على مفترق الطرق (*) في 5ح، تنشر السبت من كل اسبوع، ح 1

على مفترق الطرق (*) في 5ح، تنشر السبت من كل اسبوع، ح 1
د. رضا العطار

هذا المقال نشره الاديب المعروف سلامه موسى في كتابه – اليوم والغد – عام 1928 في القاهرة . ونظرا لغرابة مواقفه، ارتأيت ان يطلع عليه القارئ النبيه وله ان يقرر فيما لو اراد ان ينتفع به.

مضى علينا 130 سنة ونحن في موقف المتردد بين الشرق والغرب . لا ندري هل نحن شرقيون يجب ان نسير على ما سارت عليه شعوب آسيا ام غربيون يجب ان ننضم الى اوربا قلبا وقالبا . نعتاد عادات الاوربين ونلبس لباسهم وناكل طعامهم ونقلدهم في ادارة الدولة والاسرة والمجتمع , وكذلك في الصناعة والزراعة .

وقد شرع نابليون يغرس فينا الحضارة الاوربية ويزيل عنا كابوس الشرق . وكانت اولى بركاته علينا ان شتت شمل المماليك وكان هؤلاء عارا علينا. يؤتى بهم صبيانا لغرض افساد اخلاقنا حتى اذا شبّوا حملوا السيف وعاثوا في بلادنا واذلّوا ابائنا، وكانت ثانية بركاته انه اسس لنا مجلسا نيابيا هو اول الانظمة النيابية في مصر. ثم جاء محمد علي فأعتمد على فرنسا في تمدين البلاد. وارسل البعثات الطلابية الى اوربا بغية تعليم الثقافة الحديثة .

ثم استمررنا نتراوح بين الشرق والغرب حتى زمن الخديوي اسماعيل حين راى ببصيرته انه لا بد لنا من ان نتفرنج ونقطع الصلة بيننا وبين آسيا . فأسس مجلسا نيابيا ومجلس وزراء ينتهج في سياستة مبدأ هارون الرشيد . ثم وزع علينا الملابس الافرنجية وزوّج شبابنا بفتيات شركسيات كي يسكب ابنائهم البشرة البيضاء . وقد حاول المصلح عرابي ان يتابع خطته, لكن خيانة الاعراب البدو حالت دون تحقيق هدفه السامي.

وجاء الانكليز وساروا بنا شوطا بعيدا في ادخال الاساليب الاوربية في ادارة الدولة ولكنهم كانوا يرمون الى غرض استعماري . وها نحن مترددين بين الشرق والغرب , فلنا من جهة حكومة تعمل على الاسلوب الاوربي ومن جهة ثانية لنا وزارة الاوقاف والمحاكم الشرعية تؤخر تقدم البلاد. ولنا جامعة تبعث بيننا ثقافة العالم المتمدن ولكن جامعة الازهر تبث بيننا ثقافة القرون المظلمة.

لنا افندية لهم بيوت نظيفة يقرأون كتبا سليمة ولكن الى جانبهم شيوخا يلبسون القفاطين ويتوظئون على قارعة الطريق , ولا يزالون يسمون المسيحين واليهود – كفّار- فنحن وان كان معظم رجالنا غربيون في افكارهم ومعيشتهم , الا ان معظم نسائنا لا يزلن يعشن كما تعيش الهندية, تحتجب وتقتصر حياتها على الطبخ وتنظيف المنزل .

هل نحن شرقيون ؟ . ان للألفاظ تاثير كبير في العقول . فاذا كنا قد غرسنا في ذهن المصري انه شرقي , فانه لا يلبث ان ينشأ على احترام الشرق وكراهة الغرب .
وينمو في نفسه كبرياء شرقي ويحس بكرامة لا يطيق ان يجرحها احد الغربيين بكلمة . فينشأ على كراهة الحضارة الغربية . ويقاومها ولا يقلدها الا مقهورا مغلوبا على امره .
ولكن الواقع اننا لسنا شرقيين . وانما جاءنا هذا الاسم من اننا كنا تابعين للدولة الرومانية الشرقية. والاوربي يطلق كلمة – شرقيين – عادة لا على الصينيين واليابانيين فحسب انما على اتراك اسطنبول وعرب سوريا ومصر كذلك.

