إنها الانتفاضة الكبرى في تاريخنا الحديث

رفعة عبد الرزاق محمد

يدرك متتبعو تاريخنا السياسي الحديث أن الانتفاضات الشعبية ضد فساد الحكم أو تبعيته للتوجهات الاستعمارية في العهد الملكي ، كانت من الأحداث الجسيمة التي انتهت بنتائج تاريخية مهمة ، لعل في مقدمتها نشر الوعي الثوري لدى أبناء الشعب العراقي وذيوع روح التحدي والصمود ، وكان هذا الأمر جلياً في التأييد الوطني الكبير الذي أحاط ثورة 14 تموز 1958 حصيلة الانسجام التام بين حركة الضباط الأحرار والجبهة الوطنية الممثلة لأحزاب المعارضة الوطنية التي كانت وراء تلك الانتفاضات الكبيرة .

ويمكن أن نعد انتفاضات سنة 1931 (انتفاضة رسوم البلديات وإضراب المدن العراقية الرئيسة ) وسنة 1948 (وثبة كانون الثاني أو وثبة بورتسموث ) وانتفاضة 1952 ( انتفاضة تشرين الثاني ) وانتفاضة سنة 1956 ( انتفاضة الشعب ضد العدوان الثلاثي على مصر) ، على أنها أشهر تلك الانتفاضات في تاريخنا الحديث .

كان وراء تلك الانتفاضات أحزاب وطنية معارضة للسلطة في العهد الملكي ، تمكنت من تحريك جماهيرها ثم شاركت مختلف طبقات الشعب بها ، كما أن تلك الانتفاضات قدمت عدداً محدوداً من الشهداء لم يتجاوز عدد أصابع اليد في كل انتفاضة ، فضلاً عن أن هذا الحِراك الشعبي لم يستمر إلا أياماً قليلة ، تمخض في اثنتين منها في إسقاط الحكومة ( 1948 سقوط وزارة صالح جبر و1952 بسقوط وزارة مصطفى العمري ) .

أقدم هذه النبذة التاريخية للتذكير بان انتفاضة تشرين الاول 2019 هي الأعظم في تاريخنا الحديث ، ولا يمكن بأي شكل من الأشكال مقارنة أحداثها الخطيرة بما حدث في انتفاضات شعبنا السابقة ( التي توقفت في العهد الجمهوري بسبب طغيان السلطات وقسوتها ) . إن انتفاضة تشرين الأول 2019 تحمل آفاقاً مغايرة وواسعة بكل معالمها عن أحداث الحركة الوطنية في العهد الملكي .

لقد قدمت انتفاضة2019 من الشهداء العدد الكبير ( قدر بنحوسبعمئة شهيد ) ، وهو عدد كبير بكل المقاييس ، وكأن حرباً اهلية قد جرت ، وسجلت ذكريات ثورة تشرين 2019 منذ انبثاقها في الأول من تشرين الأول والأشهر التالية مشاهد من البطولة النادرة لشباب الثورة ، ولم يزل بعضهم في مقتبل العمر ، وكيف تلقوا بصدورهم العارية طلقات الأجهزة الحكومية وذيولها بكل شجاعة وإيثار . ويتذكر القارئ امتلاء المستشفيات القريبة من ساحات الثورة ، وقيل إن جلاوزة السلطة طاردت حتى الجرحى في المشافي .

واستمرت الثورة بأيامها تجذب مختلف طبقات الشعب العراقي حتى امتلأت الساحات الواسعة بأعداد هائلة من المحتجين ، حتى أني رأيت المئات من الأسر العراقية الكريمة حضرت بكل كبرياء وحماس رافعة الشعار الكبير ( نريد وطن ) ، وكان حضورها ومشاركتها الحِراك الشعبي مدعاة فخرها . لقد غابت الأحزاب عن المشهد الثوري العارم ، ولم يفكر أحد من الشبان أو سواهم بتلك الأحزاب قاطبة أو موقفها ، لأن الثورة وروحها الواثبة كانت أكبر من أن تحتويها حركة سياسية أو توجه تنظيمي !

لقد بدأت الثورة التشرينية باحتجاج شبان مطالبين بأبسط حقوقهم ، ولكن بساعات قليلة تحول هذا الاحتجاج الى ثورة عارمة في أكثر مدن العراق، كان الشباب عنصرها الرئيس في الأيام الأولى ، ثم تحولت الى ثورة الجميع ، ليتوارى أزلام السلطة ووجوهها عن المنظر ، وآثروا الهرب بعد الصمت المريب . في الوقت نفسه تطورت فيه المطالب الشعبية الى تغيير حاد في مجمل الحياة السياسية التي أدت الى الفشل الكبير بإدارة الدولة وضياع فرص التطور وتقهقر مستويات العيش الكريم للأكثرية المطلقة من أبناء الشعب ، وكان أن انطلقت شعارات التغيير الكامل بدءاً من إسقاط الحكومة كمطلب عاجل الى المطالبة بانتخابات جديدة وفق نظام انتخابي جديد من شأنه تغيير الوجوه والحركات السياسية الحاكمة .

ومجمل القول إن انتفاضة شعبنا في تشرين الأول 2019 هي الانتفاضة (الثورة)الأكبر في تاريخنا الحديث ، ولا يمكن مقارنة جسامتها بوقائع انتفاضات الشعب السابقة شكلاً ومضموناً ، فتحية لذكراها الأولى ولمبادئها التي لم تزل سارية في العقل والقلب .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here