الترجمة و الوحوشية

الترجمة و الوحوشية
اعداد و ترجمة ا.د. كاظم خلف العلي
استاذ اللسانيات و الترجمة
كلية الآداب – جامعة البصرة
[email protected]
من المؤكد أن العنوان “الترجمة و الوحوشية” عنوان جاذب للانتباه في اللغة العربية حصرا ، ففي اللغة الانكليزية ، مثلا ، تحتوي الكثير من مختارات الترجمة و كتب الترجمة التي تتناول الترجمة من سياق ثقافي ما بعد استعماري على دراسات و مقالات و مباحث و إشارات إلى هذه الموضوعة. لقد حرر المنظرون المحدثون دراسة الترجمة من شرنقة المناهج البلاغية و اللغوية ولم تعد تلك المناهج سوى حلقة من حلقات التطور البحثي الترجمي كما تبدي لنا ذلك بوضوح مختارات و مقدمات الدراسات الترجمية التي تتخذ من التسلسل التاريخي سبيلا لها، و كان ذلك هو السبب الذي دفعني للتقدم بمقترح تغيير وجهة برنامج الدراسات العليا في قسم الترجمة بكلية الآداب بجامعة البصرة من “اللغويات و الترجمة” إلى “دراسات الترجمة” حيث أن البرنامج بعنوانه الأخير أكثر رحابة و أفقا و يمكن طالب الدراسات العليا و مشرفه على حد سواء من تناول موضوعات لا حصر لها بدلا من الانكفاء على المشروع اللغوي. و كان من نتائج هيمنة و سطوة المناهج البلاغية و اللغوية لفترة طويلة جدا أنها حجبت رؤية بعض المهتمين بقضايا الترجمة لدينا عما يمكن أن يحققه الباحث في الترجمة باستخدامه رؤى و ادوات حفر معرفية جديدة، و لذلك لم تفاجئني كثيرا أحدى الممتحنات “الضيقات الأفق” لإحدى طالباتي التي تناولت في مشروعها للتخرج موضوعة الوحوشية في الترجمة من التعقيب “شنو لعبان النفس هذا”!
إن مفردة الوحوشية cannibalism التي تعني في جذرها cannibal “آكل لحوم البشر” تشكل اهمية خاصة للدراسات ما بعد استعمارية لأنها تجسد بوضوح الطريقة التي تمثل بها أوربا و الغرب مواطني البلدان التي تستعمرها ، و بهذا التمثيل representation و التنميط stereotypingو بغيرهما (كالتخلف و الوثنية) تحاول أوربا و الغرب تقديم المبرر الأخلاقي لاستمرارهما باستعمار و استعباد البلدان مكلفين نفسيهما بمهمة “تمدين” هذه البلدان. يعرف قاموس أوكسفورد للغة الانكليزية المفردة cannibal تعريفا يمثل بدقة الخطاب الاستعماري كالآتي:
‘A man (esp. a savage) that eats human flesh; a man-eater, an
anthropophagite.
و هو كما نرى تعريف يقسم بني البشر ضمنا الى مجموعتين: مجموعة متوحشة تأكل لحوم البشر و أخرى غير متوحشة ( متحضرة) و لا تأكل لحوم البشر.
و طبقا لبيتر هولم فإن أول ظهور لمفردة cannibals كان في صحيفة أو يوميات كولومبس و يبدو أن كولومبس عانى الأمرين من طريقة تمثيل شعوب “العالم الجديد” التي كانت الرحلات الاستكشافية تقوم بفض عذريتها و براءتها و بدائيتها تمهيدا لنهب ثرواتها ، و كان النصر في النهاية للخطاب الامبريالي الاستعماري الذي جعل من البدائية و الوحوشية مفردتين مترادفتين و ظل واضحا لحد الآن في تمثيل الآخر و اقصاؤه (othering) الهنود الحمر و الاستراليين الاصليين و الأفارقة و العرب و المسلمين و هكذا.
