أستراتيجيات الترجمة

أستراتيجيات الترجمة
ترجمة: هاشم كاطع لازم – أستاذ مساعد – البصرة
بقلم: لورينس فينوتي Lawrence Venuti
تضم أستراتيجيات الترجمة المهام الأساسية المتمثلة في أختيار النص الأجنبي المزمع ترجمته والعمل على تطوير طريقة معينة لترجمته. وهناك عوامل ثقافية وأقتصادية وسياسية مختلفة تتحكم بمثل تلك المهام. وقد برزت تلك الأسترايجيات المختلفة منذ أمد بعيد ويمكن تقسيمها الى فئتين كبيرتين. أن أي مشروع ترجمي ما ربما يتناغم مع القيم التي تهيمن في الوقت الحاضر على ثقافة اللغة الهدف وينتهج منهجا محافظا بشكل واضح مع النص الأجنبي مع العمل على تخصصه لدعم القوانين المحلية والتوجهات الطباعية والأنحيازات السياسية. ثم أن المشروع الترجمي ربما يتصدى للجانب المهيمن والعمل على تنقيحه من خلال أستعادة النصوص الأجنبية التي أستبعدتها القوانين المحلية وأحياء القيم المتخلفة مثل النصوص القديمة جدا وطرق الترجمة وتشجيع الطرق الجديدة (مثل الأشكال الثقافية الجديدة). وتظهر الأستراتيجيات اللازمة لأنتاج الترجمات بشكل حتمي أستجابة للمواقف الثقافية المحلية. غير أن بعض تلك الأستراتيجيات تعمل على تدجين domesticating النص الأجنبي بشكل متعمد في مايمكن وصف البعض الآخر منها بكونها تعمد للمحافظة على الصبغة الأجنبية للنص أنطلاقا من حافز المحافظة على الأختلافات اللغوية والثقافية من خلال الأبتعاد عن القيم المحلية السائدة.
أستراتيجيات التدجين
لم تكن أستراتيجيات التطويع أو التدجين وليدة اليوم فقد تم الألتزام بها في الأقل منذ ايام روما القديمة حيث أشار نيتشة Nietzche في هذا الشأن :(كانت الترجمة نوعا من الغزو). كما قام شعراء لاتينيون مثل هوراس Horace وبروبرتيوس Propertius بترجمة نصوص يونانية (الى اللغة الرومانية) ، ولم يكن للشعراء الوقت الكافي لتناول الأشياء الشخصية جدا أو مايتعلق على سبيل المثال بمدينة ما أو قرن (نيتشة 1974: ص 137). نتيجة ذلك لم يقتصر عمل المترجمين اللاتينيين على تجاهل المؤشرات المحددة ثقافيا فحسب أنما عمدوا ألى أضافة أشارات ضمنية الى الثقافة الرومانية وأستبدلوا أسم الشاعر اليوناني باسم واحد منهم وقدموا ترجمتهم على أنها نص مكتوب في الأصل باللغة اللاتينية!
