كيف ينبغي ان نربي ابنائنا ؟ ح 5

كيف ينبغي ان نربي ابنائنا ؟ ح 5 (*) د. رضا العطار

معظم البلادة التي ترى في الصبيان لا ترجع الى نقص في الذكاء بل الى عدم اهتمامهم بالموضوع الذي يدرسونه. وعلة عدم الاهتمام هي ان عاطفة المباراة وشوق المنافسة، لم تنشأ بين هذا الصبي وبقية الصبيان.
وللبيئة الحسنة اثر كبير في تكوين الذوق. فالطفل الذي ينشأ في بيت نظيف في حي جميل يحرص طوال حياته ان يعيش في بيئة فيها نفس الصفات، يحتفظ فيها بمركزه اللائق، لا يطيق النزوع عنها. والطفل الذي اعتاد مستوى معينا من النظافة لا يمكنه ان يحيد عنه فيما بعد.

والمعتقدات كلها تكتسب بالآيحاء. ولذلك فان الابناء ينشأون ويتعصبون لديانة ابائهم . وكما يجب ان يكون الوسط المادي والمعنوي نظيفا راقيا في البيت, يجب ان يكون كذلك في المدرسة. ثم يجب ان نغرس في نفس الصبي روح البحث لا روح الاستذكار والاستظهار, و كيفما يكون نوع دراسته يبقى مدى الحياة متعلقا باساليبها, فهو يعتقد ان الاستظهار هو كل ما يطلب منه. فطالب الجامعة لا يمكنه ان ينجح مالم يكن قد بث في نفسه روح البحث عندما كان تلميذا.

ومما يساعد على النشأة الجنسية للطفل ان يرى ابويه على وفاق وانسجام. وعندما يبلغ سن المراهقة او يشعر بالدوافع العاطفية التي تسبقها, يجب ان يصارح بشأنها, سواء أكان ولدا او بنتا، ليقف كل منهما على حقيقتها وما فيها من اخطار ومسرات وعواقب ، ليكونوا على بينة من امرهم. وفي نفس الوقت نسمعهم بعض الايات القرآنية التي تؤكد على فضائل الأخلاق لكل من الجنسين.

وفي هذا السياق اتذكر عام 1983 حينما كنت واسرتي مقيما في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الامريكية، وبنتي الصغرى كانت في الصف السادس الابتدائي يومذاك، عندما سلمتني رسالة من ادارة مدرستها موجهة اليّ، تتسائل فيما لو كنت موافقا بان تشارك بنتي مع تلميذات صفها في مشاهدة فلم تعليمي، خاص بهذا العمر للفتيات، يشرح لهن كيف تتم عملية الأنجاب بين الرجل وزوجته باسلوب علمي بسيط ! .

نعود الى موضوعنا ونقول ان معتقداتنا تنشأ في انفسنا عن طريق العقل الباطن. وقد نتعصب لها تعصبا اعمى يراه غيرنا, وقد نراه نحن كذلك، اذا حللناه بوجداننا, ولكننا نجد للعقيدة التي نتعصب لها سلطانا على عقولنا واشتباكا بعواطفنا، تمنعنا من الاقرار بأننا قد نكون مخطئين.
ومعظم ما نتعصب له من الافكارالتي نشأنا عليها وتكررت فينا، حتى صار لها قوة الآيحاء الاجتماعي. ولا يخفى على القارئ قيمة التكرار في ايجاد عقدة نفسية. وهذا التكرار نفسه يحدث لنا جملة صور لا ننتبه لها. وقد تحدث العقدة في النفس بحادثة حدثت لنا في ايام الصبا فغُرست في العقل الكامن بدرجة من القوة لا يمكن نزعها بالعقل الواجد.

