شهادة على حدود بدرة..حين يُمسخ آلناس ؛ تنقلب القيم

العارف الحكيم عزيز حميد مجيد
قصة مؤلمة أخرى أربكت وجودي و أوقفت حركة التفكير عندي لأكثر من إسبوع و كُدت أترك الكتابة من ورائها, لكنها – الكتابة – المقدسة .. السبيل الوحيد الذي أمتهنها لإيصال رسالة الشهداء – التي هي رسالة الله – إلى العالم و لهذا الجيل الذي ضاع ولم يعد يعرف شيئا عن أؤلئك العظام الذين بعضهم ضاعت مآثرهم و حتى أجسادهم و تحتاج لسيناريوهات ترقى لتكون على مستوى العالم بل الوجود!

أنها قصة عائلة صديقي العزيز فؤاد (أبو أحمد الركابي) , و أعترف أمامكم كفيلسوف و عارف حكيم و وارث للفكر الكونيّ و على إمتداد مسيرتي الفكريّة كنتُ إذا أردت تصوير حقيقة عميقة .. دعوت الكلمة فتأتيني خاشعة طائعة تمشي على أستحياء مسرعة تارّة و متباطئة تارة أخرى؛ لكنها في النهاية كانت تأتيني مستسلمة فأقدّم بها المعنى الذي أريد تصويره ببيان كونيّ رصين و كما جسّدتها مبادئ الفلسفة الكونية, لكني ما تحيّرت في الكتابة عن موضوع مُذ عشقت الأنسان و خالقه الجّميل .. الذي لا يتحقق حُبّهُ إلا في قلب ألجّميل ألّذي وحده يعرف كُنه الجّمال؛ ما تحيّرت أبداً إلّا عندما إطلعتُ على شهادة عائلة عراقيّة على الحدود مع إيران لتصطفّ تلك المحنة ضمن الجرائم الكبرى لنظام الجّهل البعثيّ!؟

قد يعرف  البعض منكم بأن معنى و فلسفة الحُب و العشق تتعاظم لدى الذين حُرّموا منه بداية حياتهم لأسباب كونية كموت الأب أو آلأم أو إفتراقهما .. والذي عبّر عنها الباري بأنها تهز العرش لمدى الألام و الآثار التي يسببها في نفوس الباقين من الأبناء و حتى المجتمع!

و في العراق تجد صور كثيرة جدّاً عن مثل تلك المصائب و آلمحن .. و أصعبها إيلاماً هي تلك القضايا و آلحوادث التي تعيشها أو تسمعها و تعييها بكل وجودك؛ لكنك لا تستطيع الكلام و البوح بها بدقة أو ممارستها, ربما لأنها غير قابلة لذلك لهول المأساة!

إنها شهادة على حدود بدرة ؛ قصة مؤلمة للغاية إربكت وجودي و صدمت عقلي, بسبب مصير عائلة صديقي المؤمن فؤأد فرحان ألرّكابي الذي تغرب قبل عائلته المغدورة بسبب الظلم و الحروب ألغبية – العبثية .. فحين حاولوا الهجرة من موطنهم الذي لم يعد آمناً لكثرة الواشين و العاملين في آلأمن و الشرطة و خلايا البعث الإرهابية الجاهلية حتى جارهم كان يكتب عليهم كل يوم تقريراً و عن كل شيئ .. خصوصا بعد شهادة أخيه الأكبر الشهيد ألأستاذ أركان تاركا زوجته و إبنته الوحيدة لتتكاثر المصائب و المضايقات و الظلم عليهم و كان لجارهم السّيئ القريب (إبن المضمد) ألدور الرئيسي لشهادتهم الذي كان يتظاهر بزرق الأبر في الأطفال لكنه كان يفرغ دواء الابرة خلفه أو في مواقد النار المشتعلة بدون حقنه في جسد المريض و بذلك أكل ذلك الإبن لقمة الحرام بغير ذنب منه و تلك معادلة معقدة بشأن لقمة الحرام ألتي تسببت في واحدة من آثارها  بشهادة تلك العائلة المظلومة بوشاية من ذلك الإبن لكلاب (الأمن) و حاشا الكلاب من تلك الأفعال المشينة.. لهذا و بعد ما عظمت المصيبة؛ تصدّيت لكتابة تلك القصة و القصص الأخرى بقلمي الحزين الذي ما نطق يوماً إلا بآلحق المجلل و في الحق و بآلحق .. و هناك أقلامٌ كثيرة تكتب كل يوم .. لكن ماذا تكتب و هل تخلدت تلك الكتابات لقرون أو قرن أو عقد أو حتى سنة!؟