ولمثل هذه الأستراتيجيات مؤيدون أقوياء ومؤثرون في التقاليد الترجمية في كل من فرنسا وأنكلترا وخاصة في مستهل العصر الحديث. ويتضح في هذا الشأن أن التدجين يتضمن التقيد بالقوانين الأدبية المحلية في كل من أختيار النص وتطوير منهج ترجمي معين. ورأى (نيكولاس بيروت دي بلانكورت) Nicholas Perrot D’Blancourt ، وهو مترجم فرنسي غزير الأنتاج في ترجمة اللغتين اليونانية واللاتينية، أن ماتتسم به الكتابات النثرية ل (تاسيتوس) Tacitus من أيجاز محكم تدفع المترجم لأن يترجمها بحرية جنبا الى جنب مع الأستعانة بالعبارات الأيضاحية وحذف الأستطرادات في النص بهدف (تحاشي الأضرار برهافة لغتنا وصواب العقل) (1640: توطئة ، نص مترجم). ثم أن القيم المحلية التي أضافتها مثل هذه الأستراتيجية في النص الأجنبي قد صاحبتها أيضا الثقافة الأدبية الأرستقراطية ، (وكان دي بلانكورت قد أهدى ترجمته الى كفيله في البلاط الكاردينال ريجيلو Cardinal Richelieu) ، لكنهما كانا أيضا يتحليان بنزعة قومية واضحة تماما. وقد قام المترجم الأنكليزي السير جون دينهام John Denham بتأثير من دي بلانكورت بترجمة (الكتاب الثاني) من (الأنيادة) في مقاطع شعرية ملحمية مكونة من بيتين تجمعهما قافية واحدة heroic couplets مشددا على أنه (أذا كانت الضرورة تقتضي بأن يتحدث فرجيل Virgil اللغة الأنكليزية فمن المناسب أن يتحدث ليس بصفته واحدا من أبناء هذه الأمة فحسب أنما لابد أن ينتمي الى هذا العصر)(1656: A3r). ولم يعمد كل من دي بلانكورت ودينهام الى أضفاء الصفة العصرية على النصوص التي أدخلاها الى لغتهما المحلية حيث أن كلاهما كانا يسعيان للحفاظ على المعايير الأدبية للنخبة الأجتماعية في ما كانا يؤسسان لهويات ثقافية لأمتيهما استنادا الى الثقافات الأجنبية السالفة (زوبر Zuber 1968؛ فينوتي، 1993a).
وتشكل الأعتبارات الأقتصادية في بعض الأحيان الأساس لأستراتيجية (التدجين) في الترجمة غير أنها تتقيد بالتطورات الثقافية والسياسية القائمة. وأدى النجاح الهائل أحتفاء بصدور النسخة الأنكليزية لرواية الكاتب الأيطالي (أمبرتو أيكو) Umberto Eco الموسومة (أسم الوردة) The Name of the Rose في عام 1983 الى تحفيز الناشرين الأمريكان لمواصلة ترجمة نصوص أجنبية مشابهة من خلال المعارض الدولية للكتاب (مكدويل McDowell ، 1983). غير أن ماساهم في هذا النجاح منقطع النظير لمثل هذه الترجمة هو تعود القراء التام على مثل هذه الرواية وولعهم بمثل هذه الأجناس المحبوبة مثل القصص الرومانسية التاريخية والكتب الأدبية التي تتناول الجريمة والقتل الغامض. وعلى نفس المنوال حظيت روايات الروائي الأيطالي (جيوفاني كواريشي) Giovanni Guaresche بأعلى المبيعات في سوق الترجمة الأنكليزية أبان فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين لأن ماطرحه في رواياته من هجاء اجتماعي للحياة القروية في أيطاليا أنسجم مع القيم الديمقراطية المسيحية ، لذا تقبله القراء الأمريكان الذين كانوا يحاولون استيعاب الدعاية المناوئة للسوفييت في ظل فترة الحرب الباردة. ومثالا على ذلك نقرأ في الكتاب الأول المترجم الى اللغة الأنكليزية للروائي كواريشي أن البطل الرمزي في الرواية كاهن يدخل في مشادات كلامية أيديولوجية مسلّية مع رئيس بلدية شيوعي ثم يخرج فائزا في هذه الجدالات في نهاية المطاف.
