طفل الذئاب وطفل البشر

طفل الذئاب وطفل البشر (*) د. رضا العطار

كثيرا ما نسمع قصص عن اطفال عاشوا في حجور الحيوانات. لكننا نأخذها عادة على مأخذ الاسطورة. نكاد ان لا نصدق. لكن الواقع اثبت ان هناك اطفالا خطفتهم الحيوانات وقامت ( بتربيتهم ) فنشأ هؤلاء الاطفال في الغابة وعاشوا مع الضواري. والذئبة اقرب الحيوانات الى اتخاذ مهمة ( الأمومة ) للطفل البشري . سبب ذلك انها تغزوا القرى والحقول المجاورة. واكثر ما يكون هذا في الليل, واقله في النهار.

فإذا غفلت الأم وتركت طفلها في الحقل, حملته الذئبة كي تفترسه. فإذا تلمس الطفل الرضيع عن طريق الصدفة حلمات ضرعها ورضع منها, تحرك حنو الذئبة غريزيا, فعطفت عليه, وافضت عليه عاطفة الأمومة, مكان عاطفة الجوع والافتراس. وعندئذ تحرص عليه و كأنه ابنها. ويتفق هذا في القليل النادر.

والمعروف ان الرضاع يثير في الام حنانا دون ارادتها. ولذلك يقال, ان المرأة التي تريد ان تتخلص من وليدها عقب الولادة, انما تفعل هذا قبل ان ترضعه, لانها لا تحس حنانا نحوه. فإذا ارضعته, شقّ عليها الانفصال منه, وحنت عليه. وهناك حوادث تم التحقيق فيها, وثبت ثبوتا قاطعا. ان الذئاب خطفت بعض الاطفال, فنشأوا في حجورها, وعاشوا مع الذئاب. وقبل ان أدخل في تفاصيل الموضوع لا بد من تذكير القارئ بهذه المعلومة :

يمتاز تفكيرنا عن تفكير الحيوان بالذكاء. اعني اننا نفكر بالكلمات, صحيح اننا نستطيع التفكير الساذج البدائي بلا كلمات. كما يحدث في الاحلام. ولكن التفكير الذي تتداخل فيه العوامل وتنبسط ساحته يحتاج الى كلمات. ويكاد يكون من المستحيل ان نفكر بذكاء او بمنطق في اي موضوع بدون كلمات. وليس بعيدا ان يكون التفكير في صميمه كلمات غير منطوقة. واعتقد اننا ننسى اختباراتنا في السنين الاولى من اعمارنا. لاننا لم نربط هذه الاختبارات بالكلمات تجعل التفكير فيها ممكنا لأنها لم تنقش في ذاكرة الطفل على شكل كلمات.

كثير ما يكون التفكير الرصين او العبقرية يعود سببها الى الوفرة الوفيرة للكلمات المستعملة التي بلغت من الرقي درجة عالية. لأن الكلمات في هذه اللغة تحمل المعاني الانيقة الدقيقة التي لا توجد في كلمات لغة اخرى متخلفة, كما هي الحالة في لغات بعض مناطق افريقيا السوداء.
فلو ان الاديب الالماني الشهير غوته ولد في قبيلة افريقية, لما استطاع ان ينتج الثمرات الزكية التي نقطفها من مؤلفاته. لأن القبيلة لا تسعفه بالكلمات التي تؤدي معانيه. فالكلمات تبقى معانيها أجنّة كامنة متنحية. تؤلمه بالمخاض ولا تجد المنفذ من ذهنه.
فعدد الكلمات التي يستعملها الاديب الالماني او الانكليزي او الروسي او الفرنسي مثلا قد تتجاوز ربع مليون كلمة, بينما عدد الكلمات التي يستعملها الانسان المتوحش البدائي في غينيا الشمالية في المحيط الهادئ لا يتجاوز مئة كلمة .

ولكي نفكر التفكير الحسن, نحتاج الى اللغة الحسنة, نعني اللغة الدقيقة التي تؤدي معنى معينا لا تتجاوزه الى هوامش المعنى. و ان تكون انيقة فيها بلاغة عصرية لا تقتصر على مخاطبة العواطف بل تخاطب العقول ايضا. ويجب ان تكون غايتها الاولى الفهم. وما دام الامر كذلك فإن المنطق هو الاساس لأية بلاغة يراد بها التعبير السديد. ولكي نفهم الفهم الدقيق باعتبارنا متمدنين, يجب الا نقنع بالمعنى الغامض المسيب, بل يجب ان نعرف الجو السيكلوجي الذي تعيش فيه كلماتنا. وهل هي تؤدي الغاية المرجوة, تهيئ لنا التفكير الصائب, اي الفهم الصحيح ام لا ؟

