على مفترق الطريق (*) ح 3

على مفترق الطريق (*) ح 3 د. رضا العطار

هذا المقال نشره الاديب المعروف سلامة موسى في كتابه ـ اليوم والغد ـ عام 1928 في القاهرة، ونظرا لغرابة مواقفه ارتأيت ان يطلع عليه القارئ النبيه وله ان يقرر فيما لو اراد ان ينتفع منه.

اذا كانت الرابطة الشرقية سخافة لانها تقوم على اصل زائف , فان الرابطة الدينية وقاحة . فاننا ابناء العصر الحديث اكبر من ان نعتمد على الدين جامعة تربطنا . كثير من محررينا يخبروننا عن الاسلام في الصين , مالنا والاسلام هناك ؟ . لقد شبعت تركيا من الجامعة الاسلامية ونفضتها عن نفسها وتخلصت منها . لا لانها اضاعت دينها ولم تعد تؤمن به بل لانها لم تعد تؤمن بفائدة الجامعة الاسلامية , بعد ان جربتها خلال الحرب العالمية الاولى فوجدتها قصبة مرضوضة لا تغني ولا تنفع .

والغريب اننا في الجامعة الاسلامية نتاخر عن الزمن الحاضر بنحو الف سنة . فقد كان لأوربا جامعة مسيحية هي الاصل في الحروب الصليبية . وقد ندمت اوربا على ارتباطها بهذه الجامعة . ولم تعد اليها , بعد ان خسرت فيها الاموال والارواح .
فالدين عبارة عن عقيدة يعتقدها الفرد عن علاقته بالكون . ويبدو لي انه لا يمكن ان يتفق اثنان في العالم في عقيدة دينية , كما لا يتفقان في ملامح الوجه . فديانة المستقبل هي ديانة فردية وليست جماعية , بل هي ديانة صوفية حرّة لا يتقيد فيها فرد مما يؤمن به بفرد آخر او امّة اخرى .

كيف يمكننا ان نعتمد على جامعة دينية ونقول ان الانسان كان راقيا فأنحط . بل انه كان منحطا فارتقى . نعني بها بنظرية التطور . بل كيف يمكن انسانا مستنيرا قرأ تاريخ السحر والعقائد ان يطلب منه ان يحترم جامعة دينية ؟ ان الجامعة الدينية في القرن الحاضر وقاحة شنيعة .

ان الرابطة الحقيقية التي تثبت على قاعدة وترسخ ولا تتزعزع هي رابطة الحضارة والثقافة . هي رابطتنا بأوربا . التي عنها اخذنا حضارتنا الراهنة . ومنها تثقفنا ثقافة جديدة . اجل يجب ان نرتبط بأوربا , وان يكون رباطنا بها قويا . نتزوج من بناتها وابنائها , وناخذ عنها كل ما يجد فيها من اختراعات او اكتشافات . وننظر للحياة نظرها . نتطور معها في تطورها الصناعي . ثم في تطورها الاشتراكي والاجتماعي .

نجعل ادبنا يجري وفق ادبها بعيدا عن منهج العرب . ونجعل فلسفتنا وفق فلسفتها . ونؤلف عائلاتنا على غرار عائلاتها ونسير مع عمالنا بطرق الخير و الاصلاح التي سارت عليها , ونرسل اولادنا اليها ليتعلموا علومها ويتخلقوا بأخلاقها . فالرابطة الغربية هي الرابطة الطبيعية لنا . لأننا في حاجة الى ان نزيد ثقافتنا وحضارتنا بالغرب , لا ان نزيد من ارتباطنا بالشرق .

اننا اذا ارتبطنا بالغرب تعلمنا فلسفة عالمية وادبا راقيا ووقفنا على اختراعات عديدة واكتشافات لا حصر لها ولكن بماذا ننتفع اذا نحن ارتبطنا بالشرق؟
اننا اذا ارتبطنا بالغرب نركب الطائرة ونصنعها ونسكن في بيوت نظيفة ونبنيها ونقرأ كتبا مفيدة ونؤلفها ولكن ماذا نستفيد من الارتباط بالشرق .

ألا يرى القارئ ما جرى له لتعلقه بالشرق الذي يوهمنا دوما اننا امّة شرقية , حتى اننا ليس لنا ما يغذي عواطفنا الان من شعر او موسيقى او رقص وغناء . فرقصنا هو هذا الرقص الاسيوي اللعين . وهو رقص شهواني بهيمي , لا نطيق ان نراه الاّ ونحن سكارى , وقد احتجنا في النهاية الى الغائه تماما . ثم هذا الغناء وهذه الموسيقى الباكية المبكية , نحاول اصلاحها ولكن عبثا . لأنها صارت لا تتفق مع مزاجنا .

