أهلا مارسيل بروست ! : أو بالأحرى كأنما تجد نفسك فجأة في صالة ذكرياتك !

أهلا مارسيل بروست ! : أو بالأحرى كأنما تجد نفسك فجأة في صالة ذكرياتك !
بقلم مهدي قاسم

قررتُ أن أستغل أيام أعياد الفصح الثلاثة لأرتب مكتبتي ، حيث تراكمت مئات كتب جديدة ليغطي بعضها على كتب قديمة التي اشتريتها أو جلبتها معي من العراق أثناء زياراتي السابقة ، حيث لم يتسن لي وقت كاف لقراءتها حسب أهمية وأولوية الكتب التي عندي ـــ تراتبيا ــ من ناحية الأفضلية والمتعة الفنية وأهمية الكاتب ..
مع أنه سبق لي أن قرأتُ كتبا ليست بذات أهمية فكرية أو إبداع فني مهم لكوني لم أجد غيرها من كتب جديدة في تلك الاثناء ..
ومن خلال قيامي بعملية الترتيب لفت نظري كتاب سميك بغلافه المصفّر والمغّبر وعندما تفحصته وإذا به عبارة عن رواية ” البحث عن الزمن المفقود ” للفرنسي مارسيل بروست ، فهتفتُ مرحّبا ، مسرورا :
ــ يا أهل ! .. يا أهلا بك يا مارسيل بروست ضيفا عزيزا في بيتي .. ولو منسيا بعض الشيء ..طبعا مع أسفنا الشديد لهذا النسيان غير المقصود !.

ثم اكتشفت للتو أنني قد سبق لي أن قرأتُ هذه الرواية في السبعينات من القرن الماضي ، عندما كنتُ شابا فتيا ، يافعا ، مشغولا بأمور الحاضر ـــ آنذاك ـــ وليس بذكريات ماض غابر وسحيق ، دون آن تترك الرواية ذلك الأثر الفني العميق بين تلافيف نفسي من دمغة كبيرة أو دمعة صغيرة، أما الآن ــ أي بعدما مرور كل هذا الوقت الطويل كمرور قطار سريع بين أنفاق العمر الطويلة بين مضيئةو معتمةــ وبعدما أزحتُ وشاح الغبار و أصابع الزمن عن قامة ” البحث عن الزمن المفقود ” بلطف ورقة وكأنني أداعب خصلات حبيبتي ! ــ فأحسستُ كأنما أوعز لي عقلي الباطني بأنني سأقرأ الرواية في هذه المرة بذهنية أخرى ، بذهنية ناضجة ، مستوية ، مكتظة ، زاخرة ، ومحمّلة بتجارب وأحداث ضخام ومثخنّة بطعنات عميقة حينا ، و جميلة ممتعة بمسرات في آن ، كانت قد مرت عليّ في العقود الماضية بهدير أمواجها الكاسحة وعصفها الجارف ..

إذ وجدتُ أثناء القراءة أنني كلما أوغلت في صفحات الرواية وفقراتها المكثفة وصورها المتجسِدة ، مثل عيون كاميرا فضولية ونهمة لأدق تفاصيل وجزئيات صغيرة !، متحولة إلى كينونة نابضة ومثيرة حقا ، كأنني أقرأ ذكرياتي الشخصية ، فثمة عبارة هنا أو فقرة هناك ، تُثير مخيلتي بتموجات بروق سريعة و تجعلني التوقف عن القراءة ، مؤقتا ، لأقوم باسترجاع ذكرياتي أنا ، عبر تداعيات متعددة من مستويات أزمنة مختلفة ومتداخلة ولكن بوضوح كامل ، بل أن أتذكر ما كانت مدفونة ــ أصلا ــ بين بواطن اللاوعي أو منسحبة ، منسية في زوايا بعيدة وظليلة من ذاكرة مثقلة و متزاحمة ثرية بمدخراتها الزاخرة..

فهذه الرواية تحيل الذاكرة إلى شاشة متوهجة ومتحركة بكثافة وكثرة صورها الباذخة ، كأنما المرء أو القارئ يجلس في صالة عرض لذكرياته ، ليضع الرواية جانبا ، وهو مستغرق بالكامل ، منقطعا ، عن ضجيج وهدير عوالم الخارج ليستعيد مجمل ذكرياته هو ليس ذكريات بطل الرواية .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here