الهجرات العربية بأتجاه الشرق قديما، حضرموت ودورها المحوري …ز

الهجرات العربية بأتجاه الشرق قديما، حضرموت ودورها المحوري في نقل الثقافة الاسلامية الى اقطار جنوب شرق آسيا (*) ح 6 د. رضا العطار

تحدثنا في الحلقة السابقة عن اخبار الصحافة في بلدان الشرق الاقصى، حيث كانت قد صدرت العديد من الصحف العربية الاسبوعية – كالسلام – في سنغافورة و – حضرموت – في اندونيسيا وقد عفى عليهما الزمن بتقادمه ولم يبق منها من اُثر.

و بمرور الازمان نسي معظم المهاجرين لغتهم وكثير من عادات و تقاليديهم العربية وقليل جدا ممن استطاع ان يحافظ عليها كما كانوا في اول عهدهم، وكان من ابرز هؤلاء المهاجرين العرب الذين بقوا متمسكين بخصالهم الاصلية هو الشاعر الشيخ ابو بكر آل شهاب الذي جاشت لديه مشاعر حياة الغربة إذ عبر عن حنينه الى مسقط راسه حضرموت وشوقه الحراق لرؤية وطنه واحبائه والتمتع بالاحاسيس الحميمية لمجتمعه، يخاطب فيها عياله في القصيدة التالية :

على سلمى وان نأت الخيام * * من المضنى تحية وسلام
تناشدني اترجع عن قريب * * فقلت نعم وللدهر احتكام
ترى هل تجمع الايام شملي * * بها او هل لفرقتنا التئام
اليها قبلتي ولها صلاتي * * وحجي والتنسك والصيام

فشاعرالمهجرالمشرقي لا يتغنّى بالديار والاطلال انما الى منازل العرب ومجدهم قوله:

مدينة سنغافورة حين تبدو * * معالمها ترى السوح الرحيبا
ولم تسمع اذا ما طفت الا * * حماما سمجعا ام عندليبا
من ساكنيها العرب الكرام * * من المجد اكتست بردا قشيبا

تعبر هذه القصيدة عما كان للعرب في تلك الديار من شأن عظيم. والظاهر ان العرب كان لهم من الثقل الاجتماعي وقوة التأثير في المجتمع السنغافوري، كما يتحدث الشاعر عن السوح الرحيبة والسفوح الخضراء حيث يحييها المطر، لتظل ابدا خصيبة.

لم يكن الشعراء العرب في المشرق جميعهم على منوال الشيخ ابو بكر يقرضون قصائد تعبر عن معاناتهم في البعاد والحنين، انما كان هناك ايضا من يهوى ويعشق ويهيم في فتنة الجمال ويتغزل. فبيئة المهاجر في الوطن الجديد وحالته النفسية والاقتصادية والاجتماعية هي التي تحدد مشاعره وحجم السعادة التي يتمتع بها. كهذا الشاعر الذي يتغنى بحبيبته (تقوى) فيقول:

ست الحسان ! لماذا * * سماك اهلك تقوى؟
ففيك طال انتظاري * * وكادت الدار تهوى
نفسي فداك تعالي * * فالوصل كله بر وتقوى

ان الابداع الفني والثقافي ظهر في ادب المهجر المشرقي قبل الف عام قد خضع مع بالغ الاسف الى الاهمال علما ان الظروف الملائمة هناك كانت مشجعة، ولذا ظهر في محيطهم بعض النوابغ الذين ابلوا بلاء حسنا في مجالات العمل و الادب الخلاق، فغدوا اعلاما يشار اليهم بالبنان.

كانت الهجرات العربية المتعاقبة الى ممالك الهند الصينية، هجرات جارفة حملت الاعداد الغفيرة من ابناء العروبة الى اوطان بعيدة، اتسمت بيئتها بالامن والامان والتمتع بشهرة المقام، اذ فسحت تلك الممالك المجال امام القادمين كي ينعموا بالاستقرار وراحة البال، فأظهرت لهم رحابة الصدر المتصفة بالتسامح العقائدي. فكوًنوا شعبا كثير العدد.

لكن المهاجرين الذين حالفهم الحظ ان يفلتوا من ظلم الطغاة ويتخلصوا من الفاقة الاقتصادية في بلدهم الام، سرعان ما اكتشفوا انهم يذوبون تدريجيا في مجتمعات غريبة كبيرة مع تعاقب الزمن، حتى ينتهوا اخيرا في غيبىة ابدية. فلم يبقى ما يربط الاحفاد بجذور ابائهم واجدادهم في الوطن الأم، مثلما لم يبقى لهم من الماضي الا شبح الذكريات
كما حدث لأسرة ( آل حسن) في اندونيسيا مثلا، حيث انطوت انطواء كاملا حتى اصبحت سلالتها لا تعرف الا بأسماء محلية. فغدوا يعرفون بعد اجيال بآل ساسترو.

والبلد العربي الوحيد الذي استفاد شعبه من وراء هجرة ابناءه الى مناطق الشرق الاقصى هو حضرموت، حيث عاد الابناء البررة الى وطنهم بعد اغتراب، طال امده. انهم لم ينسوا جذور منبتهم ولم يتنكروا فضل تربة وطنهم، بل انما كانوا معه دوما على اتصال روحي وثيق. يمدًونه بالمجلات الثقافية بأنتظام و التي كانت تصدر اسبوعيا في بلدان المهجر. فكانوا على بساطتهم يعرفون جيدا – ان للوطن حق عليهم – وان عليهم ايفاء هذا الحق المقدس. هكذا جلبوا معهم من بلد المهجر الاموال التي وفروها والخبرة الفنية التي اكتسبوها والثقافة التي تعلموها الى بلد الأم فساهموا بشوق ونشاط في بناء وطنهم حضرموت، البلد المتأخر شبه الصحراوي، بجهودهم الحثيثة حتى ظهرت فيها بوادر الحياة العصرية.

لكن بعد اكثر من الف سنة من تاريخ الهجرات المشرقية، بدأت هجرة العرب بأتجاه معاكس، اي نحو الغرب وتحديدا الى الأمريكيتين، شمالا وجنوبا، لكن هذه المرة انطلقت الهجرات تحديدا من بلاد الشام بما فيها سوريا ولبنان. .

الحلقة التالية في الغد !
* مقتبس من كتاب دائرة المعارف الاسلامية للباحث حسن الامين بيروت 1990

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here