أن تطويع الترجمة لموائمة المواصفات المحلية قد أستثمر ، في الغالب ، في خدمة برامج محلية محددة: أستعمارية وأنجيلية وحرفية. لقد قام السير وليم جونز Sir William Jones ، رئيس الجمعية الآسيوية ومدير شركة الهند الشرقية، بترجمة متعلقات (القانون الهندوسي) في عام 1799 الى اللغة الأنكليزية لتعميق تأثير الأستعمار البريطاني ورسم صورة عنصرية للهندوس بأعتبارهم مفسرين لايمكن الوثوق بهم لتاريخم الوطني (نيرانجانا Niranjana ، 1992). ويرى يوجين نايدا Eugene Nida أن تطويع الترجمة لموائمة المواصفات المحلية يساعد البعثات التبشيرية المسيحية ، فقدعمل مستشارا للترجمة لمنظمات يقتصر عملها على نشر الكتاب المقدس وأشرف على عدد كبير من الترجمات التي (تربط المتلقي بأنماط السلوك ذات الصلة في ضوء سياق ثقافته الخاصة به) (1964: ص 159). وقد أتسمت النسخة الأنكليزية لنصوص فرويد المعروفة ب (الطبعة المعيارية) ، 1953 – 1974 ، التي صدرت بمجلدات عديدة، بأستيعاب الفلسفة الوضعية positivism1 التي هيمنت على العلوم الأنسانية في الثقافة الأنكلو أمريكية الأمر الذي سهّل قبول التحليل النفسي في حقل الطب وفي علم النفس الأكاديمي (النظري) (بيتلهايم Beettelheim ، 1983؛ فينوتي 1993B).
أستراتيجيات التغريب
تمت صياغة أول أستراتيجية تغريب في تاريخ الثقافة الألمانية أثناء صياغة أستراتيجيات الترجمة أبان الفترتين الكلاسيكية والرومانسية على الأرجح على يد الفيلسوف وعالم اللاهوت (فريدريك شلايرماخر) Friedrich Schleirmacher (أنظر بيرمن Berman 1992). وفي المحاضرة التي ألقاها شلايرماخر في عام 1813 حول (طرق الترجمة المختلفة) أشار (الى وجود طريقتين فحسب): فأما يعمد المترجم الى ترك المؤلف ينعم يالسلام قدر أستطاعته ويسعى الى أستمالة القاريء، أو أنه يسعى لترك القاريء في سلام قدر المستطاع ويستميل المؤلف اليه (أنظر ليفيفيغ Lefevere ، 1992B: ص 149).وقد أقر شلايرماخر أن غالبية الأعمال الترجمية تعتمد التدجين أي السعي لتقليص النص الأصلي أنطلاقا من الأيمان بأن عرق المترجم أسمى من سائر الأعراق وفق القيم الثقافية للغة المترجم أليها النص مع العمل على أعادة المؤلف الى موطنه الأم. مع ذلك فضّل أستراتيجية التغريب كثيرا مما شكل ضغطا على تلك القيم بهدف تدوين الأختلافات اللغوية والثقافية للنص الأجنبي مع السعي لنقل القاريء الى خارج حدود بلده!
وأعتبر المنظر الفرنسي (أنطوني بيرمن) Antonie Berman (أن ماصدر عن شلايرماخر من أراء يتمحور حول أخلاقيات الترجمة حيث يغدو النص المترجم مكانا يتم فيه أظهار ثقافة الآخر لامحوها). ورغم أن عملية تغريب الترجمة تسعى لأثارة الأحساس بالمسحة الأجنبية فأنها ربما تستجيب بالضرورة لموقف محلي حيث يرجح أن (يجري ذلك لخدمة برنامج ثقافي وسياسي. وشلايرماخر ذاته تنبه الى مثل أستراتيجية الترجمة هذه بأعتبارها ممارسة مهمة في (الحركة القومية البروسية) أبان فترة الحروب النابوليونية فقد شعر أن مثل ذلك التوجه ساعد على اثراء اللغة الالمانية من خلال تطوير أدب نخبوي يخلو من التأثير الفرنسي الذي هيمن فيما بعد على الثقافة الألمانية التي أدركت قدرها التاريخي في الهيمنة العالمية (فينوتي 1991).
