لنفتتح عامنا الجديد بشرف الضمير و الاخلاق !

لنفتتح عامنا الجديد بشرف الضمير و الاخلاق ! (*) د. رضا العطار

لقد أثار بعض الباحثين من المستشرقين في القرن العشرين مسألة خلو اللغة العربية من مفهوم Conscience التي نترجمها ب (الضمير) في عبارة (الضمير الاخلاقي) . وهي كلمة ذات شأن في الفكر الاوربي. هم يميزون في معنى لفظ (الضمير) بين المعنى السيكولوجي، وهو ما نترجمه ب (الشعور) (الشعور بالوجود، الشعور بالقلق، الشعور بالذات الخ). وبين المعنى الاخلاقي وهو ما نترجمه ب (الضمير) وب (الضمير الاخلاقي) تحديدا، ويقصدون به الملكة التي نصدر بها احكام القيمة وهي من طبيعة اخلاقية، فهو بهذا الاعتبار منبع الاخلاق.

ومن الذين كرسوا هذا المعنى في الفكر الاوربي الحديث الكاتب السويسري (الفرنسي) جان جاك روسو الذي يقول في كتابه إميل : (انظروا الى جميع امم العالم وتصفحوا التاريخ كله، فستجدون انه يوجد في عدد كبير من العبادات الانسانية والغربية وفي العادات والطبائع الكثيرة المختلفة المتباينة، نفس المعاني و الافكار عن العدل والصدق والاستقامة، ستجدون لديهم جميعا نفس التصورات عن الخير والشر . . هناك إذن في اعماق النفوس مبدأ فطري للعدالة والفضيلة به نحكم على افعالنا وافعال غيرنا من الناس بالحسن والقبح. هذا المبدأ هو ما اعنيه بالضمير.
فكأن العقل خاص بالمعرفة والضمير خاص بالاخلاق.

وقد لاحظ بعض المستشرقين ان الثقافة العربية الاسلامية ليس فيها مثل هذا اللفظ الذي يدل على هذا المبدأ، واستنتجوا من ذلك ضعف الجانب الاخلاقي فيها، جانب القيم . . والحق ان عبارة (الضمير الاخلاقي) من العبارات الحديثة في اللغة العربية، فهي وليدة الترجمة من اللغات الاجنبية في العصر الحديث، بل ان كلمة (ضمير) نفسها مع انها موجودة في اللغة العربية منذ القدم، فهي لا تحيل الى مبدأ الاخلاق. ففي لسان العرب (الضمير) السر وداخل الخاطر، وجمع الضمير الضمائر. الضمير : الشيء الذي تضمره في قلبك. تقول أضمرت في نفسي شيئا واضمرت الشيء، اخفيته.
لكن هذا المعنى اللغوي لكلمة (ضمير) لم يمنع بعض المؤلفين القدامى من استعمالها في معنى (الضمير الاخلاقي).

ومع ذلك فغياب كلمة في لغة من اللغات لا يعني بالضرورة غياب المفهوم الذي تفيده. وهذا ما لاحظه بعض المستشرقين انفسهم مثل جولد زيهر الذي رد على الزعم السابق بالقول : (وقد حاول بعض الباحثين التدليل على قلة القيم الدينية والاخلاقية للاسلام بالاستناد الى حجج ترجع الى اللغة التي ظهرت بها تعاليمه، فقد قالوا مثلا :
ان الاسلام خال من الفكرة الاخلاقية التي نسميها الضمير، محاولين ان يسندوا هذا الزعم بان اللغة العربية نفسها وسائر اللغات الاسلامية خالية من كلمة خاصة للتعبير تعبيرا دقيقا عما نقصده من كلمة ضمير.
يعترض جولد زيهر على ذلك مستشهدا بقول القائل (ان النقص في اللغة لا يفترض حتما نفس النقص في القلب. ملاحظا ان هناك لغات ليس فيها كلمة (شكرا) مثلا، ويتسائل فهل هذا دليل على انه لا مكان فيها للعرفان بالجميل. كما يشير الى الجاحظ لما تردد على لسان بعض معاصريه من ان خلو لغة الروم من كلمة (الجود) دليل على بخلهم، وان خلو اللغة الفارسية من كلمة (نصيحة) دليل على (الغش الغريزي الذي فيهم) ! ثم ان كلمة ضمير في اللغات الاوربية يعبر عنه في اللغة العربية بكلمات اخرى في مقدمتها : القلب . . . يقول زهير بن ابي سلمى في معلقته :

ومن يُوف لا يذمم ومن يُهد قلبه * * * الى مطمئن البر لا يتجمجم

وفي القرآن آيات كثيرة تفيد هذا المعنى، منها قوله تعالى ( وليس عليكم جناح فيما اخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم)
(الاحزاب) وايضا (ولا تكتموا الشهادة، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه) (البقرة) وجميع هذه الايات تربط المسؤولية الاخلاقية بالقلب . . وهكذا فالقلب من جهة هو و(العقل) بمعنى واحد كما بينا ذلك آنفا. وهذا المعنى هو التمييز بين الحسن والقبيح. بين الخير والشر. ومن جهة اخرى (القلب) موضع الحساسية الاخلاقية ينفعل بالحسن والقبح، فأتجاه الفعل فيه ليس المقارنة والتمييز ليس الى (الخارج) كما في العقل، بل هو احساس يتجه الى (الداخل) الى النفس والوجدان . فالحسرة والامل والغم والفرح الخ حالات للنفس مرتبطة بالقلب كغيرها من (الوجدانيات).

* مقتبس من كتاب العقل الاخلاقي العربي لمؤلفه د. محمد عابد الجابري. بناية النهضة، الحمرا، بيروت 2014

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here