هناك قلم يُحرّر؛ و قلم يُقرّر؛ و قلم يُبرّر؛ و قلم يُريد أن يُمرّر قلم سلطان؛ و قلم أسير؛ و قلم أجير؛ قلم يستفزّ؛ و قلم يفزع؛ و قلم يعزف؛ هناك قلم مدهش؛ و قلمٌ منعش؛ و آخر لا يهش و لا ينش و لا يبش .. تائه بين إشعيط و معيط .

و فوق كل تلك الأقلام مجتمعةً؛ هناك قلمٌ واحدٌ .. نادرٌ يختلف عن كلّ تلك الأقلام .. لانه لا يخط إلا الحقائق الكونيّة الكبرى التي لا تنتهي حتى بعد قيام القيامة كقصة عائلة صديقي(فؤآد) أبو أحمد ألرّكابي!!

إنّ أهم و أكبر مشكلة يعانيه القلم الكونيّ و في هذا الزمن؛ أنه يجعلك قسراً تتصادم مع أصدقائك و أهلك و عائلتك و حتى مبادئك الذاتية التي قد لم تتصل بعد بآلعشق الحقيقي بسبب آلعشوق المجازية، لأنه – قلمك – يرفض الظلم و لقمة الحرام و عمليّة بيع القيم كتجارة رابحة رائجة .. فيبقى وحيداً لا يجاريه قريب أو صديق أو حكومة لأنه يصبح خارج السرب تماماً!

رسولنا الكريم صلوات الله عليه قال في معنى الحديث بأنه سيأتي زمان الماسك فيه على دينه كما الماسك على الجمر، وبنفس القياس اليوم، نجد أن الدّين ركن زاوية أساسي في عملية التمسك والتشبث والدفاع ومصارعة النفس، وإلى جانبه تأتي عملية التمسك بالمبادئ والقيم، والتي تأتي معها أيضاً الكرامة وعزة النفس.

للزمان تقلبات، بعضها يكسر الهش، و بعضها يلوي القويّ، و بعضها يختبر قوة تحمل الصابر المحتسب، بالتالي .. من يأمن الزمان مخطئ، ومن يظن بأن الزمن لا ينقلب، وأن المعايير لا تتبدل واهم، فهذه الدنيا صناعة إلهية، لكن ما يدور فيها من خيانات و شقاء و ظلم؟ صناعة بشرية، و حينما تستشري الصفات السيئة في مجتمع ما و تنعكس قيم الأفراد فيها – والخطير أن يكونوا مؤثرين فيها – فهنا يكون الاستهداف فورياً للمبادئ و القيم فيستشهد الشريف المؤمن و يرتقي الفاسد المنافق و كما جسدتها  هذه القصة الدامية!

فكيف يمكن لشخص أن يتسبب في غشّ ثم محو عائلة بآلكامل عاشوا معاً على الحلوة و المرة كجيران و أهل بمحلة واحدة لعقود طويلة و منذ الولادة .. لو لم تكن للقمة الحرام الملطخة بدماء الأبرياء دوراً مباشراً في هذا الفعل!

هناك من يُؤثر التضحية بكل ما يملك لأجل قيمه، هناك من يؤثر تفويت الفرص وتضييع المغريات لأن مبادئه لا تقبل الخطأ، وعلى النقيض هناك من يبيع كل شيء، ضمير و قيم وأخلاق كعائلة هذا (المضمد) وللأسف حتى العرض لأجل راتب أو مكسب فوري و رخيص، ولو كان عالي الثمن وغالي القدر، فلا حياة دون كرامة، ولا كرامة دون مبادئ.

