تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 6

تواصل المجد الحضاري بين بابل وبغداد (*) ح 6 د. رضا العطار

علمنا في العدد السابق ان المجتمع العباسي قد زخر بمظاهر التألق والتأنق في الازياء والزيارات ومراسم القبول واداب المائدة خاصة في الطبقات الارستقراطية الناشئة انذاك ، كما سرى بين النساء الحرائر شغفهن بالعطور النادرة، كعطر البنفسج والياسمين والمسك والكافور، يأنسن بطيب عبيرها ويتبخترن بشذى عبقها الفواح، بينما تميزت رغبة الاسر الموفورة في تزيين بيوتهن بالورد والتفاح التي كانت تملئ الاجواء بأريج نفحتها الزكية، فكانت احلى دلالة لمعاني الود والوداد مثلما كانت باعثا لألهام الشعراء بمشاعر الخصب والخيال.

ونستطيع ان ندخل في فنون الظرف التي اشاعها الجواري، اعجابهن بالأزهار وتعلقن بها. فقد الحقن بحدائق قصور الخلفاء بساتين تزخر بأنواع الورد، ليس ذلك فحسب، بل احس الشعراء في الأزهار معاني السلوى في الحب ودنوه واتصاله وجفاءه الى غير ذلك
كأن يحس الشاعر في احمرار الورد معنى الخجل ! ويحس آخر في هجر الحبيب،
سرعة ذبوله، او يحس العاشق في ورد البنفسج عودة الوصال وحرارته.
فكانوا يتهادون بالزهور والرياحين، دالين بها على امثال تلك المعاني، كما كان بعضهم يحيي الآخر بالورد.

ثم كثرت التحية بين العاشقين بالتفاح، فكانت الجارية تترك على التفاحة اثر خدها بفمها، وقد تشققها بالمسك والعنبر، وقد تكتب عليها بيتا تدل به على لوعتها:

وآثار وصل في هواك حفظتها * * * تحيات ريحان وعضات تفاح

وفي اخبار الخليفة العباسي المهدي ان جاريته اهدت اليه تفاحة بعد ان نقشت عليها:

هدية مني الى المهدي * * * تفاحة تقطف من خدي

محمرة مصفرة طيبة * * * كأنها من جنة الخلد

كما رُوي عن الخليفة المتوكل انه رأى جارية وقد نقشت اسمه على خدها، فأستهوى ذلك وطلب ان يُنشد الحدث هذا نظما ملحنا، فأنطلقت مغنية القصر وشاعرته الجارية عريب تغني البيت التالي بصحبة الآلات الموسيقية:

لئن اودعتْ خطاّ من المسك خدها * * * فقد اودعتُ قلبي من الوجد اسطرا
كان بعض الجواري يحسن نظم الغزل المثير يكتبنه على عصائبهن وثيابهن ومناديلهن منها:
أتهون الحياة بلا جنون ؟ * * * فكفّوا عن ملاحقة العيون

وكانت عريب مغنية المتوكل تلبس قميصا كُتب على وشاحه :

واني لأهواه مسيئا ومحسنا * * * وافضي على قلبي له بالذي يقضي

فحتى متى روح الرضا لا ينالني * * * وحتى متى ايام سخطك لا تمضي

كانت الجواري يتنافسن كذلك في تقديم التحف الجميلة. فقد كن قد تزودن بثقافة العصر، اذ كان منهن من ينظم الشعر نظما بديعا.

هكذا كانت موجة الفجور في العهد العباسي حادة، ان لم يكن زادت حدة فوق حدة، اذ ظل الناس يمعنون في شرب الخمور مدمنين عليها لا يرعوون، ومعروف ان القرآن حرمها. غير ان اجتهاد بعض فقهاء العراق الاحناف قد حلل بعض انواعها، كنبيذ التمر والزبيب المطبوخ ادنى طبخ. فشربها الناس وشربها الخلفاء ايضا، لا بل تجاوزوها الى المسكرات المحرمة. وفي ذلك يقول ابن الرومي:

اباح العراق النبيذ وشربه * * * وقال حرامان: المُدامة والسُكرُ

وقال الحجازي: الشرابان واحد * * * فحلّ لنا من بين قوليهما الخمرُ

وابن الرومي يريد بالحجازي الشافعي وبالعراق ابا حنيفة.

كان المتوكل يعقد في قصور الخلافة مجالس كثيرة للطرب وكان يحب الشرب ومن حوله الورود والرياحين. كما كان يطيب له ان يجمّل ندمائه رؤوسهم بأكاليل الورد.
بينما كان الخليفة العباسي القاهر مدمنا بشرب الخمر كما كان مولعا بالغناء، لكنه حرّم الغناء والخمر على الشعب، وكأنه كان يريد ان يعبها وحده !

لقد تحولت بساتين الكرخ ببغداد وضواحي مدينة سامراء الى حانات كبيرة تكتظ بالجواري والغلمان و المغنيات الظريفات. وكان الرواد من الشباب يختلفون اليها، يتمتعون بسماع الموسيقى ومغازلة الجواري والقيان، يشربون فيها وهم في خيال هذا المتاع المضاعف بجمال الطبيعة وجمال المرأة ونشوة الخمر من مثل قول البحتري:

اشرب على زهر الرياض يشوبه * * * زهر الخدود وزهرة الصهباء

من قهوة تنسي الهموم وتبعث ال * * * شوق الذي قد ضلُ في الاحشاء

كانت سامراء في ذلك العصر تحيطها المتنزهات. وكانت احداها تدعى المطيرة، مشهورة في تقديم خدماتها، كان احد روادها شاعر معروف يقول عنها :

ياليالي بالمطيرة والكر * * * خ ودير السوسي بالله عودي

كنت عندي انموذجات من الجنة * * * لكنها بغير خلود

كن الجواري من اجناس مختلفة وقلما يشعرن بشئ من الكرامة ام يستشعرن شيئا من التحفظ والاحتشام، بل كن يتفنن في الحيل التي يجذبن اليهن الرجال. فكن مصدر الفسوق والفجورفي المجتمع، فكل شئ من حولهن يغريهن على هذا السلوك الآثم.

ويذكر المؤرخ ابن الأثير انه في عام 323 للهجرة دبر الحنابلة في بغداد هجمات شعواء على الحانات، يراقون النبيذ ويكسرون آلات الموسيقى ويضربون المغنيات ويحرمون على الرجال رفقة الغلمان.
يقول كاتب السطور : لم تبقى صفحة الحياة في مدينة بغداد داكنة بالمحرمات والموبقات فحسب بل انما كانت تقابلها صفحة اخرى مضيئة بعباد الله الصالحين، تمتلئ بهم مساجد بغداد وقت الصلاة ايام الجمعة، وفيها الوعاظ ينادون على المنحرفين والضالين ان يخافوا الله ويزدجروا، يهدونهم الى الصراط المستقيم.
الحلقة التالية في الغد !

* مقتبس من كتاب الفن والحلم والفعل لجبرا ابراهيم جبرا ومن كتاب العصر العباسي الاول لشوقي ضيف، مع اضافة لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here