التدخل الإيراني في العراق.. إلى أين؟

د.عبدالخالق حسين

إن تدخل النظام الإيراني الإسلامي في الشأن العراقي بات واضحاً ومكشوفاً إلى حد أنه حتى الإسلاميين من الشيعة الموالين لإيران اعترفوا به، ولكنهم جعلوا له مبررات، واغلبها غير مقنعة سآتي عليها بعد قليل. بعد نشر مقالي الأخير الموسوم: (هل النظام الإيراني فوق النقد؟)(1)، جرى بيني وبين الصديق العزيز، والباحث الإسلامي، الدكتور غسان نعمان ماهر السامرائي، حوار ضمن مجموعة نقاش، وهو كإسلامي، يفضل العلاقة مع إيران على أمريكا. ونظراً لأهميته، وجدت من المفيد نقل بعض الفقرات من مداخلاته، خاصة لكونه إسلامي معتدل، وأنا كعلماني ديمقراطي ليبرالي، كلانا يريد مصلحة العراق، كل من وجهة نظره وقناعاته الفكرية، و بعد كل ما أصاب العراق من كوارث خلال العقود الخمس الماضية، فمن مصلحته أن يستفيد من إمكانيات أمريكا وكل دول العالم، وبدون معاداة إيران.

علَّق الأخ د. غسان السامرائي على مقالي المشار إليه أعلاه بما يلي:

((أصل الخلاف هو أن جنابك “لا تنتقد إيران وحسب”، ولكنك “تنتقد إيران، و تدعو إلى علاقات جيدة مع أمريكا، وعندها كيف يمكن إهمال المقارنة بين الدولتين وبين علاقة العراق بالدولتين في جوانبها المختلفة؟

((قم بنقد إيران بشكل مستقل والأمر يتغير.. خذ مثلاً، أنا أقول أن إيران:

1- لها سيطرة على الواقع العراقي وبما لا يتناسب مع العلاقة التي يجب أن تكون، وبما لا يرتضيه أي عراقي وطني،

2- من المستحيل أنها [أي إيران]، تحب أن تقوم حكومة قوية، ولا دولة قوية في العراق، لأن حرب الثماني سنوات لا تزال قريبة، ولأن أي دولة لا تحب أن تجاورها دولة قوية على أية حال،

3- من المفيد لها أن تبقى الصناعة العراقية متوقفة، لأن هذا يعني أن الصناعة الإيرانية – حتى “زبالتها” – يمكن تسويقها في العراق،

4- ومن المفيد لها أن تبقى القطاعات الزراعية والحيوانية متعثرة لنفس السبب،

5- ومن المفيد لها أن يبقى القطاع الصحي ناقصاً لأن العراقيين يذهبون إليها للعلاج،

6- ومن المفيد لها أن تبقى الكهرباء على حالها المؤسف كي يبقى العراق يشتري منها الكهرباء،

7- ومن الضروري عندها أن تكون لها أذرع قوية في النظام العراقي الحاكم من أجل ضمان أعلاه كله

8- إضافة إلى أن إيران تريد السيطرة على شيعة العالم كلهم، والعراق هو الأهم منهم جميعاً كما هو معلوم (وكانوا يهيئون السيد محمود الهاشمي رحمه الله لخلافة السيد السيستاني ولكن الأجل لم يمهله).

ويضيف: “هل يكفيك هذا النقد لتعلم أن القضية – عندي على الأقل – هي ليست الدفاع عن إيران تجاه أي نقد، ولكنها النظرة “الأوسع” لما يجري”.)) انتهى

وأنا إذ أشكر الصديق الدكتور السامرائي على ذكر هذه القائمة من المواقف الإيرانية المدمرة للعراق، فأجبته بالتالي:

ومن كل ما تفضلتم، نعرف أن النظام الإيراني رغم إسلاميته وتشيعه، يريد تحويل العراق إلى دولة ضعيفة وفاشلة، وباختصار شديد إلى خرابة، بل وحتى إلى مكب لـ”زبالتها”، على حد تعبيره.

