الجيل الذي يعيش على أمجاد الماضي دون أن يبني شيئاً للحاضر والمستقبل.. جيل خائب فاشل

يعشق كثير من الناس، في هذا الجيل الحاضر، التغني بأمجاد أجداده، والتباهي بالإنجازات العظيمة، التي أنجزها، ويترنم متفاخراً، بالانتصارات الكبيرة، التي حققها أجداده على الروم والفرس والتتار وغيرهم!

فيتيه مختالاً، فخوراً بعبق التاريخ المجيد، ناثراً البخور، والعطر، ليزداد متعة، ولذة، ونشوة، ولينسى آلام الحاضر، ومصائبه، وصروف الزمان، ومتاعبه!

وتجدهم، حينما يستعرضون ذكريات الأيام الخوالي، وما فيها من أعمال جليلة في شتى نواحي الحياة – سواء العسكرية أو العلمية بمختلف فروعها الطب والهندسة والفقه والحديث والقرآن والأدب والعمران وسواها -يتيهون افتخاراً، ويهيمون في نشوة خمرتها المعتقة، اللذيذة، ويترنحون سكارى من طيب ذكراها، وحلاوة أحداثها، وما كان فيها من أمان، وسلام، واطمئنان.

الاعتزاز بالأمجاد الغابرة

إنه لشيء جميل، أن يعتز الإنسان بتراثه، وأمجاده الغابرة، ويفتخر ويتباهى بها على العالمين، بأن له تراثاً عريقاَ، ومجداً تليداً، لأن الذي ليس له تاريخ أصيل، وحضارة قديمة زاهرة، كالشجرة التي اجتثت من جذورها، وألقيت في حاوية القمامة!

ولكن الأجمل أن يستثمر الإنسان، هذا الإرث الحضاري، وهذا التاريخ العبق بالأمجاد، والمآثر الطيبة، فيتخذها حافزاً له، ليبني عليها، أمجاداً أخرى، تفوق الأمجاد القديمة، ويصنع حضارة، أرقى وأعظم، من حضارة أجداده.

أما أن يقف، أمام صرح التاريخ العظيم، مشدوهاً بعظمته، متيماً بحبه، يدبج القصائد، والمعلقات الشعرية، في وصف محاسنه، وجمال بنائه، كالحبيب أو العاشق الولهان، الذي يتغزل بمحبوبته، أو الواقف على الأطلال، يبكي أياماً حلوة، قد مضت وانقضت! كما كان يفعل ذلك الشعراء أيام الجاهلية، مثل: امرؤ القيس، الذي يطلب من رفيقيه، أن يقفا معه للبكاء على أطلال حبيبته

قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ * * * * بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ

ماذا يجدي نفعاً البكاء على الأطلال، أو المديح والثناء لأمجاد درست، وانمحت! وماذا يجدي نفعاً التغني بأمجاد الماضي، التي أكل عليها الدهر وشرب، والتي زالت معالمها، وطمست رسومها!

إن الجيل الذي يكتفي بسرد حكايات، وقصص عن الماضي، وعما صنعه أجداده، من حضارة عريقة، ومن عمران رائع، يأخذ بالألباب، لجماله، وروعة صناعته، ويجلس كالسكران، يهذي ويستعيد الذكريات تلو الذكريات نشوانَ، ولا يستلهم هذا التاريخ العظيم، الحافل بالأمجاد والبطولات، فيبني مثله، أو أعظم منه، لهو جيل تعيس، بئيس، خامل، فاشل!

ما هو المطلوب من الجيل الحالي؟

1- الكف بشكل كامل، عن المديح والثناء للآباء والأجداد، والتغني بأمجادهم، عن طريق القصائد الشعرية، أو الموشحات الأندلسية، أو المسرحيات، ليس من باب الاستهانة بهم، أو الاستخفاف بأمجادهم، أو الاستغناء عن الاستفادة منهم، وإنما لأنه يورث في النفوس، الخمول، والكسل، والقعود عن طلب المعالي، والقناعة بما صنعه الأجداد.

2- البحث والاستقصاء، عن الأسباب التي مكنت الأجداد، من بناء هذا المجد التليد، والحضارة العظيمة، وتحقيق الانتصارات الباهرة على الأعداء، وتبوء مكانة عالية، في العزة، والسؤدد، والكرامة، وفرض احترامهم، وهيبتهم على العالمين.

أسباب نجاح الأجداد في بناء أمجادهم

اتخاذهم الإسلام، ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً، ونظاماً ومنهجاً لإدارة كافة شؤون الحياة السياسية، والتعبدية، والاجتماعية، والعلمية، والصناعية وسواها.

