مهدي حبيب معدوما على حافة ” الخط المائل ” : من بعثي إلى شيوعي

مهدي حبيب معدوما على حافة ” الخط المائل ” : من بعثي إلى شيوعي

مهدي قاسم

الحلم……..

كنا جالسين تحت ظلال كثيفة من أشجار نخيل شامخة رؤوس تتراقص على هبة رياح خفيفة ، بالكاد ميزت ملامحه الغامضة و المموهة بفعل بهوت و شحوب ضياء النهار ، ثم تيقنت بعد تفكير سريع أنه ليس سوى صديق طفولتي و فتوتي مهدي حبيب ، فاقترح علي أن نذهب لنسبح في النهر ، مثلما كنا نفعل في أيام الصيف الطويلة بعد انتهاء الدراسة ، فصعدنا تلة مرتفعة تطل مباشرة على النهر ، بعدما نزعت ملابسي أفردتُ ذراعّي كجناح نسر أو نورس فرميت نفسي في النهر بضجة عالية غائصا في العمق لاهثا وانفاسي على وشك النفاد ، وعندما صعدت على السطح كان مهدي لا زال مترددا في القفز لوحت له مشجعا فقفز هو الآخر وبدلا من أن يسقط في وسط الماء ارتطم جسده على حافة النهر أولا ومن هناك انزلق نحو الماء وهو يطلق آهات الألم فخمنت أنه قد تحطمت إحدى ساقيه بفعل الارتطام الشديد على الصخور الناتئة وأنه على وشك يغوص نحو قاع النهر العميق ، فأسرعت لإنقاذه من الغرق الوشيك غير أنه تشبث بي بطريقة جعلت حركاتي مشلولة بحيث بتنا كلينا مهددين بالغرق فبحركة رشيقة ومباغتة خلصت نفسي من مسكته وتشبثه الشديد واندفعت نحو سطح الماء بأنفاس متقطعة توشك على النفاد الكلي ..

مشاجرة صبيان …..

فتحت عيني وأنا لا زلت الهث متعرّقا ومصدوما من ضراوة حلم رهيب .

من ضراوة واقع صلب وخانق متذكرا و ناسجا خيوطا واهية من ضبابية أزمنة غابرة لأصنع صورة تقريبية لذلك الحلم المباغت ليكتسب ملامح واقعيته الفعلية ، ثم أخذت شظايا مشاهد تجري وتتكون بشيء من وضوح على نحو تال :

كنا مجموعة صبيان جالسين على قارعة الطريق عندما مر جدي من طرف امي فانبرى أحد الصبيان واسمه مهدي حبييب فشتم جدي فاندفعت أنا ضاربا إياه بلكمة على صدغه الذي تورم بحجم بيضة ثم اشتبكنا بعراك قصير انتهى بفصل بيننا مع تهديد متبادل بالويل وعظائم الأمور في أيام مقبلة !.

قبل أن أصل إلى البيت كان خبر العراك قد سبقني فكنتٌ انتظر توبيخا من والدي بسبب ذلك ولكنني تفاجئت بهدوئه بل بشيء من ظل ابتسامة على ملامح وجهه فسألني مفتعلا نبرة اهتمام :

ــ لماذا تعاركتما ؟

ــ شتم جدي من طرف أمي

فرد بنفس الهدوء

ــ عادي !..

ــ كيف عادي ؟

ــ لأن جدك خاله من طرف أمه إذن فهو شتم خاله ، ففي النهاية أن مهدي حبيب قريبك أيضا ..

لقد أُسقط في يدي مثلما يُقال ..

بعد حيرة قصيرة وحكة جبين و تفريك اصابع وجدت نفسي أضحك أنا الآخر :

إذ تعاركتُ مع قريبي دفاعا عن جدي الذي هو خاله من طرف والدته !..

من بعثي إلى شيوعي :

بعد ذلك أصبحنا أنا ومهدي أصدقاء حميمين ، خاصة بعدما اكتشفنا أننا أقرباء أيضا ، ثم شاءت الصدف أن انتقلنا نحن الاثنين إلى العاصمة بغداد بعد ما توظفتُ أنا في شركة صناعة المشروبات الغازية ، بينما هو اشتغل في شركة إسالة الماء بعدما اكتسب حرفة مد أنابيب المياه الصالحة للشرب ، ثم سكنا في بيت واحد للايجار فغالبا ما كنا نتنزه سويا عند شارع” أبونواس” أو نذهب إلى السينما ، فضلا عن قيامنا ببعض مغامرات ” نسائية “يتيمة ، طبعا ، حسب الظروف المتاحة في حالات نادرة جدا !..