فماذا نريد أكثر مما تفضلتم، لنقول أن إيران من ألد أعداء العراق؟

فهل نتجاوز الحقيقة إذا قلنا أن إيران تريد تحويل العراق إلى دولة فاشلة تعتمد في كل احتياجاتها الغذائية والصناعية والكهربائية، وحتى الخدمات الصحية، على إيران؟؟ ومع كل هذه الشرور التي تريدها إيران للعراق يريدني الصديق أن أكون لينا معها…لماذا؟

ولما أجبته بالفقرة أعلاه، رد بذكر مساوئ أمريكا، ومخاطر العلاقة معها، منها: أن أمريكا تريد تدمير العراق، وتمنع إعادة إعماره، وحتى تجهيزه بالكهرباء، بل وألقى اللوم في كل ما يجري في العراق من فساد وتخلف ونقص الخدمات وغيرها على أمريكا. باختصار، وكأغلب أنصار إيران، يرى في أمريكا الشر المطلق أو (الشيطان الأكبر)، وأنه إذا ما قارنا بين شرور أمريكا وشرور إيران، فإن شرور إيران أقل بكثير من شرور أمريكا، لذلك يستنتج أن العلاقة مع إيران أفضل من العلاقة مع أمريكا.

ومن جانبي، أنا لا أرى في أمريكا الشر المطلق كما صورها الصديق. فأمريكا أسقطت النظام الفاشي، وأقامت مكانه نظام ديمقراطي، وبذلت كل ما وسعها لإسقاط الديون التي ورثها العراق من العهد الصدامي الساقط…الخ، لكن العراقيين وتدخلات دول الجوار، وإستقواء القوى السياسية العراقية بهذه الدولة أو تلك، هي التي عرقلت المسيرة الديمقراطية، وأساءت للعراق الجديد. كما إني لا أدعو إلى معاداة إيران، بل أدعو إلى علاقة ندية معها مبنية على المصالح المشتركة وعدم التدخل في الشأن الداخلي.

أما مفهوم الديمقراطية عند العراقيين، فهو مفهوم هيلامي غير واضح، ولكل عراقي بالغ له تصوره الخاص عن الديمقراطية، فإن قلتَ لهم النظام العراقي، أو أي نظام غربي هو ديمقراطي، اعتبروا قولك نكتة سمجة، إذ من الصعب أن تعرف ماذا يريدون بالضبط من النظام الديمقراطي. ومن الجدير بالذكر أنه من الصعب جداً حتى مناقشة هؤلاء فيما يعني النظام الديمقراطي. يرجى مراجعة مقال الدكتور عامر صالح، الموسوم: (الحوار مع من لا يؤمن بالديمقراطية والتعددية هو حوار أصم)(2)

نعم، هناك تجاوزات كبيرة وكثيرة على النظام الديمقراطي، ولكن من هم المتجاوزون؟ أليسوا هم المليشيات الولائية (نسبة إلى الولاء لإيران)، الذين تجاوزوا على المتظاهرين و قتلوا نحو 600 شهيداً، وجرحوا نحو 6000؟ إضافة إلى اختطاف نحو 53 متظاهراً لحد الآن لا يعرف مصيرهم؟ يرجى مراجعة التقرير الموسوم: (أب عراقي يتحدى ميليشيات إيران بحثا عن ابنه المختطف)(3).

والغريب أن الصديق السامرائي، وكغيره من أنصار إيران، يرون أن حل المشكلة العراقية مرتبط بإسرائيل. وهذا يعني أنه لا بد أن يبقى العراق على هذه الحالة المزرية إلى أن تزول إسرائيل كما يحلمون. والسؤال هنا، هل حقاً بإمكان إيران وحلفائها إزالة إسرائيل في المستقبل المنظور؟ وهل هذا هو حكم السماء العادل أن يبقى العراقيون محرومين من الأمن والاستقرار، والتمتع بثرواتهم، وحقهم في الحياة والعيش الكريم بسلام كبقية شعوب العالم، إلى أن تزول إسرائيل من الوجود؟ وهل كُتب على الشعب العراقي أن يضحي بآخر عراقي لزوال إسرائيل، وحل القضية الفلسطينية؟ وهل هذه الحلول عملية قابلة للتنفيذ؟ وكيف يمكن للعراق أن يحارب ببسالة لتحرير فلسطين وزوال إسرائيل، وهو مريض في غرفة الانعاش بسبب تركة البعث المجرم، وتكالب دول الجوار عليه وتفتيت شعبه؟