وبقدر ماتوصل شلايرماخر الى أن الترجمة تحتل مركز ثقل الأختلاف الثقافي ، وليس التجانس الذي ربما يتضمنه توجهه القومي الأستعماري ، فأنه كان يوصي على نحو فعال بممارسة ترجمية تقلل من شأن أي مفهوم للثقافة الوطنية قوامه اللغة أو اية أجندة محلية. ومن الممكن أن تدل استراتيجية التغريب على أختلاف النص الأجنبي فحسب من خلال أفتراض وجود موقف معارض تجاه المباديء المحلية الأدبية المثيرة للأهتمام والمعايير المهنية وقواعد السلوك الأخلاقية في اللغة الهدف. لذا حين يتم أحياء تغريب الترجمة على يد منظرين ألمان في القرن العشرين من أمثال (رودولف بانوتز) Rudolf Pannwitz و (وولتر بنجامين) Walter Benjamin فأن الأمر يعتبر بمثابة أداة للتجديد الثقافي. ويرى بانوتز (أن المترجم يرتكب خطأ جسيما حين يعمد الى أبقاء الحالة التي تميز لغته الأم بدلا من أتاحة الفرصة لهذه اللغة للتأثر الكبير باللغة الأجنبية) (1917: ص242، النص المترجم).
لقد دل تغريب الترجمة ، في ضوء التقليد الالماني ، الى التقيد الوثيق بالنص الأجنبي، وهذا تمسك بالمعنى الحرفي الذي أفضى ألى أدخال الأعراف الثقافية الأجنبية وتطوير اللهجات والخطابات المتنافرة. وقد أدخل (جوهان هاينريش فوس) Johann Heinrich Voss من خلال ترجمته لكل من الأوديسة Odyssey (1781) والأليادة Iliad (1793) هذا الشكل العروضي الى الشعر الألماني مبرزا المديح الذي كاله غوته من خلال وضع المميزات البلاغية والأيقاعية والعروضية مع استبعاد الشاب الموهوب ذي المعرفة الواسعة (لافيفيغ 1992B: ص77). وقد أفاد فريدريك هولديرلين Friedrick Holderlin من خلال ترجمة (أنتيكونا) Antigone و (الملك أوديب) Oedipus Rex لمؤلفه سوفوكليس Sophocles (1804) من اللهجات القديمة غير المقننة (اللغة الألمانية القديمة واللهجة السوابية 2 Swabian مع العمل على دمج خطابات دينية متنوعة سواء كانت مهيمنة (لوثرية) Lutherian أو ثانوية (تقوية) 3 Pietistic (أنظر جورج شتاينر George Steiner ، 1975: ص 323 – 333؛ بيرمن 1985: ص 93 – 107). ويجسد هولديرلين المخاطرة المترتبة على عدم الفهم الكامنة في أية استراتيجية تغريب. وفي سعيه لتقديم خبرة قراءة مغايرة عمد هولديرلين في ترجماته الى الأبتعاد عن المباديء الأدبية الوطنية بحيث غدت مبهجة وأحيانا عصية على القراءة لمعاصريه. تجدر الأشارة أن التغريب يتطلب أختيار نص أجنبي وطريقة ترجمة لايتوافقان مع القيم الثقافية السائدة في اللغة الهدف. وأبان القرن الثامن عشر قام الدكتور (جون نوت) Dr. John Nott بأصلاح قانون الأداب الأجنبية باللغة الأنكليزية من خلال أستنباط المشاريع الترجمية التي أهتمت كثيرا بقصيدة الحب الغنائية بدلا من الملحمة أوالهجاء وهما النمطان اللذان شاعا في الترجمة حينذاك. وبالفعل قام بترجمة ونشر أعمال كل من (جوهانس سيكندس نيكولايس) Johannes Secundus Nicolais (1775) وبترارك Petrarch (1777) وبوبيرتيوس Propertius (1787) وبونيفونيوس Bonefonius (1797) وكاتاليس Catallus (1785). وقد رفض نوت ماكان يقدمه المترجمون (من أعتبار عال لمشاعر القراء واحاسيسهم) التي كانت تقتضي في بعض الأحيان حذف الأشارات الجنسية الصريحة في قصائد كاتاليس لأنه آمن بأهمية (عدم تحريف التاريخ) (1795: ص 10). وعلى أثر ذلك اثارت ترجمته زوبعة أخلاقية بين النقاد الذين جددوا الهجوم بعد عقود من السنين حين أبدوا أستحسانهم لترجمات (جورج لام) George Lamb المهذبة (1821).
