عالم شوقي كريم حسن المدهش قراءة انطباعية في رواية “لُبابة السر”

عالم شوقي كريم حسن المدهش
قراءة انطباعية في رواية “لُبابة السر”

الدكتور صالح الطائي
لا أدري إن كانت علاقة الصداقة بالأديب تؤثر على حيادية الناقد، وتدفعه للتخلي عن بعض ما يراه محتاجا إلى التنويه والإشارة في النص المستهدف، فأنا حتى مع عميق علاقتي الأخوية بالأديب العراقي السومري الكبير شوقي كريم حسن أجد أن للحياد سطوة وقوة رمزية تجعله يفرض نفسه علي، لأني ـ وهذه حقيقة يجب أن تقال ـ حينما أبدا بقراءة منجز لشوقي أجد نفسي اتعامل مع إبداع من نوع خاص، مع منجز يفرض نفسه عليَّ قسرا، ويجرني بعنف إلى عالمه الأسطوري لأخوض تجربة فريدة من نوع خاص، أعيش خلالها مع سحر الكلمة وجزالة العبارة وجمال الفكرة وحسن الصنعة.
وفق هذه المعادلة الميتافيزيقية تجدني حينما أقرأ لشوقي أكاد أسمع وقع حوافر الكلمات وصهيل حروفها يتجسد أمامي حشداً من جمال باذخ لعالم يخلط بين الواقع والأسطورة لتتحول الرواية إلى عالم أثيري تتراءى في اجوائه مسامات الفرح الغامر والحزن العميق يتعانقان مثل عاشقين على سفح نهر جيكور الذي تنكر له الماء وتركه يعيش عذابات الفراق وألم الجفاف مع أنه مترع بجميل الذكريات.
إن عوالم الجمال كثيرة، وجمالها نسبي التعريف، ولكنها كلها تتجسد في مخيالي وانا أهرول خلف الصفحات التي يأبى أصبعي أحياناً أن يقلبها لكيلا يفارق عيني وهج رونقها.
أكثر من مرة قرأت لشوقي، مع أني لا أقرأ الأدب إلا نادرا بسبب قراءاتي الكثيرة والمستمرة في مجال تخصصي البحثي، وفي كل مرة أقرأ له أجد لديه شيئا جديدا يفرض سطوته علي أنا الذي أنهكه الزمان وأصاب الضعف عيونه، فأستمر في القراءة لساعات وساعات حتى أندهش من نفسي كيف أني لم أشعر بالملل.
وآخر ما قرأت لشوقي كانت رواية “لبابة السر”(1) تلك القطعة الأدبية والفنية المدافة بوهج الحكمة، المعجونة بوحي التاريخ الغائر في الروح، والمتعلق في ثنايا القلب وجعا يبحث عن المعرفة في شوارع مدينة مهدمة غادرتها الحضارة، وماتت فيها الحياة، وتلوث هواؤها بحماقة البشر، مدينة أخذ منها الناس أكثر مما أعطوها، مدينة وجدت نفسها بغتة محاطة بآلاف الأعداء، ووجدت نفسها مغسولة بالدم والأحزان (2) مدينة ضميرها آيل إلى السقوط بسبب نزق حكامها وتهتك نسائها ولهو شعبها.
بدا شوقي في هذه الرواية وكأنه ربان يمخر عباب بحر لجيٍّ، عصفت بمركبه الأمواج، وحطمت الصواعقُ ساريته، ومزقت الرياح العاتية شراعه، وأحاطت به القروش والحيتان، وهو غير مهتم لكل ذلك، فراح يبحث عن الحكمة بين الموجات العاتية، يريد المعرفة السامية، ويأمل أن يجدها في الأفق البعيد، فثمة في رأسه أسئلة اتعبت حضوره ولم يعد يشعر بما يدور حوله، ولا يخاف تهديداً مهما كان مصدره.