اعتزازهم بأن الإسلام، هو الذي رفع من شأنهم، وأعلى من قيمتهم، فقد كانوا في الجاهلية، قوماً أذلاء خانعين، وخاضعين للفرس أو الروم، كما صور جعفر بن أبي طالب، حالهم قبل الإسلام للنجاشي ملك الحبشة حيث قال:

(أيها الملك، كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيئ الجوار، ويأكل القوي منا، الضعيف، وبقينا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته.. فدعانا إلى الله، لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن واَباؤنا، من دونه، من الحجارة والأوثان.. أمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم، وحقن الدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً، وأن نقيم الصلاة، ونؤتى الزكاة، ونصوم رمضان.. فصدقناه واَمنا به، واتبعناه على ما جاء به من عند الله، فحللنا ما أحل لنا وحرمنا ما حرم علينا).{1}.

تبليغ رسالة ربهم إلى العالمين، عن طريق الجهاد في سبيل الله، وفتح البلاد في المشرق والمغرب عنوة، بعد عرضهم على ملوكها ثلاثة خيارات: إما الدخول في الإسلام، أو دفع الجزية وهم صاغرون، أو المناجزة بالحرب. كما عرضه النعمان بن مقرِّن، على يزدجر ملك فارس فقال:

(إن الله رحمنا، فأرسل إلينا رسولاً، يأمرنا بالخير، وينهانا عن الشر، ووعدنا على إجابته خير الدنيا والآخرة، فعرفنا جميعاً، فضل ما جاء به، على الذي كنا عليه، من العداوة، والضيق! ثم أمرنا أن نبتدئ من يلينا من الأمم، فندعوهم إلى الانصاف، فنحن ندعوكم إلى ديننا، وهو دين حسَّن الحسن، وقبَّح القبيح كله، فإن أبيتم، فأمرٌ من الشر، هو أهون من آخر شر منه، الجزية، فإن أبيتم، فالمناجزة، فإن أجبتم إلى ديننا، خلفنا فيكم كتاب الله، وأقمناكم عليه، على أن تحكموا بأحكامه، ونرجع عنكم، وشأنكم، وبلادكم، وإن بذلتم الجزاء، قبلنا، ومنعناكم، وإلا قاتلناكم).

فتكلم يزدجرد فقال: إني لا أعلم في الأرض، أمة كانت أشقى، ولا أقل عدداَ، ولا أسوأ ذات بين منكم، قد كنا نوكل بكم قرى الضواحي، فيكفوننا أمركم [لا تغزوكم فارس] ولا تطمعوا أن تقوموا لفارس، فإن كان غرر لحقكم، فلا يغرنكم منا، وإن كان الجهد دعاكم، فرضنا لكم قوتاً إلى خصبكم، وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملكنا عليكم ملكاً، يرْفُق بكم).

ثم قال المغيرة بن زرارة بكل عزة وإباء، وشمم، ليزدجرد الذي لم يعهد سابقاً مثل هذا الكلام: (اختر إن شئت، الجزية عن يد وأنت صاغر، وإن شئت السيف، أو تسلم فتُنجِّي نفسك).{2}.

بهذه العزة، والشموخ، والأنفة، والكبرياء التي زرعها الإسلام في قلوب أشقى، وأبأس أهل الأرض في ذلك الوقت الحالك الظلمة قبل الإسلام! استطاعوا تحطيم دولة فارس والروم، والسيطرة على بلادهما، في موقعتي القادسية واليرموك.

فلكي يتمكن هذا الجيل الحاضر التعيس، البئيس، الشقي الذي يمثل نفس الحالة بالضبط التي كان عليها أسلافهم في الجاهلية، قبل الإسلام من مذلة، وهوان، وخضوع، وخنوع للغرب والشرق! عليه أن يدخل في الإسلام من جديد، ويصبح قرآنا يتحرك على الأرض، ويتمثل بأخلاقه، وشمائله، ويخضع خضوعاً كاملاً للواحد الديان، ويستشعر في قلبه، عزة الإسلام، حتى تسري في حناياه، وفي عروقه، كما يسري الدم.

حينئذ سيحقق ما حققه أسلافه، من سيادة على نفسه أولاً، وعلى غيره ثانياً. لأنه الآن، لا يملك من أمره شيئاً، حتى السيادة على نفسه، لا يملكها، وإنما هو: عبد ذليل لمن سواه، يُسيره حسبما يريد!

