منير حداد.. سيرة معاناة

القاضي منير حداد

المعاناة شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في فضاءات المنجز الوطني الذي حققته، إذ جمعت خلاصات الألم لأعيش مرفها تحت هاجس “أما أكون أو أكون” لا خيار سوى أن أحقق ذاتي، متبنيا “أناي.. منير حداد” بالموقف والرؤية والتحدي منذ الطفولة الجامحة، التي تظن أنها قادرة على إعادة تشكيل العالم، لكن مع النضج وتقدم الواقع يحل الفهم العملي.. يدرك المرء أن إبنة السلطان لن تحبه، بعد أن يحررها من قيود التنين في جزيرة على فوهة بركان.. البركان هو الحقيقة التي نعيشها يوميا في صدام مستمر مع أعداء وهميين يفرضون غيظهم من دون أسباب.. محاولين إعاقة النجاح، لكن… القافلة تسير والـ… 

رايت الظلم.. وسمعته وتحسسته كل خلية في أديم جلدي وتكوى جسدي إيمانا بمبدأ لا تراجع عنه؛ فـ… دخلت المعتقل، في السابعة عشرة من عمري و… “مالوم لليوم” وأمضيت فيه زهرة صباي، على شفى الموت نضجت شخصيتي وتبلور شبابي مداهما بالسياط والجلد والتعذيب، بإنتظار الشهادة.

خرجت وقد مضى العمر.. لا عودة.. لكنني ما زلت أحاول الذهاب الى ما فات! فالحمد لله، تعلمت كيف أنتصر على قدري مثبتا أنني أقوى من الظروف المحدقة بي، محولا سهام الغدر الى ورود تنشر؟ عطرا بين يدي، نصر من الله وفتح مستمر.. سهام تسدد بقصدية خالصة، وليست طائشة.. سهوا بحسن نية، إنما بحقد وغل مبيتين، أحتويها وأتفوق سائرا والـ… ضباع تزمجر ثم تذوي…

عانيت حياة صعبة.. حصار ومشاكل وظلم صدام الذي شمل الجميع بالتساوي “لكل ضعف ولكن لا تشعرون” واتباع صدام لهم قصة جور بموازاة طغيانه، و”ظلم ذوي القربى أشد مضاضة.. على المرء من وقع الحسام المهند”.

غادرت جوع “العقوبات الدولية – الحصار” الذي فرضته الإرادات العالمية، على شعب العراق الـ… لا حول ولا قوة له، عقابا للطاغية صدام حسين جزاء غزوه دولة الكويت الشقيقة.

فخرجت الى الخليج بإرادتي ولست زعيما سياسيا.. لا أدعي إلا قدر البطولة التي عاناها العراقيون حالي حال الآخرين.. معتقلات وحروب هوجاء وجوع عَرَقَ اللحمَ عن العظم حاسرا…

غادرت العراق نهاية تسعينيات الحصار؛ من أجل تغيير واقع اقتصاد تعبان برغم أفضلية حالي على سواي؛ فقد كنت ذا بيت صغير ملكا، في منطقة راقية.. أقود سيارة يحلم بيها الكثيرون، أعيش حياة مثلى.. بنت جميلة.. رفعة راس أبيها وزوجة قنوع.. بنت ناس، وازنت معيشتي؛ فحين تضنك الحال، لا تتطلب، إنما ترضى بالكفاف وترضي أولادها بإعتبار مجيء ولدي في ما بعد.. تأكل الخبز والبصل كما يقال، وعندما يرزقني الرب، لا تبطر؛ لذلك جازيتها خير الجزاء وسأستمر… إنها نصفي إنسانيا.. تشاطرني ثروتي.. شريكة وجودي وأولادي وأموالي وأناي.

آلت البلاد الى سلطة 9 نيسان 2003 وقدم الحاكمون الجدد، وقاضينا الطاغية صدام حسين، وأركان نظامه، عن خمسة وثلاثين عاما، جاروا خلالها على شعب ما زال ينوء بأعباء موارة.. مآسٍ ومعتقلات وحصار ومشانق.. أمي وأبي وأشقائي وشقيقاتي وأستاذي.. ضحايا صدام، صورهم ماثلة أمام عيني، لكنني ولله الحمد، لم اعتدِ على أحد من أركان النظام السابق، وهم مستلبو الارادة تحت رحمة.. لا يستحقونها، لكن إحتكمت للقضاء والقانون في معاملتهم… كثير من نصوص القانون موروثة عنهم؛ لذلك ذبحوا أنفسهم بنصل القانون ذاته مرتين.. مرة حين جلدوا الناس مزهقين الارواح به، ومرة حين طبق عليهم.

عاملتهم بإحترام لإنسانيتهم التي تنكروا لها منذ 17 تموز 1968.

تقريبا أنا الوحيد الذي إرتقى سلوكيا معهم، برغم كوني المظلوم الوحيد او ربما يشاركني واحد أو إثنان أننا من ضحايا النظام البائد، لكن لم اقسو على صدام واركان ظلمه، تركت القانون، يثأر لي ولملايين الضحايا الذين سفحت حياتهم وأحلامهم وآمالهم.. إعتقالا وحربا وجوعا، متاسيا بأمير المؤمنين علي (ع) واولاده؛ فالامثلة تضرب ولا تقاس، حتى سئلت: لم ترفض تعذيب أو إهانة صدام وجماعته؟ وهم عذبوا وأهانوا شعبا بأكمله. فأجيب: برغم اني المتضرر الاول بين قضاة المحكمة، لكن صدام ونظامه ليسوا مثلا يقتدى! فما فعلوه آل بهم الى هذه النهاية، لذا لا نريد لأنفسنا قدرا مشابها، داعيا الى إيقاف دوران دولاب الدم بهم.. هم نفسهم الذي أداروه منذ 1968 بل منذ 1963.

ثم عانيت ظلم الاقربين، إذ بطش بي من وضعتهم بمنزلة الأخ من أخيه.. ناكرين الفضل حد محاولة التهميش…

إستحالت عليهم مضرتي؛ لما حباني الله من مواهب وقدرات ومؤهلات فائقة وإرادة وثابة بحوله وقوته.

قطعوا راتبي وحرموني من مستحقاتي.. بل حاولوا إغتيالي بإطلاق النار من مصادر مجهولة… لكنني آمنت بحياة تسر الصديق او موت يغيظ العدى؛ فإنتصرت على الدنيا ودال لي الزمان؛ أبني عموديا في إختصاصي القانوني والقضائي والامني.. محاميا، ولا أزحف على إختصاصات مجاورة.. على الرغم من تمكني فيها بجدارة.. كالسياسة والـ “بزنس”.

لذلك نجحت بفضل الله “ومن يتقي الله يجعل له الله مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب؛ فكلما كدت أتلكأ، أعود أشد تماسكا وأنطلق نحو المستقبل…

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here