كيف ينبغي ان نربي ابنائنا في 5ح، ح1

كيف ينبغي ان نربي ابنائنا في 5ح، ح1 (*) د. رضا العطار

ان رعايتنا للطفل يجب ان تبدأ وهو لايزال في رحم امه. عن طريق تحذير الحامل من عدم الاسراف في التدخين وتجنب الكحوليات ناهيك عن المخدرات، فإنها تؤثر على سلامة الجنين بشكل او بأخر كما انه يتأثر بالانقباضات العضلية لجهاز الهضم وضربات القلب وارتفاع ضغط الدم فضلا عن الافرازات الهورمونية.

و بعد ان يولد بشهرين فهو لا زال عبارة عن قطعة من اللحم والعظم ساكن في مكانها يتلفت ويحرك يديه ورجليه لكنه لا يستطيع الجري , وعندما يبلغ الشهر الرابع يبدأ يحبوعلى اربع . والى سن السادسة يظل طفلا غير قادرا على الاستقلال عن ابويه وعاجزا عن فهم ما حوله في الادراك الصحيح .
وهذه الطفولة الطويلة للانسان ضرورية لتكامل نموه , فهو خلال هذه الفترة يكتسب خصال اهله ومعارفهم ومهاراتهم على مهل , فيبدأ في اقتباس لغة قومه مع بداية العام الثاني . ويستيقظ عقله ويمعن في تحصيل الآلفاظ والمفهومات بالتدريج , بينما يصلب عظمه وتتحدد حركات يديه ورجليه , ومع تقدمه في اكتساب اللغة يكتسب المعارف والطابع الحضاري لجماعته : يكتسب عاداتهم وتصوراتهم للحياة وحركاتهم وايماءاتهم وذوقهم في الطعام واسلوبهم في التصرف . ففي الجماعات التي يشتد فيها حجاب المرأة ترى الطفلة في السادسة وقد تكون لديها الحياء الذي يجعلها تميل الى ستر وجهها , ومثل هذا لا يحدث ابدا في الجماعات التي لا تعرف الحجاب .

فالطفل الصغير يستوعب في ذاكرته منذ سن الثالثة اشياء كثيرة جدا يختزنها في ذهنه, وهذه المعلومات يكون لها في كثير من الآحيان اثرها القاطع في تكوينه النفسي ومسار حياته المستقبلية. لآن هذه المعلومات تظل راقدة في نفسه نسميها بالعقل الباطن ولكنها فعالة, وهي تظهر في الآحلام وفي ردود الآفعال. وان ما فيه من المعلومات والتجارب يظل مؤثرا وفاعلا بصورة غير محسوسة طوال حياته. وظواهر الأضطراب النفسي سواء اكانت حادة ام طفيفة يرجع معظمها الى تجارب تلك السنوات الباكرة من عمر الطفل .
وقد ذهب الباحث الشهير فرويد الى ما هو ابعد من ذلك عندما قال ان الطفل يولد و في لا شعوره اشياء كثيرة مختزنة عن ابيه وامه . وقد تعدلت بعض هذه الآراء على يد كل من الباحثين يونج وادلر .
والمهم ان الطفل في السادسة يكون قد اكتسب تراث المعلومات العامة والذوق واسس الاخلاق التي عليها قومه . وهذه العملية ليست مجرد اكتساب من الطفل فحسب , بل ان المجتمع نفسه يعمل على تكييفه على مثاله , و ان ما نسميه نحن بتربية الطفل انما هو جهد يبذله المجتمع لوضع الطفل في القالب الحضاري لجماعته , فنحن نعلمه قصدا كل ما تستحسنه الجماعة , وننهاه وننهره عما لا ترضى عنه , وعندما يخرج الطفل الى الصبوة بين التاسعة والثانية عشرة يستكمل فيها استيعاب كل الثروة الثقافية من مجتمعه .
فيأكل ما يأكلون وكما يأكلون , ويتكلم كما يتكلمون , ويسير كما يسيرون ويعرف على وجه التقريب كل المعارف العامة التي يملكها قومه , فيأخذ طابعه الخلقي وتكوينه المزاجي , ونادرا ما يضيف الى ذلك من العلم غير ما يتعلمه في محيط الأسرة ثم بطريقة منهجية في المدرسة بعدئذ .

ويمتاز الطفل بخصائص اخرى لها اعظم الآثر في تكوينه الحضاري والثقافي فيما بعد , فهو لا يكاد يحبو حتى يأخذ في اكتشاف عالمه فيمسك بكل ما تقع عليه يده وينظر فيه ويحاول ان يرى ما بداخله . وتنمو فيه ملكة اكتشاف المعرفة عندما يستطيع المشي , فينطلق في عملية استظهار عالمه بنشاط بالغ مما قد يعرضه احيانا الى الآخطار , فيستلفت نظره كل غريب وكل ما يتحرك , فيمد يده اليه ويحاول الآمساك به , ويسعى للآتصال بما حوله و بمن حوله من اترابه محاولا استلفات انتباههم ويسعده ان يستجيبوا له , وهذا كله هو ما يعرف باللعب ولكنه في حقيقة الآمر انه ليس لعبا , انه عملية تدريب لعضلات الجسم وانماء للمواهب العقلية وهي لهذا جزء اساسي من تطوره , ولا سبيل للطفل للنمو جسديا وعقليا الا بذلك . والطفل الذي لا يلعب و لا يكتسب مهارات و لا يدنو بأتجاه المعارف يعرف بالمتخلف .

