثقافية، مع أنها أسقطت حكومة، وأخلّت بتوازن اجتماعي سياسي، بحيث بات من المتعذر العودة الى الأوضاع التي كانت سائدة قبل اندلاعها، وقدمت، بذلك، دلالة عميقة ودرسا بليغا، من بين دلالات ودروس كثيرة، على أن ارادة الشعب قادرة على الاطاحة بعروش الاستبداد واجتراح المآثر.

ولعل من بين سمات هذه الانتفاضة، التي يمكن النظر اليها باعتبارها ممارسة كفاحية مميزة (سنعود الى هذه السمات والدروس الغنية في موضع لاحق)، أنها قدمت مؤشرات واضحة على تحول نوعي في الوعي السياسي للمجتمع، وخصوصا في أوساط الشباب والنساء والمثقفين، وسط استعداد شعبي أشمل للمشاركة في الانتفاضة.

ومن الجلي أن الانتفاضة لم تنبثق من عدم، وانما جاءت حصيلة لتعمق الأزمة الاجتماعية بتجلياتها المتنوعة على خلفية صراع المصالح من أجل السلطة والثروة والنفوذ. ويصح القول إن الانتفاضة ليست وليدة الصدفة المتلازمة مع العفوية، ذلك أن العوامل الموضوعية هي التي خلقت وعمقت الأزمة الناجمة عن فشل نظام المحاصصة وتفشي الفساد وسوء الادارة ونمط التفكير المتخلف والتدخلات الاقليمية والدولية.

كل هذا دفع الملايين الى مزيد من القناعة بأن طريقة الحكم القائمة عاجزة عن حل معضلات البلاد المستعصية، وانقاذها من الانحدار المأساوي المروع. وغدا واضحا، منذ البداية، أن لا امكانية لإصلاح الأوضاع، ناهيكم عن تغييرها، دون حركة جماهيرية واسعة، متعددة الأشكال الكفاحية، ضاغطة على السلطة من أجل الاستجابة لمطالب المنتفضين العادلة.

موقفنا من الحراك

أما موقف حزبنا الشيوعي من الحراك السياسي الاجتماعي الاحتجاجي فلا يتحدد وفقا لردود الأفعال والاجتهادات الظرفية، وانما “يستند (كما أوردت افتتاحية “طريق الشعب” في عددها ليوم 24 آب 2020) الى مرتكزات مبدئية فكرية وسياسية راسخة، والى قراءة وتحليل دقيقين للأزمة البنيوية المتفاقمة لمنظومة الحكم، القائمة على المحاصصة الطائفية والقومية، حاضنة الفساد وخراب الدولة، ولسبل الخلاص منها، والانطلاق نحو دولة المواطنة والعدالة الاجتماعية، المدنية الديمقراطية، والتي يضطلع فيها الضغط الجماهيري والحراك الاجتماعي والسياسي بدور رئيس في تحقيق ارادة التغيير لمنظومة المحاصصة والفساد”.

وانطلاقا من هذا التحليل ساهم حزبنا في الحركة الاحتجاجية منذ بدايتها في شباط 2011، وعند اندلاع نسختها الجديدة في تشرين أول الماضي أعلن حزبنا انحيازه التام لمطالبها العادلة، مشاركا فيها ومدافعا عنها.

في ضوء المنهجية الماركسية والخبرة الثورية

تعلمنا الماركسية أنه حين تبدأ أعداد غفيرة من الناس بالنشاط فان أول من يؤخذوا على حين غرّة هم ليسوا أولئك الذين كافحوا زمنا مديداً، بل الحكام الغافلون، ذلك أن الطبقة الحاكمة أقنعت نفسها بأن المقاومة مستحيلة، على عكس الثوريين القادرين على التنبؤ بالأحداث والمستعدين لها. وهذا غالبا ما يميز ما يسميه ماركس “الثورة الجميلة”، أي اللحظات الأولى للثورة التي يبدو أنها توحد غالبية المجتمع في النضال ضد النظام القديم، وهو ما تجلى عندما اندلعت انتفاضة تشرين بكل عنفوانها، بحيث بدا أن المجتمع كان، بأسره، موحدا وراء شعار واقعي بسيط: “نريد وطن” !