لقد أراد شوقي أن يقول شيئا آخر غير ما قاله من قبل في كل مؤلفاته السابقة على كثرتها، وفي كل أعماله المسرحية والسينمائية والتلفزيونية، أراد ان يقدم للجميع تجربته الحياتية والفكرية الناضجة حد البذخ، تجربته التي نائت بها سنين عمره، والتي جمع فيها مخارج كل التاريخ يوم جعلها تمتد من حيطان وأسوار مدينة بابل التاريخية، وشوارع مدنها المزدحمة بالترقب، وأيام عبث آلهتها المفتونين بالحكمة والقوة وجمال الغانيات وسماع الموسيقى وأناشيد التهتك والمجون، وإلى اللحظة التاريخية الغامرة التي نعيشها في لحظات عمرنا الراهن بريبة وخوف وترقب وترصد متهدل لكثرة ما استخدمناه، حيث جعل الجميع من أنفسهم حكماء حتى قبل أن يتعلموا القراءة والكتابة. فأراد شوقي من خلال لبابة السر أن يقول لهؤلاء الحكماء المزيفين، وللجميع: إن الحكمة لم تعد رأس مال المفلس والوضيع، يتاجرون بها بغباء، ليكسبوا ثمن كأس خمرٍ ينسون بواسطتها حقيقتهم الزائفة، إنها إشراقة قيم الوجود، تنوء بحملها الجبال الراسيات، وهي وحدها الباقية بعد الفناء، حيث ينسى التاريخ كل ما لا يحمل عوامل الخلود، بما في ذلك أفعال وأعمال الملوك العظماء، ولا يبقي أمامه إلا مشارق أنوار الحكمة البهية؛ التي علمت الخلود كيف يتحدى العوارض، ويديم نار وجوده مستعرة في وجدان الأكوان، لتبقى قيمه وسجاياه مشرقه مثل وجه الله.
أراد شوقي ان يقول من خلال لبابة السر: إن الملِك إنسان يمضي تاركا وراءه أفعالا قد تنسى، وبعمق مسارات الأرباب تتلاشى، عندما لا يكون لأيما شيء أهمية[[[ص49.]]] لكن الحكمة تخلد حتى ولو جاءت على لسان بهلول الفقير المشرد، والدنيا لا زالت إلى اليوم تردد حكم الماضين البتي قالوها منذ آلاف السنين.
أراد شوقي أن يعري الحقيقة ويكشف المستور ويعلن عن مفاجأة العمر، أراد أن يتحدث عن خبرات كل تلك السنين التي خلفها وراءه، عن مغامراته، شطحاته، نوبات عظمته، ساعات ضعفه، مشاكسته، ولعه بالأشياء، ثقافاته، مناهجه، رؤاه، وكل ما علمته له الحياة بما في ذلك ساعات الألم التي أوجعت قلبه، ولذا عاتب نفسه بالقول: إذا ما خاف رجل مثلك أن يدون ما يعرف.. ليس حكايا فقط، فما عاد لإنسان أن يهتم لقصص لا طائل من ورائها[[[ص49]]] إذن من حقنا أن نعرف ماذا أراد شوقي أن يدون في لبابة السر، ولماذا (السر) بالذات؟ لماذا السر يشغل نصف العنوان؟ لماذا يتكرر في الرواية بعنف؟ والمهم هل سيكشف لنا السر حقا أم أنه سيحافظ عليه مثلما علمته السنين؟
منذ أن استلمت رواية لبابة الشر هدية من الأخ والصديق الأديب العراقي شوقي كريم حسن وانا أهيء الطقوس التي اعتدت عليها كلما قرأت عملاً لصديق، فأنا خلال عمري الطويل قرأت آلاف الروايات والقصص حتى صرت خبيرا في أساليب كتابتها، أكاد انسب القول الذي أسمعه لقائله، واشخص في أي رواية جاء، وقد اقتبست مما قرأت من قبل آلاف الجمل والحكم والعبارات التي تثير الدهشة، وكنت أجد في كل عمل أقرأه منها مقولة أو اثنتين تثيران في عقلي الدهشة، وتبعث في جسدي رعشة؛ فاقتبسها أو أحفظها، وأرددها واوردها أحياناً كخلاصة وافية لما أرادت أن تقوله تلك الرواية، إلا رواية لبابة السر فهي بمجملها تثير الدهشة وتؤرق القارئ، تلهمه أفكارا من نوعٍ آخر لا تشبه باقي الأحلام، تشد إلى درجة التيه، وتشمخ في تلافيف العقل وحشا أسطوريا طيب القلب يناغم الروح ويهدهد النفس، فالحياة لا تعد مجرد أمنية باهتة الملامح بعد أن يقف الشخص في حضرة رب يتجادل بلطف مع مريديه دون أن يبعث فيهم الخوف الأزلي.