و بحسب سوزان باسنيت و هاريش ترايفيدي في مقدمة الكتاب الذي قاما بتحريره و هو Postcolonial Translation : Theory and Practice فإن الوحوشية برزت للسطح في القرن السادس عشر بقيام قبيلة التوبينامبا Tupinambà في البرازيل بالتهام قس كاثوليكي هو الأب ساردينها و سرعان ما نشر هذا الفعل المحرم بموجب التعاليم المسيحية الرعب في البرتغال و اسبانيا، و إن كان الفعل كما يقولان ليس بغريب على ألأوربيين إذ يذكرنا الباحثان بقصة النبيلة الرومانية بورشيا التي تناولت رماد زوجها في كأس من النبيذ مدعية أن جسمها هو أليق مكان به و بالمسيحية المبنية على رمز التهام جسد المسيح و دمه. و يتخذ الباحثان من سرد هذه الحكاية منطلقا لتناول قضايا أصالة التأليف و تبعية الترجمة و الهيمنة الامبريالية و المستعمرات و النسخ (الترجمة / المستعمرة). فأوربا تمثل الأصل العظيم بينما تمثل المستعمرات ترجمات أو نسخا من هذا الأصل و يستطرد الباحثان بقولهما أنه نظرا لكون الترجمات نسخا فإنها موضع تقييم أقل، و من هنا نشأت اسطورة الترجمة التي تقلل من شأن الأصل العظيم.
و يورد عالم الترجمة ادون غنتزلر في دراسته ” الترجمة و الدراسات ما بعد استعمارية و الامريكيتين ” أصل مصطلح الوحوشية بقوله أنه يرجع لأول لقاء تم بين المستكشفين البرتغاليين و الفرنسيين و الإسبانيين و قبائل التوبي الهندية ( و منها المقولة Tupi or not tubi و هي تختلف عن مقولة شيكسبير الشهيرة ). وعملية أكل البشر عند التوبي كما يرى غنتزلر ليست لها علاقة بتصوير الاوربيين للتوبي على انها قبائل وثنية و غير مؤمنة بل على العكس من ذلك فقبائل التوبي قبائل متدينة و عملية الالتهام هي كما ترى تلك القبائل نوع من استعادة الحب و الشرف و التغذية و لا تقوم بها إلا مع الأفاضل و الشجعان من الرجال. فالجندي الأسير لدى التوبي يسمح له أولا بالتعايش مع التوبيين من عوائل و اطفال ليكسبوا منه العادات الحميدة ، و لا تأتي عملية أكل لحمه ببعديها الرمزي و الواقعي إلا في نهاية المطاف ، فبأكل لحم الجندي الشجاع المهزوم تتم عملية تناول قيمه الفضلى و شجاعته الفائقة و امتصاصها يمنح التوبيين قيما روحية و قوة جسدية.
و يرى ادون غنتزلر في دراسته أن الحركة الوحوشية التي تدين بالفضل للبيان الوحوشي Manifesto Antropófago الذي اصدره أوزوالد دي أندريد Oswald de Andrade في العام 1928 اندثرت بعد انطلاقها بفترة قصيرة و لم تعاود الظهور في منتصف الستينات إلا بفضل المترجمين الأخوين اوغستو و هارولدو دي كامبوس و مجموعة من السينمائيين و الموسيقيين و النقاد و المنظرين و منهم اليس فييرا .
تقول فييرا و هي من أبرز مناصري الوحوشية في دراسة لها بعنوان “Liberating the Calibans ” : الوحوشية في الحقيقة مجاز مستعار من طقوس الأهالي حيث أن التغذي على أحدهم أو مص دم أحدهم ، كما يفعلون مع حيوانهم الطوطمي ، كان وسيلة لامتصاص قوة الآخر، و هو إلماح الى ذات مشروع المجموعة الوحوشية الذي لا يهدف إلى الغاء المؤثرات أو التغذية الأجنبية بل إلى امتصاصها و تحويلها بإضافة المدخلات المحلية . و البيان الوحوشي الذي يستعمل في الاساس المجاز كسلاح لفظي لاذع يؤكد على الطبيعة القمعية للاستعمارية… و في سياق محاولته الواضحة لتحرير الثقافة البرازيلية من الاستعمارية الذهنية يعيد البيان (الوحوشي) توجيه مسار السيرة التاريخية المتمركزة أوربيا . فالعالم الجديد، بواسطة الثورة الكاريبية المستمرة ، يصبح مصدر الثورات و التغييرات ، و العالم القديم مدين بالفضل للعالم الجديد الذي لولاه لم تملك أوربا حتى اعلانها البائس لحقوق الانسان.