أليس من الحكمة أن يهتم العراقيون بمصلحة وطنهم أولاً، وبناء الركائز الاقتصادية، والبنى التحتية قبل كل شيء، ومن ثم يهتموا بمصلحة الآخرين؟

أما مسألة الدعوة لعدم العلاقة مع أمريكا، ناهيك عن معاداتها، فهذا غير ممكن أبداً، لأن العراق الآن هو في حالة خراب شامل لا يمكنه الاستغناء عن أمريكا إطلاقاً كما يطالب به اللوبي الإيراني، وحثالات البعث الساقط وبنوايا خبيثة. فالعراق بأمس الحاجة إلى الدعم الأمريكي، وليست أمريكا بحاجة إلى العراق. هذا العداء الموروث لأمريكا غير مبرر، وهو الذي جلب علينا كل هذا البلاء لعشرات السنين.

لقد حاول رئيس الوزراء الأسبق، السيد نوري المالكي الاستغناء عن أمريكا في عام 2011، فاستجابت وسحبت آخر جنودها من العراق، ولكن ماذا حصل؟ الذي حصل هو الاحتلال الداعشي المتوحش لثلث مساحة العراق، وكل الكوارث الأخرى التي نجمت عن هذا الموقف الخاطئ من أمريكا. لذلك اعتقد جازماً، أنه بدون كسب أمريكا إلى جانب العراق، فنفس السيناريو الداعشي سيعاد ويتكرر بشكل وآخر، إلى أن يتحول العراق إلى أكبر مقبرة في العالم، و خرائب وأنقاض ينعق فيه البوم.

لذلك أعتقد جازماً أن العراق ليس مخيراً في علاقاته الودية مع أمريكا، بل مرغماً ولمصلحته، بسبب الظروف القاهرة التي يعيشها الآن، والتي هي من تركة الحكم القومي العروبي، والبعثي الفاشي الحقير الذي دمر العراق لأربعين سنة من حكمهما الجائر.

كل المبررات التي يعيدها علينا أعداء أمريكا في معاداتها هو أن تاريخ أمريكا كذا وكذا/ وعملت كذا بفيتنام، وكذا بكوبا، إلى آخر الاسطوانة المشروخة المملة، ويهملون الجانب الآخر الإيجابي في الدول التي وقفت مع أمريكا كاليابان وكوريا الجنوبية وعشرات غيرهما، حيث صارت من أقوى الدول المتقدمة اقتصادياً وحضارياً، بينما الدول التي وقفت ضدها صارت خرائب وأنقاض مثل ليبيا واليمن، وسوريا ولبنان، وكوريا الشمالية، والسودان، فهؤلاء يريدون نفس المصير للعراق. وعندئذ ليواصلوا هجومهم على أمريكا ويقولوا: ألم نقل لكم أن أمريكا مجرمة تريد تدمير العراق؟ أيها السادة أنتم تدفعون أمريكا لتدمير العراق بدلاً من الاستفادة منها. ألم تقل الحكمة: (ألف صديق ولا عدو واحد)؟

كذلك أود أن أشير إلى نقطة أخرى أثارها الصديق السامرائي، وهي رقم 8 في قائمته عن مواقف إيران التدميرية من العراق، حيث قال مشكوراً:

((8- هذا وغير، أن إيران تريد السيطرة على شيعة العالم كلهم، والعراق هو الأهم منهم جميعاً كما هو معلوم، وكانوا يهيئون السيد محمود الهاشمي رحمه الله لخلافة السيد السيستاني ولكن الأجل لم يمهله). انتهى

