على مفترق الطريق (*) ح 2

على مفترق الطريق (*) ح 2 د. رضا العطار

هذا المقال نشره الاديب المعروف سلامة موسى في كتابه ـ اليوم والغد ـ في القاهرة عام 1928 ونظرا لغرابة موقفه ارتأيت ان يطلع عليه القارئ النبيه وله ان يقرر فيما لو اراد ان ينتفع به.

ان الاعتقاد باننا شرقيون قد بات عندنا كالمرض . ولهذا المرض مضاعفات . فنحن لا نكره الغربيين فقط , ونتأفف من طغيان حضارتهم فقط , بل يقوم بذهننا انه يجب ان نكون على ولاء للثقافة العربية . فندرس كتب العرب ونحفظ عباراتهم عن ظهر قلب وندرس ابن الرومي ونبحث عن اصل المتنبي ونتعصب للجاحظ ونحاول ان نثبت ان العرب عرفوا الفنون كالتصوير والنحت على الرغم من تحريم الاسلام لهما وكل ذلك انما يدفعه في انفسنا كراهة للغرب وانفتنا من جهة واعتقادنا اننا شرقيون من جهة اخرى .

لكن الواقع ان ثقافة العرب القديمة لا تختلف عن ثقافة اوربا القديمة . وقد كانت كلتاهما تستقيان من معين واحد هو الفلسفة الاغريقية . فإذا نحن المتجددين دعونا الى ان يترك العرب ثقافتهم القديمة , معنى ذلك انا دعونا الى التطور والخروج من تلك القيود الاغريقية القديمة , والسير في الثقافة الحديثة .

وليس علينا نحن المصريين للعرب اي ولاء . وادمان الدرس لثقافتهم مضيعة للوقت للشباب وبعثرة لقواهم . فيجب ان نعودهم على الكتابة بالاسلوب المصري الحديث . لا بالاسلوب العربي القديم . ويجب ان يعرفوا اننا ارقى من العرب الذين عاشوا قبل الف سنة . وليس معنى هذا تحريم درس تاريخ العرب وثقافتهم . فان العرب امّة قديمة يجب ان يكون لها اثريون , يدرسونها كما يدرسون اشور وبابل .

يجب ان يكون لنا أدب خاص يتسم بسمة القرن الحاضر , ويجري على لغته . ويسير على نهجه . ويجب ان ننظر الى لغة النابغة او المتنبي كما ننظر الى اللغة الروسية او الايطالية , لانها ليست لغتنا ولسنا نستفيد بدرسها . ثم يجب ان نذكر ان الادمان على درس ثقافة العرب يشتت الادب المصري ويجعله شائعا لا لون له.

ليس من مصلحة الشاب المصري ان يقف على ادب العرب ويتلمسه مباشرة من الكتب القديمة , فانا لااحب مثلا ان تقع عين فتى او فتاة على الاشعار المذكورة في كتب الادب العربي بشأن الغلمان . ومهما احسنا الاعتقاد في الاثر الذي تتركه قراءة هذه الاشعار . فأننا لا يمكن ان نغضي الطرف عما يفعل ايقاع هذا الشعر في نفس الشاب من رذائل .

وكم من شاب رايناه يتغنى بهذه الاشعار ويمارس الرذائل التي تقول بها . والنفسلوجية الحديثة تقرر انه لا يرد بالراس خاطر ليس له اثر في النفس والخلق . ثم لست احب ان يقرأ الشباب ان احد قواد العرب وهو يزيد بن المهلب، عجن الدقيق بدماء اعدائه وخبز منه الخبز واكله. وكذلك ليس من مصلحة بلادنا الدستورية ان يمدح هارون الرشيد, مع انه كان حاكما مستبدا لا يختلف اي اختلاف عن عبد الحميد الذي خلعه الاتراك عن عرشه .

فالحكومة العربية كانت في ارقى واحسن اوقاتها حكومة استبدادية . ولا عبرة لما يقال بان الاسلام يامر بالشورى . فان عمر بن خطاب لم يكن يستشير احدا . دع عنك انه ليس في الشورى معنى الالتزام . وجميع خطب الخلفاء تثبت انهم كانوا ينظرون الى انفسهم نظرا بابويا . بل البابا نفسه اذا قيس بهم في بعض الوجوه , يعد دستوريا .