و يبرز غنتزلر (و آخرون) دور هارولدو الريادي في قيادة الحركة الوحوشية و يشيد بنتاجه الذي يزيد على أثني عشر ديوانا شعريا و ثمانية عشر كتابا نقديا و أربع عشر ترجمة و العديد من المقالات في مجالات عدة . و في الترجمة التي يراها دي كامبوس عبارة عن عملية نقل دم يكون التأكيد فيها على صحة و تغذية المترجم و على أنها حوار يجري بين طرفين يكون المترجم فيه بالغ القوة بوصفه قارئا و كاتبا حرا اشتق دي كامبوس عددا كبيرا من المصطلحات لتوصيف الترجمة فهي transcreation و recreation و transtextualization و transparaization و transillumination و transluciferation mefistofáustica .
لكن كيف يتجلى الأسلوب الوحوشي في الترجمة ؟ يجيب غنتزلر على ذلك بقوله أن “المترجمين الوحوشيين” لا يختلفون عن المترجمات الجندريات و عن لورنس فينوتي في التلاعب بالنص خدمة لأغراضهم الخاصة إذ يبرز في ترجماتهم استخدام التوريات و الغموض و الرنين الصوتي والإحالات إلى لغات متعددة و المفارقة و المحاكاة الساخرة. و كما يرى غنتزلر فإن المترجمين و الكتاب البرازيليين بإعادة تأويلهم و كتابتهم و ترجمتهم لثقافتهم الخاصة و بإدماج العناصر الايجابية من الثقافتين الاوربية و البرازيلية و بمساءلة المصادر الاوربية المنحازة ضد المجتمعات المحلية نجحوا في خلق نظرية للترجمة و تشكيل هوية غنية تاريخيا و متنوعة ثقافيا و أصيلة نظريا بحيث أنها تتناول العديد من المسائل التي يتم طرحها اليوم في النظرية النقدية الغربية.
لكن الحركة الوحوشية Anthropophagy Movement كما ترى ماري سنيل هورنبي في كتابها The Turns of Translation Studies الصادر في 2006 برزت لأول مرة في البرازيل في عشرينات القرن العشرين بوصفها شكلا من اشكال المقاومة السياسية التي تهدف إلى اعادة اكتشاف جذور المواطنين الاصليين و نبذ القيم الثقافية الاوربية التي فرضتها الحركة الاستعمارية فــ “كان لابد من “التهام” القيم الثقافية للبلدان الصناعية و امتصاصها في الثقافة المحلية”.
و تضيف هورنبي أنه خلال ستينات القرن المنصرم قام كل من الأخوين أوغوستو و هارولدو دي كامبوس باستثمار هذه الافكار و تطويعها في عملهما الشعري مطورين نموذجا ترجميا للعالم الثالث. و هكذا فإنهما استخدما المجاز الوحوشي لا بمعنى تدمير أو الغاء الآخر و تجاهله بل استخدماه بمعنى المصطلح الذي يستخدمه المثقفون العرب اليوم “المثاقفة / التلاقح” ما بين الثقافات الهادف ضمنا لإلغاء التمايز و الهيمنة و العمل بمبدأ المساواة و فرادة كل ثقافة. و عوضا عن التدمير و الإلغاء فإن المنهج الوحوشي يهدف إلى إعادة قراءة الاستعمارية ، و ينتج عن إعادة القراءة هذه مجموعة من الخطابات التي تتحدى تراتبية القوة بين “الأصل” و الترجمة. و هذا بالضبط ، كما تقول هورني، ما تنطلق منه روزماري آروجو في قراءتها للوحوشية مستخدمة المنهج التفكيكي لدريدا، فآروجو تُسائل مركزية اللوغوس الموجودة في التراث الفلسفي الغربي القائمة على الكلمة المكتوبة و ثبات معناها محيلة إيانا إلى مبدأ تايتلر الذي ينص على ” ينبغي أن تعطينا الترجمة نسخة طبق الأصل لمحتوى النص ” ، و هو ما يتقاطع مع وجهة نظر دريدا القائلة بعدم امكانية أن يكون للنص “معنى” ثابتا و نهائيا و أن كل قراءة للنص تنتج ترجمة جديدة. فالمترجم نفسه ، بحسب آروجو التي تقوم بتفكيك مفاهيم مثل “الأصل المقدس” و محاولة اعادة انتاج نوايا الأصلي و الأمانة للنص الأصلي، يقوم بدور المؤلف .