أردت أن أبيّن بعد هذه المقدمة : كيف يمكن لبلدة صغيرة نسبياً كقضاء مثل بدرة أن يتواجد فيها أناس في غاية المسخ و الخسة و الرذيلة مقابل مؤمنين عظماء أمثال الشهيد أركان و موسى و بديع و فؤآد سالي و كريم ووووو عشرات ممن يشهد لهم التأريخ و العلم  و المواقف العظيمة التي وقفوها في أحرج و أشد اللحظات التأريخية حين كانوا يُخَيّرون بين الموت و الحياة بألتنازل عن كرامتهم!؟

هذا الأمر وقع تماماً مع عائلة صديقي التي أرادت الهروب للحرية, حيث وقف فؤآد(أبو أحمد) مبهوتاً و دموعه سالت كنهر الكلال أمام جثث عائلته (امه و أخته و زوجة أخيه الشهيد) و قد دفنوا بواسطة أحد ألرّعاة بعد ما تم قتلهم من قبل أجهزة اللأمن و اللاسلام الصدامية بوشاية ممن أكل الحرام.. ليتوقف الحياة على تلك الحدود بين دولة الكفر و الأسلام و على مشارف بلدتهم و محلتهم(القلعة) الصغيرة التي لم تعد آمنة بل و غابت معالمها بسبب أبناء الحرام الذين أكلوا الحرام عمراً و لم يقدموا ولم يزرعوا حتى نخلة ؛ بل إعتمدوا على راتب لم يعد مباركاً من دم المرضى و قوت الفقراء.

حين وقف أبو أحمد على جثتهم الشريفة لنقلها إلى النجف الأشرف بعد 2003م, رجع ليتوائم مع من تبقى من ذلك الجيل في مسقط رأسه .. لكن لم يعجبه العيش في بلدته التي خانت عائلته رغم إنه كان وفياً و ضحى  لها حين جاهد سنوات طوال مع قوات بدر ضد النظام الصدامي .. خصوصا بعد ما تحول فيها كل شيئ إلى أراض جرداء لا رطب ولا ثمار و لا فاكهة أو خضار تعيد للروح نشوتها .. بل تحول إلى نفط و غاز سرعان ما سيستغني عنها العالم بعد تطور التكنولوجيا كما تم الإستغناء عن فحم الكوك قبله فثاني أوكسيد الكاربون يسمم الأرواح و الأبدان و يذبلها ..

لهذا غادر  صديقي أبو أحمد مع جرحه العميق .. مودعاً تلك المدينة للأبد لأنها لم تعد بيئة صديقة له .. فماذا يبقى من جمال الحياة حين يكون أهلك و جارك و صديقك عدّوك و ضدّك يريدون فنائك؟

و هل هناك خيانة أقصى و أقسى من خيانة الأهل و الجار و الصديق .. بينما أول ما أوصانا به رسول الله(ص) هو حرمة آلجار حتى إعتقد الناس بأنهم يرثون و حقا يرثون! بل وقيل : [من وفّى مع جاره وفى مع الأسلام أو أدى حق الأسلام]وحديث آخر شر:
[
ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة؛ رجل أعطى بي ثمّ غدر؛ ورجُل باع حُراً فأكل؛ ورجل لا يؤدي حقّ جاره].

فسلام على تلك الأجساد الطاهرة التي أبت أن تمسها الحرام و الأيادي الملطخة بدم الأبرياء و إختارت الشهادة و الخلود بعد سعيها للهروب إلى الحرية في الأرض المقدسة .. فرزقها الله حرية أكبر و أعظم في جنان الخلد!

و إعلم يا أخي الحنين أبو أحمد الطيب بأن من عمل و توكل على الله فهو حسبه و حاميه و حافظه، و لا تظنن من لا ينسى الله أن ينساه خالقه ولو اجتمع عليه شياطين الإنس والجن و ليس الجار فقط, و أهلك بإنتظارك في عليين و لن ينسوا حين جعلت ديّتهم صدقة جارية لهم بترميمك لتلك للحسينية.