ففي العصور الماضية كنا نبكي اثناء طربنا وكأنما نبكي لما كنا نقاسيه من ظلم الاسيويين وتوحشهم . ولكننا نحتاج الان الى ما يبهج قلوبنا ويملأها تفائلا بالحياة . ولن نجد ذلك الا بارتباطنا بالغرب وتقليد ما عند الغربيين من رقص والحان وموسيقى.
اما الشعر العربي , فقد سئمنا قوافيه الرتيبة التي تشبه دق الطبل عند السودانيين.

ولكن هل الغاية من التخلص من آسيا والشرق والتاريخ العربي ان نعود الى وطنية فرعونية مقصورة على مصر وتاريخها ؟
لست اشك في اننا لو فعلنا ذلك لكان اصلح لنا . فمصر وطننا وماذا يعنينا اذا كببنا على درس تاريخه ؟ وخاصة بعد اذ ثبت ان مصر هي اصل حضارة العالم القديم كله . فكأننا ندرس العالم بدرسها , فهو خير لنا ان ندرس الفراعنة من ان ندرس العرب .
لا لانهم جدودنا فقط بل ايضا لأن في درسهم تفتيتا للأذهان . اذ نقف من تاريخ نشوء الحضارة المصرية القديمة على تطور الذهن البشري وايمانه بالعقائد الاولى . وكيف نشأت الاديان والاساطير . واسست الملوكية وحقوق الامتلاك ونحو ذلك . فمعرفة تاريخ المصريين القدماء هي تجربة جديدة لنا .

ولكن صلتنا بالفراعنة قد انقطعت , اذ لا نتصل الان بهم بثقافة او حضارة . وغاية ما نرجوه ان يختص عندنا شبان بدرسهم كما يختص اخرون بدرس العرب . وكلا الفريقين يشتغلان في درسهما بالاثار . واذا كان المصريون القدماء لا يدخلون الان في عقائدنا او ادبنا او علمنا , فليس لأحد ان يرجّح ادب العرب او عقائدهم اوعلمهم على آدابنا وعقائدنا وعلومنا وحضارتنا .

فالمصري القديم والعربي القديم , من الاثار التي ندرسها كما ندرس الفينيقي القديم . وان كان المصري يمتاز بانه ينير اذهاننا عن نشوء الحضارات الاولى , ولكن المهم ارى وجوب ان نخلع انفسنا من الشرق , لا نفعل ذلك لكي نعود الى وطنية فرعونية . كلا . انما نريد وطنية مصرية حديثة تنهج نهج القرن الراهن في الوطنيات والقوميات , تسير على المبادئ الاوربية فيهما .

والوطنية مبدأ اوربي لم يعرفه العرب قط . ولذلك لا وجود لهذه الكلمة في المعاجم العربية , لان العرب لم يعرفوا سوى الاسلام جامعة تجمعهم , ولأجلها يحاربون الكفار ولو كانوا من اهل وطنهم . وكذلك كان حال اوربا في القرون المظلمة . حين خرج الاوربيون يقاتلون المسلمين في فلسطين.

وظهر المناضل عرابي , وحاول ان يقوي هذه الرابطة ويجعل مصر امّة دستورية . ولكنه خاب في مسعاه ,ثم حدث الارتداد بظهور الخديوي اسماعيل . فإن كل هؤلاء عادوا الى الجامعة الاسلامية . واعتبروا مصر ملك الدولة العثمانية وهي بالنسبة لهم كانت تعني دار السعادة . وكان على المصري ان يحارب الاوربين للدفاع عن السلطان عبد الحميد .

كان التاجر والمزارع والصانع المصري مهتما بالحرب في تركيا , ولا يهمه خبر قتل مصري في الجيزة . وعندما شبت الحرب بين الغرباء جمع المصريون تبرعاتهم وارسلوها الى اسطنبول مع انهم كانوا في حاجة الى النقود لتعليم صبيانهم القراءة . لكن في هذه الاثناء كان الوطنيون يبثون بيننا المبادئ الاوربية , عن العائلة وحرية المرأة واللغة والادب والسياسة , لا يبالون بالسياسة التي كان حكام مصر ينتهجونها .
الحلقة التالية في الغد !
* مقتبس من كتاب اليوم والغد للعلامة سلامة موسى

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here