المراحل الثلاثة في فلسفة نيتشه !

المراحل الثلاثة في فلسفة نيتشه !

بما ان الفلسفة ، هي على وجه التحديد فن طرح السؤال ، وعادة ، ما يكون السؤال ، أكثر أهمية من الجواب ، فالاجوبة عابره ، والسؤالدائم ، ويحمل في طياته ما لا حصر لها من من الاجوبة ، والتي بمرور الوقت تعمق معنى السؤال . فتاريخ الفلسفة ، هو في الغالب الأجوبةعلى هذه الاسئلة المحدودة . وسؤالنا ، هنا ، هل هناك حقاً مراحل بشكل عام في حياة الإنسان أو المجتمع ؟ أعني الإنسان المفكر على وجهالخصوص ، أو الامة الحية ، واللذان عليهما أن يفحص حالهما من فترة للأخرى . ولا شك أن الإنسان المفكر على وعي بهذه الحالة ، منتطور وعيه وتغيره من عهد لعهد ، وأن لا يبق على نهج واحد . فحتى بعض المفكرين الذين التزموا نهج واحد وطريقة واحد من البداية لنهايةيفعلون ذلك عن وعي ودرايه أو عن جمود عقائدي . أما بيقية البشر ، والذين لا يمارسو التفكير بمعناه الديالكتيك ، فهم يبقون وفقاً لمسارواحد لا يختلف لا ما يحدث بالعرض وتحت ظل ظروف قاهرة . وهذا المراحل من التطور الفكري ، قد تخص الإنسان الفرد الواحد وقد تخصالمجتمع ، فنحن نجدها فيما يخص المجتمع لدى اوغست كونت الذي قال بأن المجتمعات المفكرة تمر في ثلاثة مراحل ، المرحلة الخرافية أوالدينة ، والمرحلة الميتافيزيقية ، والمرحلة الوضعية أو العلمية . أما ماركس فقد قال في أربع مراحل فيما يخص كل مجتمع متطور ، بدائية ،وقطاعية ، وراسمالية ، وشيوعية . أما الذين قالو في مراحل تخص الفرد المفكر الواحد فهما كيركجارد ، الذي قال في ثلاثة مراحل ، هيالجمالية ، والاخلاقية ، والدينية ، ونيتشه ، أيضاً قال في ثلاثة مراحل يمر بها الفرد ، وهي مرحلة الجمل ومرحلة الاسد ومرحلة الطفل . وهذه المراحل أو التحولات ليس بالضرورة يقطعها كل فرد ، كما هي الحال مثلاً في مراحل عمر الفرد من طفولة وشباب وشيخوخته ، ففيتحولات نيتشه قد يتثبت المرء عند مرحلة من مراحلها ويبقى طيلة عمره عندها ، فقد يبقى عند مرحلة الجمل ، أو الاسد أو لا يصل لمرحلةالطفل أبداً . وفي هذا المقال القصيرة سنظر في ما يعنيه بهذه المراحل أو التحولات ، ، لأنها تبدو تحمل معنى غريب وعميق ، فقد أستخدمنيتشه هذه الحكاية ليعبر عن نفسه فيها وكيف أنه كابد هذه التحولات ونتهى فيه المطاف أن يكون مجرد طفل ، يلعب على شواطئ الابدية .