وكلما نما الطفل زاد محصوله من المعلومات والمهارات عن هذا الطريق , وفي نهاية الخامسة على وجه التقريب تنتهي عملية التعليم بالآكتساب عن طريق اللعب . وتبدأ مرحلة اخرى من مراحل الاكتساب عن طريق لعب اخر واع و منظم يتسم بالسؤال وانتظار الجواب , ثم عن طريق التعليم المنظم في المدرسة وفي البيت عن طريق الاسرة . والمراد باللعب الاخر هو التنافس مع الانداد وفق قواعد او بدون قواعد الى لعبات مقررة والدخول في علاقات عاطفية من حب وكراهية وتنافس وخوف او تخويف وتسابق وعراك وما الى ذلك , هذا لا بد منه لكل طفل لكي تنمو معارفه وعواطفه بصورة طبيعية .

يمتاز طفل الانسان بميزة اخرى هي سعة الخيال وعدم معرفة الحد الفاصل لديه بين الخيال والحقيقة , ذلك لان ذهنه ينمو بسرعة ليكسب خبرات و مهارات و معلومات , والطفل عندما يتفرج على الصور , يطرب لرؤية صور الحيوانات كما هي او في هيئات غير واقعية ولكنه يراها طريفة . وهو عندما يمسك بلعبة في هيئة الدب مثلا يتصور انه صديق له يلعب معه , والطفلة تطرب للدمى , اذ ان عواطف الآمومة تنمو في كيانها .

والى جانب هذا يزداد خيال الطفل اتساعا وتأخذ عواطفه في العمق فيتوهم اشياء تبدو له فيما لو كانت حقيقية , ويسمع حديث الخرافة ويحسب انه واقع . حتى ان بعض الاطفال يتخيلون اشياء لم تقع لكنهم يرونها وكأنها وقعت بالفعل و قد تتجه هذه النزعة عند بعض الاطفال اتجاها غير سليم فيتعمدون على الكذب الذي يؤدي الى الضرر والاذى في بعض الاحيان , كل ذلك ناشئ عن اتساع ملكة التخيل على حساب ملكة التعقل . وينتهي ذلك كله عند معظم الاطفال عندما يعبرون الى مرحلة الصبوة .

ونادرا ما يظل بعض الناشئين محتفظين ببعض خصائص الطفولة من ميل الى اللعب بالآشياء ومحاولة معرفة ما بداخلها او ما يحركها . ويتطور ذلك الميل عندهم مع النمو والتعقل الى الدرس الهادف والتنقيب الدائم والتفكير المستمر في كل شئ والبحث المواظب عن المجهول . وتظل عندهم ملكة التخيل الواسع والاستغراق الكامل في حقل معين , ولكن هذه الملكة تنضبط مع نمو الذهن ويصبح التخيل مرتبطا بعالم الواقع . فأما الاولون من هؤلاء فهم المخترعون والمكتشفون والباحثون عن كل جديد والسائرون والساعون الى الكشف عن كل مجهول ومنهم من يتجه ذهنه الى تصور عالم افضل ومحاولة تحقيقه . وهؤلاء هم المصلحون واصحاب الدعوات الفكرية والدينية , اما الاخرون فهم الادباء والشعراء والموسيقيون واصحاب اهل الفن عامة . واذا كان هؤلاء جميعا هم الذين يسيرون بعجلة التقدم الى الامام , يندرجون تحت ما نسميهم بالعباقرة . والى هذا يعزى ما يتصف به معظمهم من جرأة في الأقدام و اللامبالات بالتضحيات الجسدية و الروحية في سبيل تحقيق اهدافهم الذين يأمنون بها .

وبعبارة اخرى . ان هؤلاء الرجال والنساء يشكلون الطليعة التي تقود ركب الحضارة الانسانية . وقد ينحرف الطريق ببعضهم و يتجاوزوا الطموح , فيخرجون عن المألوف فيصبحون عباقرة مخربين . ولنا منهم في التاريخ امثال جنكيز خان وهولاكو وتيمورلنك . ومهما يقال عما اقترف هؤلاء من قتل النفوس واشاعة الخراب بغية القضاء على واقع حضاري قائم , لينشؤا مكانه شيئا اخر يتصورون انه الآحسن , وعلى ايديهم يجب ان يتغير شكل الاشياء و مهما كان ويكون – فأن اعمالهم اللآخلاقية الفادحة لا تخلوا من موضع للنفع . والجدير بالذكر ان الزعيم الروسي لينين قال حينا :
( لولا المسكين نيتشاييف , لما عرفت طريقي ) . ونيتشاييف هذا كان روسيا ثائرا يدعو الى التخريب والتدمير وعدم الابقاء على شئ , كان يدعو الى الفلسفة – النيهيلية – وهي كلمة لاتينية تعني العدم , فهو كان يرى ذلك ضرورة لازمة للبشر لبناء عالم افضل . وقد مات في السجن مخلفا ارائه التدميرية لغيره.
الحلقة التالية في الغد!

* مقتبس من كتاب فن الحب والحياة للموسوعي سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here