اعرف شخصا كان يكره التدخين الى درجة انه لو اضطر الى ان يلمس السيكارة بيده عمد على الفور الى الماء ليغسلها, فلو انه نظر بعقله الواجد الى السيكارة لعلم انها قطعة من الورق الجاف النظيف لا يحتوي الا على كمية من ورق التبغ, ومحال ان يشمئز الانسان منه. لكنه لا ينظر بعين المنطق الى موقفه هذا وانما بعقله الباطن الذي تجعل نفسه تشمئز من السيكارة . وبعد التحليل النفسي اصبح في المستطاع الوقوف على اصل هذه العقدة وهو انه عندما كان صغيرا حدث له انه كان في الآسرة خادم. ولم تكن علاقته به مرضية, لآن هذا الخادم كان يحمله رغما عنه الى مكتب المعلم. وكان للخادم عادة قبيحة انه كان يجمع اعقاب السيكاير التي تتخلف من الضيوف ثم يدخنها, فتتكون منها رائحة كريهة تؤذي احساس هذا الصبي وهو محمول على كتفيه. فلما شب وكبر، كانت هذه الكراهية قد غرست في عقله الباطن مكونة لديه عقدة ضد السيكاير .

ومن الناس من يكره القطط فلا يطيق ان يكون مع قط في البيت. وترجع هذه الكراهية الى حادث حدثت في الصغر , حين ارادت الام الجاهلة تخويف ابنها ذكرت له ان الثعبان يظهر في هيئة قط اسود. والحكاية قد ينساها الطفل اذا شب ولكن العاطفة تبقى راسخة في العقل الباطن تذكره وهو في سن الرجولة.

هناك فرق بين العقائد والمعارف, فالمعرفة تخضع للعقل الواعي. وتتغير او تتطور وفقا لما يراه من تعديل وتصحيح . ثم هي لا تحدث في انفسنا عاطفة من الحب والكراهية . فنحن نعرف ان الارض اكبر من القمر, وكل ما نطلبه ان نفهم كيفية تحقيق هذا القول, فأذا اثبت لنا التحقيق صحة هذا القول سكنا اليه. ولكن ربما نبالغ اذا قلنا ان المعرفة لا تحدث عاطفة. بل بالعكس فان المعرفة تحدث العاطفة ثم الرغبة , ثم الارادة , ثم الفعل . لكن يبدو لنا ان المعارف العلمية تكاد لا يكون فيها عاطفة. كأن التفكير يقف في طوره الآول وهو المعرفة. ولكن الواقع ان العاطفة تكون احيانا على قدر من الضعف بحيث لا تحدث لنا حزنا او غضبا محسوسا اذا كنا في حالة خاصة, وقتذاك قد يخطر بذهننا فكرة جليلة.

اما العقيدة فتخضع للعقل الباطن, وهي عاطفة قوية. ولذلك فأننا قد نرى فيها الخطأ واضحا لو نظرنا اليها بعقلنا الواجد ولا نستطيع مع ذلك النزول عنها. مثل الذي يشمئز من لمس السيكارة في المثال السابق فمعرفته تناقض عقيدته. ولكن الثانية تتغلب على الاولى وتكيف اخلاقه وتطبع ذوقه. ولهذا السبب يكره المؤمن ايا كان دينه ان يناقشه احد في عقيدته. مع ان الباحث في العلوم الطبيعية مثل الجغرافية و الفيزياء، فهو على عكس رجل الدين، انه يحب المناقشة ولا يخشاها. وذلك لآن للأول عقيدة وللثاني معرفة.

واول ذلك ان الرجل الذكي تتغلب معارفه على عقائده. فهو لذلك هادئ الطبع نادرا ما ينفعل, فضلا عن انه سريع التطور يسير مع الزمن. كما هي الحال في الامم التي تزدهر فيها العلوم كالطب والهندسة والتكنولوجيا وعلم الفضاء. بينما الحالة في الامم المتأخرة هي على عكس ذلك حيث ان العقائد تزدهر. ولذلك فالاولى تميل الى التغيير والتعديل والتطوير, بينما الثانية، تميل الى التخلف والتحجر.

واذا كان المستقبل للعقل الواجد الذي يزداد قوة واحاطة وسيطرة على الحياة, فسوف تفوز فيها المعارف على العقائد. ولكن لما كانت المعارف ضعيفة العواطف بجانب العقائد, فأن انسان المستقبل سيكون بلا شك ضعيف العواطف جدا لا يغضب ولا يحزن ناهيك انه لا يخاف.

* مقتبس بتصرف من كتاب فن الحب والحياة لسلامة موسى مع اضافة لكاتب السطور.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here