الحياة تتحول في لبابة السر إلى رحلة للبحث عن الذات والمعرفة ووضوح الرؤيا، وتكتال الحكمة بلا وزن، حتى دون أن تدفع شيئا سوى لحظات من التأمل الغامض العميق السابت في أرواحنا منذ الأزل؛ التأمل الذي يزيد المرء تيهانا كلما أوغل في الصفحات المترعة بسحر الكلمات وأبهة المعنى وفخامة الرؤية، ليجد نفسه بعد حين في غابة مطيرة أمزونية الأشجار، كثيفة الأوراق، مظلمة ببهاء متوحش، إذا أخرج يده لا يكاد يراها، تتردد في أجوائها أصداء عواء الحيوانات وزئير الضواري ونبضات قلب مطمئن يبحث عن نوع آخر من السعادة ليقدمها للآخرين بعد أن ناء بحمل سبعين من سنين الشقاء والحيرة والفرح والحب والعبث والفوضى وأشياء كثيرة أخرى، حيرة الحرف الباحث عن معنى. وألا ما معنى ألا يرى “سن” الإله المعربد وهو كبير الأرباب إلا بحضور الشيء الذي يقرر ويريد.. بخلاف الإنسان هذا الكائن شامل الرؤيا بحضور يجمع بين كل الأشياء (3).
شوقي الذي نعرفه، والذي حفظناه على ظهر قلوبنا في أسلوبه الشائك الذي يناغم وجد الحياة اليومية للإنسان البسيط دون أن يهتم بزخرفة الحياة، ليس هو الذي قدم نفسه في هذا العمل، ليس هو الذي قرأنا له من قبل، إنه شوقي آخر جاء من عالم غيبي بوهيمي، من دنيا ليست دنيانا، وكون ليس كوننا، يبحث عن أولئك الذين دنس أرواحهم ذل الدم.. الذين تمتلئ أرواحهم برجاءات الخلاص وبأحلام تشير صوب سلامات أبدية.. هؤلاء الذين قال إنه كلما رأى أحدهم تمنى لو أطلق إلى روحه سهام محبته وسلامه، ولكن الأقدار رسمت والقيامات لابد تقام (4)، وهو يعرف ما تنطوي عليه نفس الإنسان، هذا الكائن الغريب؛ الذي تدهشه نفسه، فيطير تيها بها ربما لأنه بني من خلطة من نوع خاص حملت كل تضادات الوجود، وهو ما أشار إليه بقوله: دلني إن استطعت بإنسان لا يحمل كل تلك الممزوجات، من منا يعيش للفرح وحده أو للكراهية وحدها؟ من منا لا يرى إلى جانب ومض الخير بروق شرور، وإلى جانب الحق كراديس أباطيل، لا أعتقد أن الإنسان خلق هكذا، بل هو الذي جمع كل المتناقضات ودسها في عبه ليخرجها أنى شاء(5).
