صعود وسقوط عازف كمان بارع من الأيام الجميلة !..

بقلم مهدي قاسم
في نهاية الثمانينات و التسعينات ــ بالطبع و الآن أيضا ــ كنت أقوم في أيام الصيف الطويلة بنزهتي اليومية كعادة متأصلة ، من مشية رياضية على امتداد نهر الدانوب في قلب بودابست الحبيبة ! ، حيث كانت المقاهي تتربع على محاذاة ضفة النهر بتألق و ضياء مصابيحها المشعة و الزاهية و أصيص ورودها الزاهية ، ولكن ببساطة و على سجية ، يؤمها ــ على الأغلب ــ سواح أجانب جلهم من الألمان و النمساويين ، وكلما كنتُ اقترب من هذه المقاهي لأمضي عبر الطريق اللصيق و المحاذي لهذه المقاهي ، كانت تستقبلني على بعد أنغام موسيقية تعزفها مجموعة عازفي الكمان بهمة و استغراق وبمهارة رائعة وملفتة بأصالتها الفنية الساحرة ، وهم يدورون حول موائد ضيوف المقهى عزفا سريعا بإيقاعات و أنغام راقصة ، تبعث على شعور بمرح و بهجة عند الحضور أو المارة في آن مع رقص حميم مع سائحات متحمسات وجذلات حول المائدة ، كنتُ أقف أحيانا لدقائق ــ مع تجمع من مارة عابرين مثلي ــ للاستمتاع بالعزف و أصفق بعد انتهاء الوصلة تقديرا وإشادة للفرقة العازفة ثم أمضي لمواصلة نزهتي ، ومع مرور أيام و سنين على هذه الوتيرة تشكلت ــ طبعا عن بعد ــ علاقة نظر ودية بيني وبين أحد العازفين (علاقة تختزلها مختصرة إيماءة رأس بهيئة تحية أو ترحيب رأس ) و الذي يبدو أنه كان منتبها لمروري اليومي و ممتنا لتقديري لعزفهم ، وفي أحيان أخرى كان يرفع بحركة سريعة بأصبعيه محييا إياي بقبعته الجانحة على أذنيه كطائر أسود على وشك انطلاق متأنقا بملابسه الخاصة بالعازفين وهي مكوّنة من صديرة سوداء، قميص أبيض ، و بنطال أسود ، كلها مكوي بكل حرص وعناية ، مع ربطة عنق مرقطة على هيئة فراشة تلتصق برقبته النحيفة كخفاش غاف ، في أثناء ذلك ومع مرور شهور وسنوات قليلة جاء عصف سريع ، كانهيارات قمم ثلوج مباغتة أو سلسلة دومينو متتالية لدول المعسكر الاشتراكي على أثر ضربات معاول غورباتشوف المدمرة ! ، حيث أخذت هذه المقاهي تظهر بحلة جديدة مضفية على نفسها مسحة رأسمالية واضحة وملفتة من خلال ديكورات فخمة وأثاث باذخ ، ومصابيح جديدة أكثر تألقا وشعاعا مرتعشا بذبذبات ملونة تومض كعيون وسيعة على بعد بعيد ، كل ذلك مصحوبا بترحيب مضيفات جميلات يلوّحن بقائمة الطعام داعيات السواح العابرين إلى الدخول مع ابتسامة مهنية و مصنعة ، حيث ثمة عازف بيانو برفقة مغنية بالكاد يُسمع صوتها الخافت وهي تغني مقلدة أغان أمريكية معتادة تبعث على نعاس وتثاؤب ، بدلا من أنغام عازفي الكمان البهيجة و الصدّاحة و الذين أخذوا يختفون شيئا فشيئا ، كأنهم فقدوا مكانهم في هذا العالم الطارئ والجديد و المتقدم سريعا بكل شراسة وهمة ..
ذات مرة لمحتُ من خلال نافذة ترامواي المسرع صاحبنا عازف الكمان واقفا كيتيم ضائع في زحمة من وحشة قاحلة ، يعزف وحيدا ، بملابس عادية و غير مرتبة تبدو عليها مظاهر إهمال وعدم اكتراث ، أمامه قبعته الفارغة هو يتابع المارة بنظراته الملحة و الحزينة ليتوقفوا قليلا ، و يصغوا لعزفه أو ــ على الأقل ــ ليرموا ببضع قطع نقدية إلى قبعته المشرعة لهذه الغاية ..
وكم كانت دهشتي كبيرة عندما رأيته آخر مرة جالسا عند إحدى درجات أنفاق مترو أشبه بهيئة شحاذ : رث الثياب ، أشعث الشعر ، يستعطي الناس بكلمات طيبة ومشجعة لتثير همتهم وعطفهم الإنساني وحملهم على الإحسان إليه ببعض النقود وهو يقول بصوت خجول أقرب إلى نبرة بكاء متهدجة :
ــ ياعاملي الخير تفضلوا بقليل من نقود استعطافا على هذا العازف البارع للكمان من الأيام الجميلة !..
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here