وُلد عزيزا ومات مرذولا !

وُلد عزيزا ومات مرذولا ! د. رضا العطار.

انه لا شك فيه ان المجتمع الذي يورثنا عقائدنا الدينية، وتقاليدنا المتوجة بالاخلاق الفاضلة، هو نفس المجتمع الذي يفسد عقولنا بقصصه الخرافية، وعاداته المضرة، فضلا عن جملة أساطير قديمة بالية، لم يتقبلها انسان متفتح. تلصق بعقولنا طوال اعمارنا، تتحكم في افكارنا وسلوكنا، وهو نفس المجتمع الذي يعطينا المربين والمعلمين والمرشدين كي يوجهوننا الوجهة الرائدة، ثم نحن نجد من الاصدقاء والصحف المحلية والاجنبية والكتب ما تحدد وجهتنا وتأطر طرائق علاقاتنا بهذا المجتمع.

في سنوات حياتي في بغداد خلال القرن الماضي، سمعت قصة صديقين حميمين، عاشا متجاورين في زقاق واحد. وفي نفس العمر، فكانا متصاحبين، لا يفارق احدهما الاخر، الى ان انهيا مرحلة التعليم الابتدائي. فكانا صنوا في درجة الاخلاق والذوق، حيث ان تربيتهما الاسرية كانت متكافئة تقريبا مما جعلت صداقتهما ثابتة ومتينة. لكن بعد هذه المرحلة الدراسية اختلفا ثم افترقا، وظلت اختلافاتهما تنمو وتتكاثر حتى انفصلا عن بعضهما، وبقيا مفترقين مدى الحياة.

فحين كان الاول صغيرا، كان كالعجينة اللينة، تعجن وتصاغ، كان صبيا فاضلا، قويم الاخلاق، لكن عندما خرج عن جادة الصواب وعاشر اصدقاء السوء من صبيان محلته وبدأ يخرج معهم في صبوات غريبة مستنكرة يسرقون خلالها ثمار الاشجار، ويؤلفون الزمر، تسطوا وتضرب الاولاد الشرفاء، متخذا طريق الرذيلة سبيلا له.

كلاهما كان ثريا بالميراث. فكان يكثر السفر الى اوربا، يبدد ماله على اللهو الفاجر، وعندما يعود الى العراق، كان يقضي لياليه الحمراء في حانة مع جمع من السكيرين، يعاقر الخمرة ويأكل بنهم. وفي النهار يتواجد في الريف، يعتدي على عفة نساء قريته، انهم كانوا مساكين مغلوبين على امرهم، لأن لقمة عيشهم كانت في يده.

وصادف انه التقى بصديقه القديم فدعاه الى العشاء، فقبل الدعوة كي يدرس ويعرف الى اين انتهى. فقاده الى حانة، وهناك كان جمع (الاصدقاء) ينتظرونه. فكان ينصت بعناية لحديثهم. كان كله نوادر سخيفة ونكت وسخة خارجة عن الذوق واللياقة، تعكس المستوى المنحط لسلوكيتهم، كانوا خلال ساعات سمرهم يكرعون اقداح العرق ويلتهمون (المزات) بشراهة و كأنهم خراف جائعة اقبلت على معلفها، وشعر صديقه ازائهم بالخجل لانه كان عاجزا ان يسمعهم نكتة تضحكهم، فضلا عن صمته الذي لا يتلائم مع اجواء هذه اللمّة المنحرفة و المشؤومة.

نهضوا بعد منتصف الليل، فشكر الصديق الصالح دعوة صديقه العاهرعلى دعوته ثم غادر، قاصدا داره، وهنا ارتمى على فراشه، وبدأ يفكر ويتأمل ! كيف استكرش صاحبه خلال سنوات معدودة، واصبح بطنه كالقربة المنتفخة. وقد تمثلت صورته امامه وهو متورم الوجه، وكيف كان يتجشأ ويتحرك على الكرسي كأنه جثة فشعر بالقرف. وعاد يتذكر حين كانا صبيين يافعين يلعبان.

وقبل ان يبلغ الضال الاربعين من عمره اصيب بالسمنة المفرطة، شوهت جسمه حتى اعاقت لديه حركة المشي، ثم ظهرت عليه اعراض مرض السكر وارتفع عنده ضغط الدم وزادت عنده نسبة الشحوم الضارة في الدم ( الكولسترول)، لكنه كان لا يدري ولم يشعر ان كبده بدأ يتشمع من جراء الأدمان على الكحول.
فبدأت صحته تتدهور، وكان بعده عن عناية الطبيب كبعده عن القمر. وفي المراحل المتأخرة من مرضه، نصحه احدهم ان يعرض نفسه على طبيب. الذي قال له بضرورة ترك الخمر و تجنب الاكل الكثير، لكنه لم يستجيب، بل تمادى في غيه، فمات دون الخمسين، غير مأسوف عليه.

نعم لقد مات الرجل، وخلال عمره القصير لم يقدم لمجتمعه يوما خدمة تذكر، فلا رحم فقيرا ليذكره بربه، ولا دخل مسجدا ليسمع موعظة ويفكر في حال نفسه، مات لأنه اختار لنفسه طريق الرذيلة، بينما بقى صديق طفولته حيا متمتعا بصحة جيدة وثقافة جليلة ومقام محمود، عاش حتى جاوز الثمانين من عمره.
اختتم مقالي هذا بالابيات التالية لشاعر عراقي قديم، عبرة، لمن اعتبر:

رضيت لنفسك سوأتها * * * ولم تألُ جهدا لمرضاتها
و حسّنت اقبح اعمالها * * * وصغّرت اكبر زلاتها
وكم طريق لأهل الصبا * * * سلكت سبيل غواياتها
فأي دواعي الهوى عفتها * * * ولم تجر في طريق لذاتها
وايّ المحارم لم تنتهك * * * وايّ الفضائح لم تأتها
وهذه النهاية قد اشرقت * * * تريك مخاوف فزعاتها
وقد اقبلتْ بمواعيدها * * * واهوالها، فأخضع للوعاتها

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here