(١) وقبل أن نتحدث عن هذه المراحل ومعناها ، عند نيتشه ، يجب أن نشير بأن كل النماذج ، الأمثال أو الحكايات التي يضربها الفلاسفة ،عادة ما تكون مثال حي عن التعبير عن فلسفتهم وتلخيص لها ، فقد قلنا أن كثير من الفلاسفة قالوا في نظرية المراحل التي عبرت عنخلاصة فلسفتهم ، فلو نظرنا مثلاً في مراحل كيركجارد لرأينا فيها أصدق تعبير عن هذا النزوع . فلمرحلة الجمالية ، لديه ، هي المرحلهالحسية والنزعة المادية التي يفطر عليها كل فرد في بدأ حياة ، ويحب أن يستمتع بما في الحياة من ملذات حسية وأشياء جمالية ، بدون أنيبالي بأي شيء أخر من قيم وصايا أخلاقية ، فالفترة الاولى من الحياة تهدف إلى رواء الحواس ، أما المرحلة الخلقية التي قال بها كيركجارد، فهي الفترة التي ينتبه بها الفرد إلى وجود المجتمع وإحترام قيمه ، ويشعر بأنه جزء من تراث عالم واسع وعليه أن يضحي بكثير من رغباتهفي سبيل البقاء جزء المجتمع الذي يعيش فيه . والمرحلة الاخيرة لدى كيركجارد ، هي الفترة الدينية ، التي هي المرحلة العليا في نظركيركجارد ، ففيها لا يبق إمام الفرد سوى أتخاذ القرار ، أما تكريس النفس كلها الله أو لانخراط في الحياة الدنيويه ، بدون شفاعة من الله . هذه هي المراحل تخص حياة الفرد الواحد ، لكن المراحل الثلاثة لدى أوغست كونت ، ومراحل كارل ماركس فهي تخص المجتمع أو البشريةالمتقدمة علمياً . أما المراحل عند نيتشه فهي كذلك تتعلق في حياة الفرد وتحوله من مرحلة للأخر ، حسب تطوره الروحي والعقلي ، فالمراحلهي تطور يمكن أن يعاني منه فرد ما وليس كل الأفراد لأن البعض قد يبقى عند مرحلة واحدة ولا يتجاوزها ، في حين ، في حالة أخرى ، قديصل المرء المرحلة الثانية ، ولا يبلغ الثالثة التي هي في نظر نيتشه مرحلة الخلق والأبداع . والأن حان الوقت لكي نظر في هذه التحولات لدىنيتشه بعد أن مهدنا الطريق لقصة المراحلة في حياة الفرد أو المجتمع ، وجعلنا الاختلاف بين المراحل التي تخص الفرد الواحد وتلك التيتخص المجتمع واضحة ، لكونه نيتشه وفلاسفة الوجود عموماً يهتمون في حياة الفرد أكثر من المجتمع التي يهتم بها فلاسفة علم الاجتماع أوالاقتصاد مثل ماركس وأغست

كونت .

(٢) مرحلة الجمل ، هي مرحلة محتومه ، ولابد من أن يكابدها كل فرد منا ، لانا الانسان لا بد أن يتعلم ويلقن الافكار لكي يعيش مع الاخرين ،لكون الانسان كائن اجتماعي ، ولا يمكنه أن يعيش بمعزل عنهم ، وكونه أيضاً لا يولد ولديه أفكار فطريه وجاهزه تغنيه عن الناس . وختارنيتشه تشبيه الجمل والماثله معه ، لكونه الجمل عادة ما يرمز به لحمل الاثقال والامتعة ، وهي عادة لا تكون له وانما أمتعة أصحابه واثقلهم ،يضعونها على ظهره ليقطع بها صحاري شاسعة وقاحلة . والانسان في بدء حياته ، مثل الجمل ، يضع المجتمع في ذهن المرء احمال ثقيلمن عقائد ومعتقدات وعادة ، لا يع من أمرءها شيء سوى أنها تراث الاسلاف والاجداد ، وهو يخزنها ويراكمهاً في ذهنه عن طيبة خاطر وعنثقة ويهم بها ، وتبقى الأحمال تتراكم في روحه ، وتتحكم في سلوكه ، ويدافع عنهم بكل قوه . وهذه العملية تستمر لدى البعض حتى نهايةحياتهم ، إذا لم تعقبه يقظه وصحوة ، تختمر في روح المرء وذهنه ، فمرحلة الجمل ، هي مرحلة خضوع الروح إلى الأوامر العليا الصادرة منالتراث ، والتي يرمز لها نيتشه في التنين ذي الاصداف الذهبية ، التي ترمز لكل منجزات الماضي من علوم ومعارف وفن ، وهذا التنينالذهبي ، يأمر المرء أن يطيع القوانين ، ويحترم العادات ، وأن يكون مواطن مهذب ، يذهب لدراسه ، ويعمل ، ويحب جاره ، ويطيع والديه ،ويذهب إلى الكنيسة . وهذه التنين يمثل الروح المهيمنة على مجتمع في فترة ما كأن يكون دين أو أيدلوجية . وهي حديثا يعبر عنها ، أيمرحلة الجمل ، حسب فرويد في الأنا العليا ، أي الضمير المجتمع والحضارة . والجمل ، هي بنظر نيتشه ، مرحلة العبودية والخضوع إلىالأخر أيا كان وباي صفه ظهر ، كأن يكون رجل دين ، رحل سلطة سياسية . لأنه على المرء يكون حر ويخدم نفس وليس أي يحمل أمتعةالأخرين وأفكارهم . ومرحلة الجمل يجب أن تكون فترة عابره في حياة الفرد ، وعليه أن يصل منها لمرحلة الوعي بالذات ، وعندما يصللمرحلة الوعي بالذات ، فأنه ، عندئذ يلقي بكل أحماله ويتحول إلى أسد

هصور .