لنا من العرب الفاظهم فقط , ولا اقول لغتهم . بل لا اقول كل الفاظهم . فاننا ورثنا عنهم هذه اللغة العربية . وهي لغة بدوية لا تكاد تكفل الاداء اذا تعرضت لحالة مدنية راقية كتلك التي تعيش بين ظهرانينا الان . فها انا ذا في غرفتي هذه لا اعرف كيف اصف اثاثها بالعربية . ولكني استطيع اجادة وصفها بالانكليزية . واللغة العربية مع ذلك لغة شاقة ترهق الذهن في حفظ قواعدها التي لا تنتهي .

لقد كان الاديبان قاسم امين ولطفي السيد على حق , عندما نصحا باستعمال العامية المصرية بدلا من العربية الفصحى . وهذا ما يجب نحن ان نفعله . يجب ان ننظر الى لغة امرئ القيس وابي تمام كما ننظر الى لغة شكسبير . فلا نستعملها في لغتنا . وانما نستعمل العامية المهذبة . التي تخاطب بها امهاتنا واولادنا لانها هي اللغة الحية . وهي انما تجري على السنتنا بعد موت اللغة الفصحى , لانها قد نازعتها البقاء وتغلبت عليها لفضها . هذا اذا فرضنا ان اللغة الفصحى كانت يوما ما يتكلم بها الناس , اي انها لغة ميتة حتى في زمن ظهور القرآن .

لكن تعليم العربية في مصر لا يزال في ايدي الشيوخ الذين ينقعون ادمغتهم نقعا في الثقافة العربية , اي في ثقافة القرون الوسطى . فلا رجاء لنا باصلاح التعليم حتى نمنع هؤلاء الشيوخ منه . ونسلمه للافندية . الذين ساروا شوطا بعيدا في الثقافة الحديثة .
ونحن انما ننزع للغة العرب القديمة لما تاصل في اذهاننا من ذلك الغرض السخيف , وهو اننا شرقيون يجب علينا ان نحافظ على كرامة العرب وندافع عن تاريخهم . وهذا الاعتقاد في شرقيتنا يجر علينا عددا من الكوارث قد لا يكون الولاء للغة اهونها .

ان الرابطة الشرقية سخافة واحدى كوارث هذا الاعتقاد في شرقيتنا , اهتمامنا بالشرق دون الغرب . حتى لقد تاسست في القاهرة جمعية تدعى – الرابطة الشرقية – فيها اعضاء من الهند وجاوه والصين . فما لنا ولهذه الرابطة ؟ واية مصلحة تربطنا باهل جاوه ؟ وماذا ننتفع منهم , وماذا هم ينتفعون منا ؟

اني اعتقد اننا لو كنا شرقيين حقا , لكانت هذه الرابطة من اسخف الروابط , فان جميع الدول الشرقية التي تدخل في هذه الرابطة من الغجر بحيث لا تنفع نفسها ولا تستطيع رد عادية الاجنبي المستعمر عنها , فكيف تدفع عن غيرها هذه العادية ؟ اجل . كيف يقود الاعمى اعمى وكيف يحمل الاعرج اعرجا ؟

اننا في حاجة الى رابطة غربية . كأن نؤلف جمعية مصرية يكون اعضائها من السويسريين والانجليز والنرويجيين وغيرهم , نقعد معهم فنستفيد من شرعة اصلاحية نفذت في بلادهم . يشرحونها لنا . فننتفع بذلك . او فلسفة جديدة ظهرت يعرفوننا شيئا عنها . او آلة جديدة اخترعت نتفاوض معهم في استعمالها عندنا .

مثل هؤلاء الناس الاذكياء نستطيع ان نؤلف رابطة معهم ولكن ما الفائدة من تاليف رابطة مع جاوي .؟ … اننا امة قد سرنا شوطا بعيدا في الحضارة الغربية التي هي منا ونحن منها واذا اراد الشرق ان يسير معنا فنعم ما يفعل, ولكن ليس معنى ذلك ان نسير نحن معه ونتاخر عن اللحاق بالامم الراقية. فنحن بعبارة واضحة في حاجة الى ان نرقي انفسنا قبل ان نشتغل بترقية الشرقيين.

* مقتبس من كتاب اليوم والغد للموسوعي سلامة موسى.

الحلقة التالية في الغد !

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here