في هذه الاثناء بدأت ألاحظ عند مهدي حبيب شدة اهتمامه وقراءته لجريدة ” طريق الشعب ” يبتاعها ذاهبا إلى العمل ، ثم يستغرق بقراءتها باهتمام وجدية ، ففكرتُ أنه ربما قد جرت عملية كسبه إلى “الصف الوطني ” ( كنا نستخدم هذه العبارة ، أحيانا ، مزاحا ، وبدافع الطرافة بين أصدقائنا الشيوعيين لما لهذه العبارة من التزامات و تضحيات ومخاطر جدية على حياة على المنتسب أو المنظم ) وخاصة في ذلك الوقت العصيب حيث بدأت أجواء القمع والملاحقات والاعتقالات الشديدة تطال الشيوعيين في الوقت الذي وهم في جبهة واحدة مع البعثيين والتي اتضحت فيما بعد أنها كانت جبهة غدر وكمائن للإيقاع بالشيوعيين!! ، وكنت أسمع عن اعتقال العديد من معارف و أصدقاء واختفاء عدد آخر منهم ، و التقي مع بعض ثالث وهو متورم الوجه ومثقل بكدمات بعد إطلاق سراحه كأثار تعذيب ، فكنت أنبه محذرا مهديا من مغبة حمله جريدة طريق الشعب وهو في محل عمله ،إذ قد تعرضه لشبهات ومراقبة وهو بغنى عنها ، فلاحظتُ أنه لم يعجبه تنبيهي فكففتُ عن ذلك ..

وبعد فترة قصيرة تفرقنا ، إذ ذهب كل واحد منا ساكنا في بيت آخر ومستقل عن بعضنا بعضا دون أن نلتقي إلا نادرا جدا ، وكم كانت صدمتي كبيرةعندماعرفتُ ، فيما بعد ، أن مهديا قد اُعتقال بتهمة ” الخط المائل “، فسألت دون أن أفهم شيئا :

ــ ما معنى ” الخط المائل ” وماذا يعني بالضبط ؟!..

فقالوا لي موضحين أكثر :

ــ أنه يعني الانضمام إلى حزب آخر في الوقت الذي لا زال هذا الشخص عضوا في حزب البعث ..

وقد زدتُ دهشة مع عدم فهم لمسألة وجود ربط بين هذا وذاك فسألتُ من جديد :

ــ وما علاقة مهدي حبيب بهذا الأمركله على الإطلاق ؟..

ــ يُقال أنه كان بعثيا وفي أثناء ذلك أصبح شيوعيا !، فهذا هو سبب اعتقاله واحتمال إعدامه أيضا ..!ّ.

قلت مع نفسي إذن فهو أيضا قد جرفته عملية التبعيث القسرية ، حيث تعرض أولئك الذين قاوموا عملية التبعيث البغيضة هذه ورفضها بكل إصرار وقوة ـــ من ضمنهم أنا أيضا ــ فقد تعرضوا لضغوط نفسية واستفزازات ومضايقات شديدة مصحوبة بتهديدات كانت أحيانا تنتهي باعتداءات مباشرة من خلال افتعال مواقف وظروف لتبرير ذلك ، وصلت أحيانا لحد استحالة ممارسة الوظيفة بهدوء وسلام وبالتالي فلا خلاص من عملية التبعيث القسرية إلا بترك العراق إلى ديار الغربة..

في زيارة لأم صدام صبحة طلفاح لطلب الرحمة والشفقة !:

وعبثا بذلت والدة مهدي حبيب كل المستحيل لإنقاذ حياة ابنها المهددة بإعدام وشيك ، ومن ضمنها السفر إلى تكريت لغرض التضرع والتوسل لأم صدام ” صبحة طلفاح ” على أمل إثارة الرحمة والشفقة في قلبها ـــ باعتبارها أم هي الأخرى ــ بهدف التدخل وتغيير حكم الإعدام إلى المؤبد ــ على الأقل ، فلم يسمحوا لها بالوصول إليها ، وعندما توسلت لرجال الأمن الذين اعترضوا طريقها ، باكية منتحبة ، طالبة منهم الشفقة والرأفة، فإنهم هددوها بأنها إذا لا يرجع قهقرى على أعقابها من حيث أتت فأنهم سيطلقون عليها كلابا متوحشة ومتدربة لهذه الغاية ..

تنفيذ حكم الإعدام…..

وبعد مرور شهور قليلة جرت عملية تنفيذ قرار حكم الإعدام بمهدي حبيب ، وهو لازال في مقتبل العمر شابا يافعا ، متزوجا حديثا ، دون أي ذنب يُذكر، ما عدا أنه انتمى إلى أحزاب وربما دون أن يفهم أو يدرك جيدا ما هي أفكار ومبادئ البعث ، بقدر ما ترك نفسه منجرفا مع تيار التبعيث القسري ، أسوة بالكثيرين الذين انتموا للبعث ليس عن قناعة إنما بإكراه أو بدافع الحصول على عمل ، مثلما أصبح شيوعيا دون إطلاع واسع وعميق على المبادئ الشيوعية بقدر ما انتمى لكونه كان عاملا ” كادحا ” فأقنعوه إن مكانه المناسب بين صفوف حزب يدافع عن حقوق العمال والكادحين !..

ففي النهاية أن مهدي حبيب قد قتلته ـــ بالدرجة الأولى والأخيرة ــ العقائد والأيديولوجيات الشمولية ، وهي نفس العقائد والأيديولوجيات الشمولية التي تقتل الآن المتظاهرين والناشطين المدنيين ولكن بذرائع ومسميات دينية ومذهبية أخرى ..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here