أستراتيجيتا التدجين والتغريب: مقارنة
أن تصنيف المشاريع الترجمية الى تدجينية أو تغريبية يعتمد بوضوح على أعادة بناء مفصل للبنية الثقافية التي يتم في ضوئها انتاج الترجمة والأستفادة منها. فما يمكن أن يكون محليا أو أجنبيا يمكن تحديده بالأشارة الى هرمية القيم المتغيرة في ثقافة اللغة الهدف. فعلى سبيل المثال ربما تشكل الترجمة التغريبية تفسيرا تاريخيا للنص الأجنبي الذي يقف معارضا للرأي النقدي السائد. وفي ضوء الجدل الفكتوري الذي حرض على ترجمة (فرانسيس نيومن) Francis Newman للأليادة (1856) ردا على محاضرات (ماثيو أرنولد) Matthew Arnold في جامعة أوكسفورد بخصوص ترجمة هوميروس (1860) فأن السمة التغريبية في ترجمة نيومن لاتقتصر على أستخدام الألفاظ والأساليب المهجورة للدلالة على الأختلاف التاريخي للنص اليوناني فحسب أنما توجه تلك الترجمة الى تقديم هوميروس بصفته شاعرا شعبيا وليس شاعرا نخبويا. وقد أستخدم نيومن في ترجمته وزن القصيدة الغنائية وأعتمد مفردات قديمة جدا من خلال قراءات واسعة لأجناس أدبية مثل الرواية التاريخية. وأرتأى ارنولد بأن تتم ترجمة هوميروس بأستخدام التفعيلة السداسية hexameters واللغة الأنكليزية الحديثة بهدف جعل الترجمة منسجمة مع التلقي الأكاديمي الحديث للنص اليوناني. وفيما رغب نيومن في مخاطبة جمهور غير أختصاصي وغير أكاديمي يتشكل من فئات أجتماعية مختلفة فأن ارنولد ، على خلاف ذلك ، كان يسعى للتعاطي مع العلماء الكلاسيكيين الذين كانوا ، في منظوره ، يمثلون القراء المؤهلين لوحدهم لأصدار الأحكام على الترجمات من اللغات الكلاسيكية. ,كانت أستراتيجية ترجمة نيومن تتسم بالتغريب لأنها كانت شعبية في توجهها ، أما الترجمة التي كان يفضلها أرنولد فكانت تدجينية لأنها نخبوية حيث كانت تسعى لجعل أفكار هوميروس مشابهة للقيم الأدبية المرتبطة بمؤسسات ثقافية رسمية مثل الجامعات. وغالبا مايمكن تحديد أستراتيجيات الترجمة من خلال مقارنة الترجمات المعاصرة للنص الأجنبي ذاته ، ففي مستهل الستينيات من القرن الماضي ، على سبيل المثال ، كان المترجمان الأمريكيان (نورمن شابيرو) Norman Shapiro و(بول بلاكبيرن) Paul Blackburn عاكفين على ترجمة شعر التروبادور4 troubadour البروفينسي 5 Pronencal ، حيث تبنى شابيرو أستراتيجية تدجينية واستخدم مفردات مفهومة تماما للقراء الأنكليز المعاصرين، مع ذلك كان يميل الى أستخدام العبارات والأساليب المهجورة ذات الصبغة الشعرية المستمدة من التقاليد الشعرية للقرن التسع عشر مثل أستخدامه لعبارة alas, begone, cherished”” (واحسرتاه ، لقد مضى لكنه ظل عالقا في الذهن). ورغم أن بنية شعر شابيرو تهدف الى الأقتراب من مقاطع (فايديت) Faidit الشعرية الموسيقية فأنه سعى في جعل النص البروفينسي مماثلا للأشكال التقليدية التي يفضلها الشعراء الأمريكان البارزون مثل (روبرت لويل) Robert Lowell و (ريتشارد ويلبر) Richard Wilbur اللذان حققا شهرة واسعة أبان فترة الستينيات من القرن الماضي (بيركنز Perkins 