كما تعلمنا الخبرة الثورية أن دخول الجماهير الحراك بصورة عفوية لا يجعل تنظيم الصراع أقل ضرورة، بل، على العكس، يجعله أكثر أهمية والحاحا. وقد دار في الماركسية نقاش مديد حول المشاركة في الثورات العفوية. وكانت وجهة نظر ماركس تؤكد أن المشاركة ضرورية حتى وإن كان جليا أن الثورة فاشلة، لأن الهدف هو “تدريب الشعب على الثورة”، والارتقاء به الى خوض معركة ظافرة.

هذا ما فعله ماركس حيال كومونة باريس (18 آذار 1871) التي يجب أن تظل دروسها ماثلة أمامنا ونحن نقيّم انتفاضة تشرين، وعلينا أن نستعيد، على الدوام، هذه الخبرة التاريخية التي لا غنى عنها.

وعلى الرغم من أن كومونة باريس لم تستمر اكثر من 72 يوماً، حيث سقط آخر مقاتليها يوم 28 أيار، الا أنها استطاعت، في هذه الأيام القليلة، أن تقدم أغنى الدروس حول مهمات الاطاحة بالنظام القديم وتحرير المجتمع. وأظهرت الكومونة كيف أن البرجوازية لا تلقي السلاح بل تحارب بكل ضراوة أية محاولة لبناء المجتمع الجديد.

لم تقف البرجوازية مكتوفة الأيدي وهي ترى الكومونة تهدد سلطة رأس المال، ورأت أن عليها أن تتحد لمواجهة هذا الخطر، فاتحد أعداء الأمس، بسمارك وتيير، لمواجهة عمال باريس.

أما السبب الرئيسي لهزيمة الكومونة فيكمن في عدم وجود تنظيم مستقل للعمال، بينما كانت أفكار بلانكيوبرودون حول وهم خلود الملكية الصغيرة مهيمنة.

فما هي خلاصة خبرة كومونة باريس ؟ وكيف تجلت بطولة ثوار الكومونة ؟

كان ماركس، كما أشرنا، قد حذر عمال باريس في خريف عام 1870، أي قبل الكومونة بأشهر عدة، من أن أية محاولة لإسقاط الحكومة ستكون حماقة دفع اليها اليأس. ولكن عندما فرضت المعركة الفاصلة وغدت الانتفاضة واقعاً حيّا ماركس الثورة البروليتارية بمنتهى الحماس رغم نذر الشر. ولم يصر ماركس على اتخاذ موقف متحذلق لإدانة الحركة “باعتبارها جاءت في غير أوانها”، كما فعل الماركسي الروسي بليخانوف عندما كتب في تشرين الثاني 1905 مشجعاً نضال العمال والفلاحين، ولكنه أخذ يصرخ بعد كانون الأول 1905 على طريقة الليبراليين “ما كان ينبغي حمل السلاح”.

ولم يكتف ماركس بالتعبير عن الاعجاب الحماسي ببطولة ثوار الكومونة الذين “هبّوا لاقتحام السماء” حسب تعبيره، بل رأى في هذه الحركة الثورية، على الرغم من إخفاقها في تحقيق غاياتها، خبرة تاريخية ذات أهمية عظمى، وخطوة عملية أهم من مئات البرامج والمناقشات.

ووضع ماركس نصب عينيه مهمة تحليل هذه التجربة واستخلاص الدروس منها، وإعادة النظر في أفكاره على ضوئها. وكان “التصحيح” الوحيد الذي رأى ماركس ضرورة ادخاله على “البيان الشيوعي” مستوحى من الخبرة الثورية لكومونة باريس.

وفي آخر مقدمة للطبعة الألمانية الجديدة من “البيان الشيوعي”، والتي تحمل توقيع المؤلفين: ماركس وانجلز، بتاريخ 24 كانون الثاني 1872 يقول المؤلفان إن برنامج البيان الشيوعي “قد عفا الزمن على بعض تفاصيله”. ويضيفان: “لقد أثبتت الكومونة شيئاً واحداً، على وجه الخصوص، وهو أن الطبقة العاملة لا تستطيع، ببساطة، أن تستولي على آلة الدولة الجاهزة وتسخرها لخدمة أهدافها الخاصة”.

وهذه الفقرة الأخيرة اقتبسها المؤلفان من كتاب ماركس (الحرب الأهلية في فرنسا). وهكذا اعتبر ماركس وانجلز أحد الدروس الرئيسية لكومونة باريس يتمتع بأهمية عظمى حملتهما على ادخاله كتصحيح لـ (البيان الشيوعي).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here