فأطلاق اسم الشرق على مصر خطأ فاحش . فقد عشنا نحن نحو الف سنة ونحن جزء من الامبراطورية الرومانية. بل في اللغة العربية نفسها اكثر من لفظة رومانية واغريقية, تدّل على مقدار شمول النفوذ الروماني والثقافة الاغريقية للعرب . فلا نحن ولا العرب امّة شرقية بالمعنى الذي نفهمه عندما نقول ان اليابانيين شرقيون . ونحن اذا رأينا اقبح امرأة اوربية لقلنا انها جميلة اذا ما قورنت بأجمل امرأة صينية, لان ذوقنا ودمنا هما الذوق والدم الغربي .

ثم نحن في هيئة الوجه اوربيون . ولو لبس العربي قبعة, لما استطاع احد ان يميزه عن الايطالي والاسباني . ولكن مهما لبسنا فأننا نتميز عن الصيني و الاندنوسي او الياباني . واخيرا يجب ان نقول ان – اليوت سمث – قد اثبت ان الشعب الاول الذي سكن مصر لا يختلف البته عن الشعب الذي سكن انكلترا قبل 4000 سنة . وبين المصرية القديمة والانكليزية الراهنة مئات الكلمات المشتركة لفظا ومعنى .

ولكن ليس معنى ذلك ان الدم الشرقي لم يتسرب الى عروقنا. فأنه للاسف قد تسرب, وقد جلبه علينا العرب بما فتحوه من الاقطار الاسيوية . فمنذ القرن الثالث الهجري تعرضنا الى غزو الاخشيديين الذين تدفقوا من اواسط اسيا, واختلطت دماؤهم الاسيوية بدمائنا, ثم جاءنا المماليك الاتراك ثم العثمانيون الاتراك . بل قبل ذلك في ايام الفراعنة حلّ الهكسوس و امتزجوا بالمصريين . لكننا مع كل ذلك بقينا اوربين في تقاسيم وجوهنا ونزعات نفوسنا. ويجب الا ننسى ان الاسيويين قد دخلوا اوربا وانتشروا فيها, وكثير من الرؤوس المستديرة في فرنسا وسويسرا والمانيا اليوم يرجع الى اصل اسيوي.

ولكن تعصب بعضنا للشرق هو تعصب للقديم اكثر مما هو للشرق . فهم يستمسكون بالشرق لكي يتعللوا به في كراهية الغرب . ويستمسكون بالقديم كبرياء وانفة بدلا من ان يقال نحن الشرقيون قد افلسنا امام حضارة اوربا . وقد شعرت انا نفسي بمثل هذا الشعور سنة 1910 حين كتب السر – هري جونستون – مقالا في صحيفة – ذي نيو ستيتسمان – يطلب فيه الغاء جامعة الازهر بالقاهرة لانها مبعث التعصب . فرددت انا عليه انكر ان يكون الازهر مبعث تعصب لاني شعرت ان كرامة هذا المعهد ملتصقة بكرامتي الوطنية , فما يشينه يشينني . لكنني اذا حاورت مصريا في شأنه, لا اتردد في الطلب بألغائه والاكتفاء بالجامعة المصرية لانها اداة الثقافة الحديثة النيرة . اما الازهر فهو اداة الثقافة المظلمة. ثقافة القرون الوسطى .

اننا نطلق على انفسنا صفة الشرق بلا حق . لاننا غير شرقيين . ثم نتعصب لهذا الشرق . ونقيم في اذهاننا منه غرضا , نكره به الغربيين والحضارة الغربية . ثم نتعصب للقديم انفة منا , ونسمي هذا القديم ايضا – شرقا – فنتعلل به لكراهة الغرب . ولكن الواقع ان هذا القديم ليس فيه شئ من الشرق . والازهر الان لا يختلف عن جامعات اوربا قبل 700 سنة. انه يعرف ارسطو طاليس الاغريقي , لكنه لا يعرف بوذا الهندي او كنفو شيوس الصيني . فحقيقة الازهر انه جامعة اوربية اسسها رجل اوربي هو جوهر الصقلي قائد الجيش الفاطمي الذي غزا مصر قبل الف سنة . وعيبه الوحيد انه قديم يشتغل بثقافة بائدة في عصر حديث . وايثاره على الجامعة المصرية يشبه ايثار الجمل على السيارة , او الحمار على الطيارة . فاذا كنا نحب السير مع اوربا , فليس ذلك لاننا والاوربين من دم واحد واصل واحد , بل انما لان ثقافتنا تتصل بثقافتهم من عهد مدرسة الاسكندرية ومجمع أثينا قبل الميلاد . وايضا لان حضارتها هي حضارة العالم الحديث اجمع.
الحلقة التالية في الغد ّ!

* مقتبس من كتاب اليوم والغد للعلامة سلامة موسى.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here