رسولنا الكريم كم عانى و كم أتهم بآلخيانة و بالجنون!؟
تم استهدافه لقتله، وتمت الإساءة له و رُمي بالحجارة حتى أدميت قدماه، فهل استكان!؟
هل تراجع؟
هل تخلى عن مبادئه و قيمه و الأهم دينه!؟

لا عزة لإنسان لا يصر على العيش عزيزاً، ولا خير في بشر يرى الحق ولا يتبعه و يرى الباطل فيهب منغمساً فيه.
النفس البشرية أمّارة بالسوء، وللوقوع في مستنقعات السوء يبدأ المشوار بالتخلي عن المبادئ والقيم، وطبعاً قبلها الدين، كونه هو أصل القيم والمبادئ التي كرم الله بها بني آدم عن العالمين.

وحينما تتحول القيم والمبادئ لشعارات و لطم فقط كما هو حال أمتنا اليوم للأسف بسبب أهل السياسة و مدعي الدّين ظاهراً  ولغير الله باطناً، تقابلها ممارسات تخلوا منها، ولا تقيم لها وزناً أو اعتباراً، هنا نكون في مرحلة مقامرة برحمة الله و مرحلة إستبدال .. حينها نكون سائرين بعكس ما يفترض بنا السير عليه، فنحارب نظيف اليد نقي السريرة، الصادح بالحق الرافض للباطل، وحينما ننجح في إسكات أهل الحق يسود الباطل، في معادلة واقعية تثبت صحتها على الدوام من خلال الوقائع المؤلمة كهذه الواقعة الأليمة.

لذلك نقول إنها مشكلة، حينما ترى الظروف وكأنها تفرض عليك التخلي عن المبادئ والقيم حتى «تسلك» معها، أو تسلك مع صانعيها، حينما ترى المقدرات مكتوبة لمن يتخلى عن مبادئه ويكون تابعاً لمبادئ غيره، حينها الرجولة تنتفي، وحينها تخنق الأصوات، ويكف الناس عن قول الحق، خوفاً على أرزاقهم، وخوفاً على من يعولون.

في كل زمان ومكان، هناك توزيع لأصحاب المبادئ وفاقديها، لأصحاب الحق وأصحاب الباطل، لكن النسب تتفاوت، فإن طغت الأولى فإنها رحمة من الله بأن جعل الخير يسود على يد هؤلاء الذين لا يخشون في الحق لومة لائم، لكن إن طغت الثانية فهي من علامات الساعة التي تنقلب فيها الأمور فيصبح الحق باطلاً، ويصبح الصدق كذباً، ويظلم الطيّب و يعلو شأن الخبيث و كما هو الحل في حكومات دولنا!

ما قيمة الإنسان بلا مبدأ؟! ما قيمته وهو يتخلى عن آلصبغة و السليقة التي خلقه الله عليها, و [خلقناكم أطواراً]؟
وسليقة البشر التي جبلوا عليها أساسها نبتة خير زرعها المولى عز وجل فيهم، التحدي أمامهم بأن يحافظوا عليها ويصونوها ويتصدوا لأية مؤثرات تجعل الإنسان السوي يتحول لآخر دنيء و شقي.

لذلك لا عيش كريم لإنسان لا يملك مبدأ ولا يملك قيماً، فليس العيش الكريم بالمال والجاه و السلطة بقدر ما هي الكرامة التي منبعها رضا الإنسان عن نفسه، وعن تصرفاته وأفعاله، وحرصه أن أفعاله ترضي الله ولا تغضبه.

حينما تضيع القيم وتقتل المبادئ، يطغى كل شر؛ يسود الكذب؛ يعم النفاق؛ تكثر الخيانات؛ تقل البركة؛ يتفاقم الفساد؛ تنتشر الأمراض ومهما حاولنا إصلاح الأمور عند ذاك؛ لا نجد التوفيق من الله عز وجل.

ربنا تعالى قال في محكم التنزيل بشأن موسى عليه السلام: [يا أبت استأجره إن خير من استأجرت القوي الأمين]. الأقوياء والأمناء هم أصحاب المبادئ والقيم، والذين بهم تنصلح الأمم و يكتب الله بجهودهم الخير.

و سلام على الشهداء ألذين ضُرّجوا بدمائهم على الحدود التي تفصل بين عراق المآسي و الدم و بين دولة الأسلام التي لا يعرفها أهلنا للآن لفقدان البصيرة التي معها يُمسخ الناس فتنقلب القيم و تحل المآسي و المحن.

ألعارف الحكيم عزيز حميد مجيد 

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here