(٣) مرحلة أو التجول إلى أسد ، حين يعي الجمل أنه يحمل أحمال غيره ، وأنه عبد ، وأنه يتلقى الاوامر ، فأن يكون قد بلغ مرحلة الوعيبالذات، فيلقي بكل أحماله ويتحول إلى أسد ويرفض بشكل كلي ومطلق كل ما كان الجمل يحمله ويرفض أن يتلقى الاوامر من التنين ذيالاصداف الذهبية التي رمز به نيتشه إلى التراث وكل عقائد السلف ، فالاسد بات يقول أنا اريد ، وليس عليه أن يطيع ويفعل ما يجب أن أنيأمر به من أي سلطة كانت ، ولذلك يبدأ بتحطيم كل ما يؤمن به الجمل . وحقيقة أن هذه المرحلة تعبر عن سيرة حياة نيتشه ، فكل هذهالتحولات تعبر عن مسيرة حياته هو ذاته ، ففي فترة من حياته ، أخذ أيضاً يحطم كل ما كان يؤمن به، من مسيحية وقيم ، وميتافيزقيا . فمرحلة الاسد مرحلة الوعي بالذات ، والحرية من كل ما يحد نشاط الفرد ويقيد حريته ، ففي هذا التحول على الفرد قطع الصلة والوقفوحيداً ، فالأسد ، أيضاً ، بعد أن حطم كل شيء يجد نفسه يقف وحيداً بالصحراء لا يسند سوى ما يريد وما يرغب فيه هو ، فهذه المرحلةضرورية ، لمحلة خلق شيء لا يمت بصله إلى شيء مضى ، فمرحلة الخلق والابداع يجب أن تسبقها مرحلة تحطيم وقطع كل صلة بالماضي . فمرحلة الأسد هي النضال من أجل الحرية ، ضد التقاليد والدين والمجمع وكل شيء يحد من حرية الفرد . وهذه الفترة في نظر فقط مرحلةتحرر من كل شيء وليس مرحلة خلق لقيم جديدة محل تلك التي تحطمت . وعليه تبقى مرحلة أخرى يتم فيها هذا الخلق ، ولكنه يجب أنتسبقها فترة تحرر وتخلص من القيم والاوثان القديمة وعندما يتم ذلك فأن مرحلة أخرى تولد ، التي مرحلة الطفل .

(٣) وإذا بلغ أحد ما مرحلة الطفل ، فأن يكون قد خلف كل الماضي خلفه وتخلص من الصراع مع التنين الذهبي الذي يمثل كل قيم المجتمعوالتراث ، واصبح أمام مرحلة جديدة ، يحق له فيها خلق اي شيء والبدء من أي شيء ، فهذه المرحلة هي فترة الحرية المطلقة ، التي ينصرففيها المرء لذات وخلق الألعابه ، فهي مثل مرحلة الطفل ، حسب هيرقليطس الذي يلعب على ضفاف الابدية لا يحد من نشاطه أحد . وذلكالتحول قد بلغه نيتشه ذاته فهو بعد أن دمر كل القيم المسيحية ، وبلغ مرحلة العدمية ، طالب بخلق قيم جديد التي هي قيم السوبرمان ،الذي يمثل مرحلة تجاوز الإنسان العادي والعبور نحو الضفة الأخرى ، لأن الإنسان بحسب تعريف نتشه حبل ممدود فوق هاوية أما أن تقودإلى ما هو دون القرد أو العبور الجهة الثانية التي تؤدي نحو الانسان السوبرمان ، المتحرر من كل الوصايا والقيم الدينية .وعليه ، يجب أنيفهم بأن تحول إلى طفل ، مجرد رمز ألى السوبرمان الذي يضع قيم جديدة ويشرع بعيداً عن كل ما كان . والانسان السوبرمان في نظره لم يكن كما كان يفهم على أنه الإنسان المفتول العضلات والقوي الذي يسحق الضعفاء ، وإنما الإنسان المتفوق سيكولوجيا ، وعقلياً ،واخلاقياً على إنسان ما قبل السوبرمان . وبهذه الحكاية القصيرة والمؤجزة ، لخص نيتشه كل فلسفته ، بالقول أن البشرية بلغة مرحلة العدمية، بعد نهاية الاخلاق المسيحية وموت الله ، وعليها أن تجد بديل عما كان يقوم على اسس صلبه وقوية .

هاني الحطاب

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here