تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 4

تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 4 د. رضا العطار

كانت بغداد تجسيدا لتلك القوى نفسها التي صنعت بابل في ماضي الايام، والتي صنعت فيما بعد المدن الكبرى في العصور الحديثة. فبغداد تاريخيا تحتل الموقع الاوسط من خط تطور الانسان وانجازاته الفكرية. بينما عواصم الدول الفتية حضاريا كانت دوما تردد اصداء بغداد من خلال ازدهارها في القرنين الثامن والتاسع الميلاديين مع الفارق، هو ان بغداد كانت يومذاك متفردة في بهائها ورفعتها وقد سبقت معاصرتها بيزنطة بأشواط. فقد قال فيها الجاحظ :

( رايت المدن العظام والمذكورة بالاتقان والاحكام بالشامات وبلاد الروم وفي غيرها من البلدان، فلم ار مدينة قط ارفع سمكا ولا اجود استدارة ولا انبل نبلا ولا اوسع ابوابا ولا اجود فصيلا من الزوراء – وهي مدينة ابي جعفر المنصور – كأنما صبت في قالب، وكأنما افرغت افراغا. )

وحين نتأمل اليوم في فنون العاصمة العراقية بغداد والحياة الابداعية التي ازدهرت فيها قبل اكثر من الف من السنين نجد فيها الكثير من الحوافز والنوازع والصراعات التي تفعل فعلها الدائب في المدن الكبرى في قرننا الحاضر، هذه المدن المتفجرة داخليا بطاقاتها البشرية الهائلة.

ولكن عندما يكتب عن بغداد احد ابنائها النابهين من امثال مؤرخها احمد بن واضح اليعقوبي الذي عاصر بغداد وهي في اوجها في القرن التاسع الميلادي – اي بعد البدأ ببنائها بمئة عام، وصفها كشئ شديد الحضور، في ( كتاب البلدان ) :
( المدينة العظمى التي ليس لها نظير في مشارق الارض ومغاربها سعة وكبرا وعمارة وكثرة مياه وصحة هواء، يسكنها اصناف الناس جاؤا اليها من جميع البلدان القاصية والدانية. وآثرها جميع اهل الافاق على اوطانهم، فليس من اهل بلد الاّ ولهم فيها محلّة ومتجر ومصرف، فأجتمع بها ما ليس من مدينة في الدنيا. في اعتدال الهواء وطيب الثرى وعذوبة الماء، حسّنت اخلاق اهلها ونضرت وجوههم وتفتحت اذهانهم حتى فضلوا الناس في العلم والفهم والادب والنظر والتميز في التجارة والصناعة والكسب والحذق بكل مناظرة واحكام كل مهنة، واتقان كل صنعة. فليس عالم اعلم من عالمهم ولا اروى من راويتهم ولا اجدل من متكلمهم ولا اعرب من نحوهم ولا اصح من قارئهم ولا امهر من متطببهم ولا احذق من مغنيهم ولا الطف من صانعهم ولا اكتب من كاتبهم ولا ابين من منطقيهم ولا اعبد من عابدهم ولا اروع من زاهدهم ولا افقه من حالمهم ولا اخطب من خطيبهم ولا اشعر من شاعرهم ولا افتك من ماجنهم … )

من هذا الوصف التفصيلي الدقيق الذي يتناول المجتمع من اوجهه المختلفة نستدل ان بغداد انما كانت الامتداد الاكبر لمدينة بابل القديمة وقد حافظت على الجوهر الحضاري نفسه الذي ستتميز به المدن الكبرى فيما بعد. وهو الجوهر الذي يتمثل اساسا، اولا، في التعددية ضمن شمولية الشخصية العربية وعبقرية لغتها، ويتمثل، ثانيا، في فرادة صناعتها وفنانيها وعلمائها ومفكريها – بل في تميزهم عن غيرهم في كل مكان.

كان لدخول صناعة الورق من طاشقند في الصين الى بغداد في العهد العباسي اثره البالغ في نشر الثقافة في المجتمع الرافدي، وعلى اثر ذلك ظهرت مكتبات عامة في مناطق مختلفة من بغداد، كانت مكتبة الحكمة اشهرها، ومكتبات خاصة في كل مكان. وحينها علق الجاحظ شغف العراقيين بالقراءة ( كأنقضاض الأسد على الفريسة ).

في هذا الوقت بالذات كانت بغداد تحتضن الخليفة العباسي المأمون، الذي كان منهلا للثقافة الرائدة، فقد حول دار الخلافة الى منتدى لأساطين العلماء والأدباء والبلغاء والمترجمين، الذين نقلوا الى العربية العلوم اليونانية واللاتينية والهندية والفارسية والسريانية، وبها تقدمت العلوم والفنون الى درجة اضحت بغداد منارا للأشعاع الفكري المنير، لا لبلدان المنطقة فحسب انما لبلدان اوربا كذلك حيث استنارت بعض جامعاتها، بهذا الشعاع المنير، كانت بغداد انذاك متوجة بعصرها الذهبي الباهر.

فقد قال المأمون: ( ان الحكماء هم صفوة الله من خلقه ونخبته من عباده لانهم صرفوا عنايتهم الى نبل فضائل النفس الناطقة وارتقوا بقواهم عن دنس الطبيعة. هم ضياء العالم وهم واضعوا قوانينه ولولاهم لسقط العالم في الجهل والبربرية )

ووصل التسامح العقائدي في بغداد حدا، دفع بالمؤرخ الفيلسوف – دربير – ان يقول:
( ان المسلمين زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة اهل العلم من النصارى واليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا اليهم كثيرا من الاعمال الجسام وقلدوهم المناصب العليا في الدولة، الى درجة وضع الخليفة العباسي هارون الرشيد جميع المدارس في دولته تحت اشراف حنا بن ماسوية. في الوقت الذي كان ملك انكلترا ريشارد قلب الاسد يصادر اموال اليهود ويطردهم من بلاده، ليموّن بها حروبه الصليبية، بحجة ان اليهود كفار.
الحلقة التالية في الغد !

* مقتبس من كتاب الفن والحلم والفعل لجبرا ابراهيم جبرا.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here