يجب أن يعلم هذا الجيل علم اليقين، أن الطريق الوحيد والأوحد، لكي يتمكن من استعادة أمجاد أجداده، وتبوء المكانة السامقة، العالية في المجتمع الدولي، والتحرر من سيطرتهم عليه، هو:

العودة إلى الإسلام الحق الصحيح، الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، دون أي تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، والاعتقاد الصادق، بشكل جازم وحاسم، قلبياً وعملياً، بمقولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

(نحن قوم، أعزنا الله بالإسلام، فمهما نبتغي العزة بسواه، أذلنا الله. نحن، ننتصر على أعدائنا بكثرة ذنوبهم، وخطاياهم، وبعبوديتنا له وحده، فإذا تساوت ذنوبنا مع ذنوبهم، كانت لهم الغلبة علينا، بكثرة عددهم وعتادهم).

مقولة ابن الخطاب تلك، يجب تعليقها ليس على الجدران في كل مكان، ليقرأها كل مسلم، فحسب، بل يجب نقشها في قلب كل مسلم، والعمل بها، وتطبيقها على أرض الواقع.

معوقات استعادة الأمجاد الغابرة

توجد بين صفوف الجيل المسلم الحاضر، مجموعات علمانية، ويسارية، وتحررية، ولا دينية، تعمل مثل السوس، الذي ينخر في الأسنان، فيعمل على تفتيتها، وتحطيمها، فتشكك في صلاحية الإسلام، وتصرح علانية.. وبكل وقاحة، وتبجح، وصفاقة، وبلا حياء، ولا خجل، أن الإسلام يجب أن يدفن في المسجد، ويعمل في المسجد فقط .
هذه المجموعات المرتدة، الآبقة، المارقة، قد زرعها أعداء الإسلام، في صفوف المسلمين منذ القرن التاسع عشر، قبل سقوط الدولة العثمانية، وهي التي ساعدتهم في إسقاطها، بتفتيت الصف من الداخل. وهي تشكل اليوم خنجراً مسموماً، في ظهر الجيل المسلم الحاضر، تعمل بكل فاعلية، ونشاط، على إعاقة استعادة الأمجاد الغابرة، كما تعمل على تحطيم، وتمزيق هويته الأصيلة، التي عليها بنى الأجداد أمجادهم.

يجب على جيل اليوم، الانتباه إلى هذه المجموعات الفاسدة الآسنة، وعدم التعاون معها، بذريعة الالتفاف حول صنم الوحدة الوطنية! فلن ينهض الوطن بعقيدة غير عقيدة الإسلام، مهما بذلوا من جهود، فستبوء بالفشل الذريع، وينتكسون! لأن هذه المجموعات، تريد أن تطفئ نور الله بأفواهها، ويأبى الله إلا أن يُتم نوره، ولو كره المشركون.

علاوة على أنها لا تحترم الرأي الآخر، وتعشق الاستبداد، وتحب التحكم والسيطرة على مقاليد الحكم منفردة، وتضمر كل الحقد، والبغض لكل من يذكر اسم الله، بالرغم من ادعائها العريض بالحرية، والديموقراطية والتسامح!

وقد حصل مع الكاتب حادثة طريفة، ومفجعة، يندى لها الجبين! فقد أرسل مقالاً عن الشمال السوري، إلى إحدى المنصات الإعلامية، فنشرته، ومدحت الكاتب لجرأته! ولكن حينما أرسل لها المقال الثاني المكمل للأول، والذي يتحدث فيه عن كيفية جعل الشمال السوري محرراً، رفضت نشره، فلما سألها: لماذا لم تنشره مع أنه أهم من الأول؟ كان الجواب صادماً، ومفجعاً، لأنه يحتوي اسم الله وآياته! علماً بأنها تقول في ميثاقها:

(إن السياسة التحريرية قائمة على ثلاثة مبادئ أساسية، هي التزام الوطنية السورية كمبدأ غير قابل للمساومة، واحترام حرية التفكير والتعبير والحق بالاختلاف).

(طموحنا هو أن تكون صحيفتنا جسراً آخر يعبر عليه السوريون إلى أزمنة أكثر حريةً وعدلاً وكرامةً، وأن تصبح صحيفتنا في زمن ليس بالبعيد، منبر السوريين الأول).

فهم يقولون ما لا يفعلون، فبالرغم من تمجيدهم صنم الوطنية السورية، وسجودهم عند أقدامه! إلا أنهم يكسرونه، حينما يتعلق الأمر بدين الله، فيتبرؤون منه، كما كان يفعل المشركون في الجاهلية.

فلا أمان، ولا عهد لهم، ولا يحفظون إلاً ولا ذمة! فيجب على الجيل المسلم الحاضر، ألا يصدقهم، وألا ينخدع بهم، وألا يمكنهم من الهيمنة عليه، فهم العدو فليحذرهم.

الأربعاء 17/4/1442

2/12/2020

د/ موفق مصطفي السباعي

المصادر:
1. ملة إبراهيم https://sites.google.com/site/melatibrahim/all/jafar
2. الكامل لابن الأثير 2/305-306

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here