كان المستر جيسل, مؤلف كتاب – طفل الذئاب وطفل الانسان – يعيش مع زوجته في الهند عام 1920, يدير ملجأ للايتام. وبينما كان في احد الايام يمارس رياضة المشي عند حافة غابة وقت الغسق, شاهد ذئبة مع ( صغيرها ). وعندما استعمل ناظوره تبين له ان الصغير كان بشرا يسلك سلوك الذئبة في الحركة و يجري على اربع, انه كان قد سمع وقرأ قصصا حول هذا الموضوع لكنه كان لا يصدقها رغم تكرارها, لذا عمد الى بندقيته وتعقب الذئبة الى محجرها, فقتل الذئبة وقبض على الصبية التي بدأت تصرخ صراخ الذئاب ووضعها في الملجأ. يرجّح انها ولدت عام 1912, اي ان عمرها كان يقدر بثمان سنوات. ولا يُعرف كيف و متى واين خطفت.

كانت الصبية تنام في النهار, وان نهضت من النوم جلست ووجهها نحو الحائط. فإذا جاء الليل نشطت وصارت تمشي على اربع . كانت تشرب الماء لعقا بلسانها بعد ان تنحني فوقه, ولم تكن تخشى الظلام. وفي ساعة معينة من الليل كانت تعوي عواء الذئاب. واذا اقترب منها احد, كشّرت عن انيابها. وكانت تفتش عن الفضلات وتأكلها. كانت تحب جراء الكلاب وصغار القطط , لكنها كانت تنفر من اطفال البشر.

وبعد الاغراء المستمر والمواظبة على التدريب الذي دام سنتين وقفت على قدميها, واكلت من الطبق بيديها. بدلا من ان تأكل بفمها مباشرة. ولكنها بقت الى هذا التاريخ تلعق الماء. بعد سنتين من التأهيل المكثف تعلمت لفظة – ما – . واذا عطشت و طلبت الماء او جاعت وطلبت الطعام قالت – بهو بهو – . ولم تكن قد نطقت قبل ذلك بكلمة. مع انها كانت تصيح وتصرخ.

وفي عام 1925 شربت من كوب على الطريقة البشرية. وفي عام 1926 بلغ مجموع الكلمات التي تعلمتها عشرين كلمة ومشت مع الاطفال. ورفضت اكل الفضلات. وعندما بلغت 14 سنة ظهر عليها الحياء الغريزي ورفضت الخروج من غرفة نومها بدون كساء. وفي عام 1927 بدأت تخشى الكلاب اذا نبحت, بعدها بسنتين ماتت وعمرها 17 سنة. ولنا في حياة هذه الفتاة الهندية المخطوفة طائفة من العبر والملاحظات :

1 – ان السلوك البشري يستقر في السنوات الخمسة الاولى من الطفولة. واننا بعد ذلك يشق علينا تغيير هذا السلوك. ونعني بالسلوك الاستجابات العاطفية التي ينشأ عنها تصرفنا.
2 – ان ما نسميه طبيعة وغريزة انما هو في احوال كثيرة تعليم وقدوة. حتى بعد
سنوات. فان ذهن هذه الطفلة لم يتفتق الى الدرجة التي كان يبلغها الاطفال عادة في هذه السن. لأن الطفل يولد ولوحة ذهنه مسحاء, تتقبل التعليم الجديد. لكن هذه المسكينة التقت بالبشر ولوحة ذهنها حافلة بالعواطف البهيمية التي بعثتها فيها عشرة الذئاب. ومن هنا صعب تعلمها.
3 – ان اسلوبنا الذي نتخذه في المشي والاكل والشرب كذلك في الخوف والغضب والمرح كل هذا مكتسب وليس وراثي
4 – ان اللغة هي التي تعين لنا السلوك والتصرف البشريين, وهذا هو ما قصدناه في هذا الحديث. فان هذه الفتاة التي قبض عليها وهي في الثامنة أحتاجت الى سنتين كي تتعلم لفظة – ما – وبدا ذكائها يتفتق. فكان استظهار الكلمات ترافقه تغيرات في السلوك. وهذه التغيرات برزت نتيجة نبضات ذهنية ظهرت بفعل التمازج الذي حدث بين الفتاة والبيئة الجديدة.

واللغة هي التي تجعل الزمن تاريخيا. والفضاء جغرافيا. وهذه الفتاة حرمت من اللغة ولهذا حرمت من الفهم. وشرعت تفهم السلوك البشري وتمارسه, بدلا من السلوك الحيواني. حين تعلمت بعض الكلمات. وكانت كل كلمة جديدة تعلمتها, تعين لها فكرة جديدة او عاطفة جديدة ثم سلوكا جديدا.

* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية لمؤلفه الموسوعي سلامه موسى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here