ارتخاءة الشعر – 17 وما كنت أدري..

ارتخاءة الشعر – 17
وما كنت أدري..
خالد جواد شبيل
أول الكلام:
ما اشتقت الى شاعر كاشتياقي لكُثيَّر عَزّة ت (723م/105ه)، وأراه أشعر شعراء العصر الأموي وفق ابن سلّام الجُمَحي في “طبقات الشعراء”، وقال فيه المَرزُبانيُّ: “كان شاعر أهل الحجاز في الإسلام، لا يُقدِّمون عليه أحدا”.ً
أعود إلى شعره بين الفينة والأخرى، فأكتشف فيه آفاقا لم أكتشفها في سابقاتها، في شعره شيء من الفرزدق (ت114ه/732م) في جزالته ومتانته وهيبته واعتداده بنفسه، وكثيرٌ من جرير ( ت 110ه/728م) في رقته وطلاوته وحسن تصويره، وأكثر من عبدالله بن الدمينة (ت747 م ) في صدقه وروعته وانسيابه.. وشابَهَهُ الشاعر العباسي العباس بن الأحنف (ت 809م) في ديباجة شعره وصدق تشبيبه بيد أنه تعفف من ذكر حبيبته باسمها وإنما صورها بعدة أسماء أشهرها طرّاً فَوْز..
***
حقق ديوانه محقق ثبت وأعني به الدكتور إحسان عباس (ت 2003) الذي رافق التحقيق أعجاب به وتثمين لموهبته العفوية التي لا تعرف التكلف والتي طبعته بها حياة الصحراء المتاخمة للمدينة المنورة ، حيث جابها راعيا للغنم وعرف أماكنها وجنباتها وسهوبها ومنعطفاتها، وحيوانها ونباتها التي وصفها في شعره، فشبّ فيها بليغاً فصيحا على البداهة وجريئاً حاضر الرد، انعكست تلك الرحاب والبقاع في وارد شعره حتى بعد استقراره في المدينة المنورة..وقد وُصف كُثيّر بأنه قصير وبولغ بقِصَره حين قيل طولة ثلاثة أشبار! اسمرُ داكن اللون دميم الوجه رث الهيئة، ولكنه معتد بنفسه قويُّ الجَنان!
دخل على الخليفة عبد الملك بن مروان الذي كان يقرّب اليه الشعراء وكان قد سمع بشاعرنا كُثيَّراً الذي أطبقت شهرته الآفاق، فارسل عليه، فلما دخل فوجىء الخليفة ومن كان معه بهيئة الشاعر كُثيِّر المزرية، الذي غطت موهبته الذائعة على هيئته، فما كان من الخليفة إلا أن بادره بالقول: تسمع بالمُعيدي خيرٌ من أن تراه – والمعيدي طائر قبيح المنظر حسن الصوت – فقال كُثير: مهلا يا أمير المؤمنين، إنما الرجل بأصغريه قلبِه ولسانه فإن نطق نطق ببيان وإن قاتل فاتل بجَنان، وأنشد:
ترى الرجلَ النحيفَ فتزدريه – وفي أثوابه أسدٌ مُزيرُ
ويُعجِبُك الطَّريرَ فتبتليه – فيُخلِفُ ظنَّك الرجلُ الطريرُ
….الخ، والقصدية معروفة ..
فاستشعر الخليفة عبد الملك بن مروان الحرجَ، وامتدح الشاعرَعلى بلاغته وسرعة خاطره واعتذر من الشاعر وقرّبه إليه.
ولم يتأثر بالشاعر كُثيّرٍ مجايلوه من الشعراء وحسب بل أن بشار بن برد (ت 168ه) أخذ من كثيّر بعض المعاني، جيث يقول ابن برد:
إذا أنت لم تشرب مِراراً على القذى – ظمئتَ وأيُّ الناسِ تصفو مشاربُهْ
فعِش واحداُ أو صِلْ أخاك فإنّه – مقارفُ ذنبِ تارةَ ومُجانِبُه
وقد سبقه كثيّر بالقول:
ومن لا يُغَمِّضْ عَينَهُ عن صَديقِـــهِ – وَعَــنْ بَعْضِ ما فيه يَمُتْ وَهُوَ عاتِبُ
ومن يَتَتَبَّــعْ جاهِـــداً كــلَّ عَثْــرَة.. يجدْها ولا يسْلَمْ لـه الدَّهْرَ صاحِبُ

وهناك توارد خواطر، وبلغة الحداثة “تناص” بين جميل بثينة (ت 82ه/701م) حيث يقول:

إذا خدِرت رِجلي وقيل شفاؤها – دعاءُ حبيبٍ كنتِ أنتِ دعائيا

حيث قال كُثيّر:

إذا خَدِرت رِجْلـي ذَكَرْتُــكِ أشتفي – بِذكْــرِكِ مِــنْ خَــدَرٍ بِـهَـاَ فيَهُـونُ

ولكن يبقى كثيّر متفرداً في شعره الملتاع، الذي يتصف بصدق العاطفة والغوص على معاني تفرد بها، وليخرج لنا عميق الفكَر وجميل التصوير ومتين السبك؛ فحين أخلفت عَزّة وعد لقاء كان له أن يكون حميماً لو حدث، تركته عطشانَ قامحاً ليقول بحسرة وأسىً:

قضى كلُّ ذي دين فوفَّى غريمَـــه- وعَزَّة ممطولٌ مُعَنَّى غريمُها
قَضَـى كــــلُّ ذي ديْنٍ وعـزَّةُ خُـلَّـــةٌ – لَــهُ لَم تُنِـلْهُ فهُـوَ عطشـانُ قامحُ

بدأ صدري البيتي بتكرار بلاغي آسر ليكون الرد فب العجزين متنوعين بلفظ وتصوير أخاّذ مع صدق في الأداء.. وحين سألت إحدى سيدات البلاط الأموي أ(مُّ البنين) مُتيِّمةَ شاعرنا عَزّةَ حيث التقتها: ما هذا الديْن؟ قالت: وعدته قُبلة فتحرجتُ منها، فقالت أم البنين: أنجزيها وعليَّ إثمها، وقيل: إن أم البنين أعتقت عن ذلك رقابا..ً
على أن أكثر بيتين حُزنا والتياعا قالهما شاعر عاشق هما ما قالهما الشاعر المتيَّم كُثيَّرعزّة بتصوير العواطف تصويراً يجمع بين التعبير الفني وتصوير وقع الحزن مع جمال اللفظ:

وما كنتُ أدري قبلَ عَزّةّ ما البُكا – ولا موجعاتِ القلبِ حتى تولّتِ
وما أنصفت أمّا النساءُ فبغَّضّت – إلينا وأمّا بالنَوالِ فضَنَّتِ

السابع من ت2/نوفمبر 2020

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here