يقظان الحسيني في “شاهدٌ أردت أن أكون”

خالد جواد شبيل

هي مجموعته الشعرية الرابعة، صدرت هذا العام 2020 عن دار الفرات في بابل العراق..ضم غلافها – المزيّن بلوحة معبّرة للفنان بشير مهدي – وقد أصدر مجموعته الأولى ذاكرة الفصول، و ألوِّحُ بقلب أبيض، وأسوارٌ من أسى..بين دفتي “شاهد أردت أن أكون” خمسين قصيدة، غير الإهداء الشاعري الحزين لأخيه حيدر الذي رحل رحيلاً مُبكراً:

“ألمٌ لا يبكي

أيُصدقُه الرمق الأخير؟

لا رمادَ لجمراته يهذي.”

لعل هذه الإهداء يعطي فكرة عن المنحى الفني والإنساني الذي يغمر خاطره الشعري في قصائده ذات الموضوعات المختلفة بين الإرهاصات الذاتية المستمدة من واقعه اليومي في غربته واغترابه وما تطرحه من هموم وجدانية داخلية بما فيها الحنين الى وطن ناءٍ لم ينِ يئن، وحتى في إهدائه الاخواني السابق حيث جعل الجمر معادلاً للألم الصامت لدى أخيه الجلِد المحتضَر حتى يلفظ نفسه الأخير برباطة جأش.. وكذلك في وقوفه مع الحدث التاريخي ذي المغزى الإنساني الشامل للحسين الشهيد الثائر الذي خصّه بأكثر من قصيدة! ..

منذ نحو ثلاث سنوات وأنا أتابع ما ينشره الأستاذ يقظان الحسيني من قصائد نثر، ضمن الموجة العاتية مما ينشره الشباب من الجنسين من قصائد أكثرها غث وأقلها سمين، فقد ظلت قصيدة النثر تراوح مكانها حيث استسهلها الكثيرون وغدت ملاذاً دافئاً لكل من يريد أن يجرّب حظه، والذي ساعد على ذلك أن مواقعَ أختصت بما يصلها من الشبيبة الشاعرة فراحت تشجع وتزجي عليهم بكرم وتمنح شهادات تقويمية لمواهب واعدة!! ثم بدأ السُمّار تنفض مجالسهم وينفرط عِقدهم وهَفَتَ زخم الموجة رويدا..

بيد أن الشاعر يقظان الحسيني من القليل الذي استمر ومع استمراره بدت تتجوهر قصائده وتنشر ضوعها وألقها، لغته تتسم بثراء المفردات وحسن صياغة للعبارات الشعرية وببلاغة مركبة مع حسن التصوير وجمال التركيز وسلامة اللغة بمحمول من أفكار وخيال تصحبه مَسحة غموض يحفز القارىء المتمعن الصبور ويشدُّه الى صياغات مكثفة خالية من الإسفاف والترهل، بل يقود الى عالم ذي آفاق رحبة من الترميز الحي الذي يفضي الى مديات تقارب السوريالية أو تمسها مسّا خفيفا..أقف مع قصيدة “أفق”:

مخاضٌ وضوءٌ

أجنحة واحتمالات

بياضُ حُلْمٍ اختفى

بين الطيّة الأولى للسماء

وبين الأخيرة

….

يفتح ذراعيه

يحتضن الأدلةَ

دون أن تقترب

…..

جسور الهمس

يتفتق منها السراب

وينفضُّ منها بيسر

أصواتٌ تذوب

وجِهاتٌ تتشكّلُ

يبوح لها العُشبُ

أزمنةٌ وأسئلة

تقصُدُهُ القوافلُ

هو الأفقُ السّور

إنه الحلم وإن شئت هو أضغاث حلم، حين يشعر الإنسان أنه مطوق مسلوب الإرادة تتنازعه أفكار تقترب منه تحمل له التباشير ثم تتبدد، ويرى أشياء تظهر ثم لا تني تختفي.. إنها انعكاس لواقع في لا وعي الإنسان الذي يعبر الغشاء الفاصل فتأتي كوابيس تبدد كل الآمال فالسورعال.. والأضواء هي سراب كلما اقتربت منه يبتعد!! لقد وظف الألفاظ وتفاعلها مع بعضها الذي يُفضي الى أصوات داخلية وبجمل قصيرة سريعة الانثيال تخدم حركة النص وصوره المتحركة..كما سيتضح في قصائد أخرى..