1987). أما بلاكبيرن فيتبنى أستراتيجية تغريبية ، فالمفردات التي يستخدمها تمزج اللجة الأنكليزية الفصيحة الحالية مع اللهجة القديمة المهجورة ، فعبارة “to He with” تعني (ممارسة الجنس) وكذلك الألفاظ العامية والكلمات الأجنبية الدخيلة. ورغم أن البنية الشعرية التي تميز شعر بلاكبيرن ، الأيقاعية والمقفاة بشكل متقطع ، تهدف الى الأقتراب من موسيقية المقاطع الشعرية لفايدت ، فأنه ، في الواقع ، يجعل النص البروفينسي مشابها للأشكال المفتوحة التي تروق للشعراء التجريبيين مثل (روبرت كريلي) Robert Creely وتشارلس أولسن Charles Olson اللذين كانا في ذلك الوقت على حافة الثقافة الأدبية الأمريكية (فون هالبيرك Von Hallberg 1985). أن ترجمة شابيرو التدجينية تعتمد على القيم المبدئية التي تعمل سطوتها على تعزيز الوهم كونها تمثل مكافئا دقيقا أو نافذة شفافة لقصيدة فايديت. أما ترجمة بلاكبيرن التغريبية فتستند الى القيم الثانوية(الهامشية) التي تجعل سماتها الغريبة وكأنها ترجمة أنجزت في ثقافة مختلفة وبفترة زمنية مختلفة أيضا. أما التمييز بين أستراتيجيتيهما فيتضح من خلال الأضافات التي يقومان بها للنص البروفينسي ، فشابيرو يجعل ترجمته متناغمة مع الصورة الشعرية المألوفة للعاشق الولهان المتملق من خلال أضافة دلالات الأشتياق اللطيفة وكذلك الشكوى؛ أما بلاكبيرن فيسعى لتحقيق التأثيرات الأقصائية التي تعمل في اللغة الأنكليزية من خلال أضافة التورية.
خلاصة القول أن استراتيجيات الترجمة قد تحققت في الترجمة الأدبية على خلاف الترجمة التقنية ، فالترجمة التقنية تدجينية لأنها تهدف الى دعم البحث العلمي والتفاوض الجيوسياسي والتبادل الأقتصادي وهي مقيدة بمقتضيات التواصل. ولهذا السبب تترجم النصوص الأجنبية بأستخدام اللهجات والتعبيرات الفصيحة لضمان تحقق الوضوح المباشر. أما الترجمة الأدبية فعلى خلاف ذلك تركز على التأثيرات اللغوية التي تتجاوز التواصل البسيط (النبر والمعنى الأيحائي وتعدد المعاني polysemy والتناص) والتي يتم قياسها وفق القيم الأدبية المحلية سواء كانت قانونية اساسية أو هامشية. من هنا بمقدور المترجم الأدبي أن يجرب أختيار النصوص الأجنبية ويطور الترجمة المقيدة في الأساس بالموقف الحالي لثقافة اللغة المصدر.
—————————————————————————————————
1 فلسفة تعنى بالظواهر والوقائع اليقينية مع أهمال أي فكر تجريدي أو ميتافيزيقي. (المترجم)
2 لهجة مقاطعة سوابيا في ألمانيا. (المترجم)
3 ذات علاقة بحركة دينية نشأت في ألمانيا في القرن السابع عشر وأكدت على دراسة الكتاب المقدس وعلى التوجهات الصوفية. (المترجم)
4 ذو صلة بالشعراء الغنائيين الذين ذاعت شهرتهم في جنوب فرنسا وشمال أيطاليا من القرن الحادي عشر الى نهاية القرن الثالث عشر. (المترجم)
5 منسوب الى اقليم بروفانس في فرنسا. (الترجم)

http://docenti.unimc.it/gilliansusan.philip/teaching/2017/17161/files/strategies-of-translation

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here