لقد جاهد شوقي في هذا العمل الفخم ليعلن أنه لا يريد غير جمع تلك الأشياء التي أتعبها الانتظار، وجعلها الوجع تنوء تحت وابل من الأكاذيب (6)، ليعيد ترتيبها من جديد أملا في أن يبعث في نفس الإنسان المهزوم أملا قد يبدو بعيدا ولكن مجرد أنه يلوح في الأفق البعيد يعطي المرء قوة المطاولة على أمل الوصول.
خلاصة ما أراد شوقي الترويج له من خلال هذا العمل الجميل هو ما رسمه قلمه المترفق بنا حد الطيبة، والمشاكس لنا حد الوجع: لم يعد رأسي يصدق كل ما يقال، ثمَّ أرباب لا ضرورة لوجودهم، وآخرون رغم ربوبيتهم يناصبون الإنسان العداء. أي رب هذا الذي يناصب مخلوقه الأضعف العداء لمجرد أنه لا يملك حق القربان؟ أو لأنه يريد جوابا شافيا عن قلق يملأ أعماقه؟(7)
أما غايته من وراء هذه الفوضى التي أثارها في نفوسنا والتي عصفت بأفكارنا، فقد أوردها وكأنه قالها لنفسه من خلال حديث ساخن أجراه معها، فهو وفق اعتقاده مثل غيره، مثلنا جميعاً؛ يحتاج إلى من يقرع الجرس قرب أذنيه لكي يعي الحقيقة، فالحقيقة ليست مجرد قول تردده الألسن، الحقيقة وجود الأشياء وجوهرها الباذخ، وبالحقيقة تتكشف الرؤى ويفهم الإنسان معناه، هذا ما قاله شوقي لنفسه، هذا ما قاله: ما أقول لنفسي لا لأحد، وإن كنت تسمع فلأنك الأقرب إليها، وأنت حر فيما تختار من أسئلة لتجيب عنها بنفسك، لن يأتي ما أقول اعتباطا، هي خبرة السنوات كما تعرف. فأنا منذ فتحت عيني وأنا أعيش بين طيات هذا الحجر، كنت أسمع لهاث الكهنة وتوسلات العذارى الخائفات، وأصغي بحزن لضحكات الليل(8) في مثل هذه الرؤى يصبح كل شيء واضحا وجليا، كل شيء مغمور بعمر الضياء، أي بهاء هذا الذي يسكن الروح(9) فالمسافة بين زمن من تراب وصهيل، وزمن تؤسسه أعمار الورد، خطوات من علو الفكرة(10).
هكذا كانت رحلة شوقي، قافلة تحمل أطنانا من الحكمة السامية والعِبرة الراقية، والعَبرة الحانية، تسير بلا حرّاس يحمونها من الانفجار والتشظي نجوما تسطع في وضح النهار، فعلى الرغم من كل الجنون، وما حدثتني به المنايا والشجون، أمسكت إزميل كهولتي وانتميت إلى كل ما يمكن ان يجعل للسؤال جوابا، قادرا على أن يبوح بفعل المستحيل (11). هكذا أنهى شوقي كريم حسن رحلته، وهذا ما قاله بعد ان تصبب عرق جهده ينابيع نور معمد بعشق الحقيقة، جعلتني أردد خلفه أسئلة لم يقلها، فقلتها نيابة عنه:
أي زمن هو الآتي بلا دهشة؟
أي إنسان لم يقتله الانتظار؟
أي قلب لم يتمرغ في وجع السنين؟
أي حب ذاك الذي يعتصر القلب لكي يفرح قلباً آخر؟

الهوامش
(1) لبابة السر رواية شوقي كريم حسن، صدرت ضمن سلسلة سرد، صدرت عن دار الشؤون الثقافية العامة التابعة لوزارة الثقافة العراقية في أوائل عام 2020.
(2) لبابة السر، ص79.
(3) الرواية، ص155.
(4) الرواية، ص156.
(5) الرواية، ص204.
(6) الرواية، ص257.
(7) الرواية، ص337.
(8) الرواية، ص394.
(9) الرواية، ص436.
(10) الرواية، ص463.
(11) الرواية، ص464.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here