أقول: إن محاولة سيطرة إيران على شيعة العراق ليست جديدة، بل هي تاريخية منذ أن فرض إسماعيل الصفوي التشيع المشوه على الشعب الإيراني بالقوة في أوائل القرن السادس عشر، ولأغراض سياسية ضد الدول العثمانية السنية كما هو معروف.(راجع كتاب المفكر الإيراني الراحل علي شريعتي: التشيع العلوي والتشيع الصفوي). هذه السياسة كانت وبالاً على الشعب العراقي كله (سنة وشيعة)، وما حصل من حروب بين الدولة العثمانية السنية، والدولة الصفوية الشيعية، ودفع ثمنها الشعب العراقي، فأطلقوا الاهزوجة: “بين العجم والروم بلوة ابتلينا”، حيث كانت كلمة الروم تُطلق على الترك. واليوم تطلق على أمريكا.

والجدير بالذكر أن آخر تدخل إيراني في الشأن العراقي هو الهجوم الفج الذي وجهه رئيس تحرير جريدة كيهان الإيرانية، المقرب من المرشد الأعلى، ضد آية الله السيستاني، في محاولة بائسة للنيل منه بسبب طلبه إشرافاً أممياً على انتخابات العراق القادمة، لتكون حرة ونزيهة وذات مصداقية. بينما المسؤول الإيراني يريدها بلا مراقبة أممية لكي يسهل لأنصار إيران التلاعب بالنتائج كما يشتهون. وهذا الهجوم على المرجع الديني كان بمثابة بالون اختبار لجس نبض الشارع العراقي. فلما كان رد الفعل نقداً شديداً من العراقيين، علمانيين وإسلاميين، غيروا الموجة، واعتذر الصحفي الإيراني لسماحة السيد السيستاني، وقال أن نقده كان ناتجاً عن سوء فهم…الخ.(4)

لا شك، وكما أكد الصديق السامرائي أن إيران تحاول أن تفرض على رأس المرجعية الدينية الشيعية شخصاً موالياً لها، أي موالياً لنظام ولاية الفقيه، مكان السيد السيستاني في حالة رحيله، خاصة وأن الإمام السيستاني ضد نظام ولاية الفقيه، ومحترم من جميع مكونات الشعب العراقي، وقواه السياسية لما قام بدور مشرف في حقن الدماء، حيث كان بمثابة صمام أمان للشعب العراقي. وبذلك تريد إيران سيطرة ولي الفقيه على شيعة العراق، وعلى شعبه سيطرة كاملة، لربط مصير العراق بإيران التي تسير نحو الهاوية.

خلاصة القول، وكما ذكرتُ مراراً وتكراراً، أني لا أدعو إلى معاداة إيران، فإيران دولة مجاورة، لنا معها روابط جغرافية، وتاريخية، ودينية ضاربة جذورها بعمق لآلاف السنين. ولكن نريد أن تكون هذه العلاقة مبنية على الندية، والمصالح المشتركة، وعدم التدخل في الشأن الداخلي. بينما إيران الآن تتدخل

في كل صغيرة وكبيرة، وحتى في اختيار من يحكم العراق(6). و تريد أن تفرض على العراق معاداة الدولة العظمى أمريكا التي حررت العراق من أبشع نظام دكتاتوري متوحش، فلولا أمريكا لكان هذا الحكم المتوحش مازال يفتك بالشعب العراقي.

فالذين يدعون العراق إلى معاداة أمريكا، ومواجهة دموية محسومة النتائج، وربط مصيره بإيران ، لا يدركون تبعات هذه السياسة الخطيرة القصيرة النظر، لذلك ندعوهم إلى إعادة النظر في مواقفهم بتروي، ودون انفعالات وتوتر وتشنج، وإطلاق العبارات الجارحة، وكيل الاتهامات الجاهزة بالعمالة لأمريكا وإسرائيل لكل من لا يوافقهم على مواقفهم التدميرية، فهذه الاتهامات أصبحت مضحكة، وشر البلية ما يضحك، وهي سلاح العاجزين. [email protected]

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here