وعلى النسق ذاته وبرؤية سوريالية يرسم شاعرنا يقظان الحسيني لوحة ” طَرقٌ أول”:

نطرقُ الأرض بالخُطى/ فتُسمعنا نبضا/ سرى في شغافها/ تلوح بيد مرتعِشةٍ/ فتقفُ لحظاتُنا مكتوفةَ الأيدي.

إلى أن يقول:

أسمِعنا أيها القدرُ حفيفَ خُطاكَ/ كي نعود الى بداية أخيرة/ الى وجهة أولى/ نلبسُ جلوداً خشنة/ لنرتع في ذات الصُّراخ/ وذات الطَّرْق/ يا لَهون الكلام..

توظيف اللغة وشحن العبارة الشعرية بتمام المعنى دون فجوات أو ترهل والمحافظة على السمت العالي للنص مع التركيز ورهافة الإحساس وخصوبة المخيلة هو من خصائص قصيدة النثر لتحفظ لها ماءها الشعري من جفاف النثر أراه ضرورة ماسة!

وهذا مجتزَأ من قصيدة لها مساق آخر أهدأ وتيرة “طائر القطا” وقد قالت العرب قولا سائراً ” أهدى من القطا” كناية على تذكرها لمسالك الطيران مهما بعدت واهتدائها لوكناتها..وهي (القطاة) طائر حساس وجميل ينفر من أي صوت غريب وقد ألهمت الشاعر مظفر النواب في تكورها كأنها نهد كاعب! وقد أجاد شاعرنا الحسيني في ما قاله فيها حيث يستهل الثصيدة بقول الحسين الشهيد في واقعة الطف:

“لو تُرِك القطا لغفا ونام”

ثم يستأنف:

لو لم تُفزِعِ القطا/ قساوةُ السِهام/ لنامَ تحت ظله الظليل/ لا يُضام/ ولا يُظلمُ الأنام عليك/ لو لم تكن قلبوبُهم غلاظا/ سيوفهم لمّاعة عليك/ رماحهم مسرعة إليك/ لو عاد طفلُك الرضيع/ يستشرف الضفاف/ثم اشتهى شربةَ ماء فرات/ مبشّراً بثأره/ سوف لن يروَّ ع القطا/ مُلقياً عليه بُردة الأمان والندى.

هذه القصيدة تخرج من دائرة قصيدة النثر الى قصيدة التفعيلة (السريعية) وقد وفق الشاعر أيما توفيق إذ أن الأبيات ذات إيقاعات سريعة مع مقابلات بلاغية تقارب واقعة الطف، ومعظم الردات تختار لأبيات من السريع موقعة مع الضرب على الصدور في مواكب المثقفين والشعراء حيث يرددون أشعاراً مناسبة للواقعة الحزينة، لقد أخذت بهذه القصيدة أخذاً ويأتي وصف مشهد تراجيدي حين أمسك الحسين بولده عبد الله الرضيع النازف الدامي وقد أصابه سهم قاتل! لي ملاحظة بسيطة على تعبير “سوف لن” وهما لن يجتمعا لأن ” لن” تكتفي بذاتها نافية للمستقبل ولا حاجة الى “سوف”..

أختتم بنص نثري سردي توصيفي بعنوان ” طائرة ورقية”، يطلقها صاحبها لتصبح ورقة في مهب الريح، فلئن اختار إرثر رامبو “المركب السكران” ينوء بحمله من غلالات ثقيلة من القمح، فإن طائرة شاعرنا يقظان الحسيني هي الأخرى سكرانه فارغة من الحمولة سوى ذؤاباتها التي تتمايل حيث تتمايل الرياح بين اليمين والشمال وبين العلو والهبوط:

ألقى بوريقته ذات الجناحين/وأسرابُ ذؤاباتِها/ المسترسلة/ في فضاء الرؤى/ زهرة الجوز المتفتحة/ هي ليست حَجَرَ نرد/ تشابهت أوجههُه/ المُرقّمة مُسبّقاً/ وتبارت بعشوائيّةٍ متعجِّلة/ هي هفهفت باعتدال/ لمجد يعتلي مجدا.

الشاعر المهندس يقظان الحسيني يمتلك طاقة شعرية وخزين من ثقافة واسعة في ميدان الأدب وخاصة الشعر قديمه وحديثه، مما جعله متمكنا من أداته الشعرية المطبوعة بلا تكلف، وهذه مجموعته الأخيرة لزاخرة بيراعه الشعري الخصب، وأراني لم أستطع الإلمام بخمسين قصيدة فالمجال محدود ولي عودة معه لكي تكتمل الصورة..

19 ت1/ أوكتوبر 2020

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here