تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 3

تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 3 د. رضا العطار

كانت بابل في واقع الامر، الحاضرة الكبرى الاولى في التاريخ : المدينة المشعة نحو الخارج، مدينة التعدديات القادرة على ان تحتوي معا في شكل حيوي ودينامي عددا كبيرا من العناصر المتفاوتة بشريا وثقافيا حيث تتعايش شتى الاجناس والاديان واللغات بحماية نظام مركزي واحد وثقافة سائدة واحدة. ففي حكم نبوخذ نصر كانت ثروات ومعارف معظم امم الارض تصب في مدينته، فتوسعها العبقرية البابلية الخلاقة وتعيد صياغتها وتوزيعها من جديد في ارجاء المعمورة.

قبل ذلك بعشرين قرنا كانت زقورات وادي الرافدين قبلة الناس اينما كانوا، ومنها استلهم المصريون اهرامهم وهياكلهم الاولى. وكانت زقورة بابل المعروفة باسم – برج بابل – الحصيلة النهائية لذلك الضرب من البناء : نقطة اشعاع لعلوم الانسانية وتساؤلاتها وبحثها، وسط مدينة امست اعجوبة الدنيا. فعلوم الرياضيات والفلك وعلم المعادن والصناعات اليدوية والابتكارات المعمارية والفنون الادبية – كلها بلغت محليا ذروة من التطور جعلت اقطار العالم تنهل المعرفة منها وكانت المعتقدات الدينية بتعقيدها وتنويعها قوة فاعلة.

عندما قدم كورش من بلاد فارس وفتح بابل دسيسة، دع نفسه – ملك بابل – أملا في ان يضفي اسمها المغتصب شيئا من مجدها عليه، غير ان جوهر المدينة فاته ولم يدركه. وما فعله هو وخلفاؤه لم يكن الاّ تمزيقا للمدينة من جذورها. وكذلك عندما رغب القائد العسكري الروماني، الاسكندر المقدوني بعد ذلك بحوالي قرنين من الزمن في جعل بابل عاصمة امبراطوريته، كان الاوان قد فات : لأن المدينة في معظمها غدت خرائب، فمدينة بابل بقت هناك كجسد، غير ان روحها كانت قد غادرتها.

ذلك ان المصدر الحقيقي لوجود بابل العجيب هذا، هم الاقوام الذين كانوا يتدفقون بأستمرار، موجة اثر موجة من تلك الربوع الرحاب في الجنوب – ربوع الجزيرة العربية – . لكن تلك الطاقة توقفت، كما حدث عام 500 ق م ، سنة الغزو لكورش. فقد انكمش وادي الرافدين بكل ما قدم للأنسانية من اكتشاف ومعرفة وفن، وتحولت البلاد الى عدد من المستوطنات عديمة الشأن يتحكم بها اسياد اجانب.

وبين الحين والاخر كانت تظهر دويلة عربية كالحضر او تدمر متفجرة من داخل رمال الصحراء، وبعد قرنين او ثلاثة تتهاوى على اسسها وتندثر بعد ان تكون قد نضبت الطاقة التي غذتها من ذلك الينبوع العربي. لكن عندما نضع بابل في سياقها الزمني ونستوضح نشوء المدن الكبرى بعدها نجد انها لم تكن الحاضرة الكبرى الاولى في العالم وحسب بل كانت الأمّ الفعلية لكل المدن العظيمة التي اعقبتها في التاريخ. ان مدنا مثل باريس ولندن، او مثل روما وموسكو في تعدديتها وفي اندفاعها كأرومة، تصدّر وتوزع العلوم العقلية في اطارالحضارة الانسانية،انماهي في الواقع سليلات بابل نبوخذ نصر.

والمهم بالنسبة للتاريخ العربي ان بغداد كانت الوريثة الحقيقية لهذه المدينة التي هي الأمْ الرائعة لكل المدن العظيمة. لقد دخلت بابل في دور سبات اثنى عشر قرنا الى ان نفضت عن نفسها ادران الزمن ووجدت نفسها اخيرا تنبعث من جديد بكل بريقها وبهائها على بعد ثمانين كيلومترا منها شمالا على ضفاف دجلة.

ذلك ان موجات اخرى من الطاقة البشرية تدفقت من اعماق الجزيرة العربية، وانقذفت بكل عنفوانها على شواطئ الرافدين منذ اللحظات التي اقتحمها قائدا جيش الاسلام خالد بن الوليد وسعد بن ابي وقاص برجالهم وفرسانهم، فبرزت بغداد كما بين عشية وضحاها من ذلك السهل الرسوبي نفسه الذي انبت بابل. هكذا بعثت الحياة من جديد في الجذور البابلية، وفي غضون سنوات قلائل كانت بغداد اعجوبة الدنيا وكسالفتها بالضبط اضحت ثروات البشرية ومعارفها تصب فيها ثانية، لتتوسع وتعيد صياغتها، لكيما توزع في ارجاء العالم من جديد.

وحتى بناء بغداد على شكل دائري لم يكن اسلوبا طارئا على العراق، فقد كشفت الحفريات الاثارية عن وجود مدن دائرية عديدة سبقتها كما نرى في بعض المدن الاشورية ومدينة الحضر وكذلك مدينة واسط جنوبي بغداد التي كان العرب قد شيدوها قبل بغداد بستين عاما غير ان بغداد بزتها جميعا بحجمها وانتظام شكلها.
الحلقة التالية في الغد !

* مقتبس من كتاب الفن والحلم والفعل لجبرا ابراهيم جبرا.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here