لكن المنهج الوحوشي على قدر انجازاته في ميادين مختلفة من الثقافة البرازيلية تعرض في السنوات الأخيرة لهجوم قاس من عدد من الكتاب البرازيليين بزعامة روبرتو شوارز الذي يعد واحدا من أبرز النقاد البرازيليين المعاصرين. و يستشهد غنتزلر في دراسته المذكورة آنفا بكتاب شوارز Misplaced Ideas: Essays on Brazilian Culture الذي يلمح فيه إلى أن تغيير هارولدو دي كامبوس لموقعه من الوحوشية اantropofagia إلى المثاقفة الترجمية transculturalisation و الترجمة الشيطانية transluciferation يكشف النقاب عن فشل المشروع التحديثي البرازيلي و على وجه الخصوص فشل النخب الفكرية البرازيلية في بناء هويتها الشخصية . فشوارز يرى ، كما ينقل لنا ذلك غنتزلر ، أن التجزئة و الاتكالية بأقصى درجاتها في ميادين الاقتصاد و العمل و التكنولوجيا حلتا محل التكامل و الاندماج و الاستقلال المتبادل ، و هو يؤمن أيضا أن التحديث بواسطة المنهج الوحوشي المرتكز إلى مزج الريف البرازيلي و المدنية الأوربية صعب المنال الى درجة كبيرة و يرقى للطوباوية .
شخصيا و قدر تعلق الأمر بالثقافة العربية فإني أستطيع تلمس الدعوة الى وحوشية في التعامل مع الثقافة الأنكلو – أمريكية بوجه خاص نظرا لما تعرض و يتعرض له العالم العربي من احتلالات و هيمنة و ظلم غير مبرر. لا زال البعض يتهم أوربا القرون الوسطى بسرقة علومنا و فنونا و محو آثارنا و تراثنا في الأندلس و من ذلك يتأتى رفض بعض المترجمين و المؤسسات المعنية بالترجمة الاعتراف بحقوق الملكية الفكرية و منه أيضا دعوة نفر ضال في البلدان الأوربية و الغربية الى تبرير عمليات السرقة المالية (في مراكز الرعاية الاجتماعية و غيرها) تحت مظلة استنقاذ أموال العرب و المسلمين التي سرقها و يسرقها الأوربيون و الغربيون. لكننا نتلمس أيضا دعوات إلى المثاقفة و التلاقح مع الآخر يطلقها مفكرون و كتاب عرب و مسلمون و ربما يكون الدعوة إلى حوار الحضارات بديلا لمفهوم صراع الحضارات الذي طرحه الأمريكي صامويل هتنغتون.
شخصيا أيضا و هذا كلام ينطبق على استراتيجيات الجندريات لا أرى مبررا للتلاعب بالنصوص المراد ترجمتها لا لقدسيتها و إنما بسبب الانطباعات الخاطئة التي سيكونها و يبني عليها القراء و الكتاب و النقاد عنها ، فما معنى قيام جبرا ابراهيم جبرا ، و هو مترجم معروف و كبير و مسيحي ، بترجمة مفردة Christian في الجملة الواردة في مسرحية هاملت (Let the Christian souls live in peace) إلى (المؤمنة) بدلا من (المسيحية) . و أجد نفسي متوافقا مع روبرت آدمز الذي يقول في كتابه Proteus, His Lies, His Truth: Discussions on Literary Translation الصادر في 1973: لا يمكن أن تكون باريس لندن أو نيويورك، لابد أن تكون باريس. و بطلنا لابد أن يكون بيير و ليس بيتر ، و لا بد أن يحتسي الــ aperitif و ليس الكوكتيل و يدخن الغلواز و ليس الكنت و يمشي في ريو دي باك rue de Bac و ليس في الشارع الخلفي Back Street . من ناحية أخرى، فإنه سيكون أبلها إذا قال “I am enchanted, Madam” عند تقديمه لسيدة.
و خلاصة القول أن الحراك الاجتماعي و السياسي و الحضاري يجب أن يفرض نفسه على النصوص خارج عملية الترجمة لا أن تكون الترجمة السبيل لذلك ، فالجندريات و الوحوشيون من المترجمين يجب أن يقوموا بترجمة كتب و دراسات تعكس وجهات نظرهم و اهدافهم الجندرية و الوحوشية لا أن يقوموا هم بلي عنق النص لمصلحة أغراضهم . فإذا ما قالت أحداهن When the painter aims at full recognition of the work, she has to provide the utmost of patience and creativity. فإن استخدامها للضمير المؤنث (she) في العبارة المستقلة عوضا عن الاسم (painter) استخدام صحيح و طبيعي تعبيرا عن هويتها و قناعاتها النسوية ، أما أن تقوم مترجمة ما بعملية الاستبدال بصورة قسرية فذلك غير مبرر و يأتي في غير سياقه الطبيعي.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here