على مفتَرق الطريق (*) ح 5 الاخيرة

على مفتَرق الطريق (*) ح 5 الاخيرة د. رضا العطار

هذا المقال نشره الاديب المعروف سلامة موسى في كتابه ـ اليوم والغد ـ في القاهرة عام 1928 ونظرا لغرابة مواقفه ارتأيت ان يطلع عليه القارئ النبيه وله ان يقرر فيما لو اراد ان ينتفع به.

ولست انتقص الادب وانما انتقص اللعب واللهو بالالفاظ كما يفعل معظم ادبائنا. يجيزون لعبهم ولعبهم على الناس كأنه ادب . فنحن في حاجة الى ادب مصري يدرس شؤننا المصرية بلغتنا العامية المهذبة او يدرس شئوون العالم بنفس مصرية ونحن ايضا بحاجة الى ادب علمي يستغل جميع النظريات العلمية الحديثة . اما درس العرب فهو في نظري نوع من الا ركيولوجية يستوي ودرس الاثار المصرية او الاثار الفينيقية له قيمته العلمية والثقافية بالطبع ولكنه لا يسمى ادبا مصريا بذلك .

ثم نحن بحاجة الى ثقافة مصرية . فقد الف المؤرخون كتبا عن الاسلام وتاريخه والخوارج والاندلس ولكن لم يؤلف احدهم كتاب عن اخناتون او عن العقائد الشيعية للدولة الفاطمية التي حكمت مصر ردحا من الزمن . اني حين اعرض تاريخ الثقافة الحديثة في مصر لا اتردد في الحكم بان المعلمين في المدارس قد أدوا لها من الخدمة اكثر مما اداه لها من يسمون انفسهم ادباء . فان افضل الكتب المصرية الحديثة هي من اقلام المعلمين وليست من بهارج الادباء المضحكة . واعتقادي ان المعلمين سيحملون عبء الثقافة في المستقبل مدة طويلة حتى ينسى ادبائنا الاعيبهم وما حفظوه عن ظهر قلب من لغة الجاحظ والجرجاني واشعار ابن الرومي . نحن بحاجة الى ثقافة حرة بعيدة عن الاديان ولا باس من ان نعتمد على الترجمة الى حد كبير حتى يتمصر العلم وتتمصر الفاظه وعندئذ نسير فيه الى التأليف .

ان الاجانب يحتقروننا بحق ونحن نكرههم بلا حق . فقد راينا دخول الانكليز ونحن نحاول ان يمتلكنا الاتراك . دون الانكليز . وسمعونا نطالب بلسان حكامنا بالاستقلال ولكن لا لكي نكون اسيادا بل لكي نكون عبيد الاتراك فأحتقرونا لذلك بحق.
ثم نحن نكرههم وكانت اكبر كراهيتنا لهم جسدا لانهم نازعونا البقاء فغلبونا واشتغلوا بالتجارة والصناعة والصيرفة ولم يتركوا لنا سوى الزراعة نعمل فيها كالعبيد , ولم يكن لنا حق في كراهيتهم لان هذه الابواب التي طرقوها واثروا منها كانت مفتوحة لنا جميعا لكننا لم نطرقها . والاجانب ما داموا اجانب فهم شوكة في جسم الامة . فيجب لذلك تمصيرهم والتزاوج معهم وحثهم على ارسال اولادهم الى مدارسنا حتى يعرفوا لغتنا ويقرأوا صحفنا كما يجب ان نسمح لهم بالتوظف في الحكومة والانتخاب البرلماني حتى تغدوا عواطفهم مصرية .

يجب ان ننظر الى الاجنبي كما تنظر اليه الولايات المتحدة فهي بمجرد وصوله الى بلادها تحاول ان تؤمركه فان لم تقدر على ذلك تسلمت اولاده وصبغتهم في المدارس بالصبغة الامريكية . فينشأون امريكيين مخلصين تتمثلهم الامة في جسمها . وهذا ما يجب ان نفعل نحن مع الاجانب , يجب ان نمثلهم ويجب ان نمنع وساوسهم، فنفصل الدين عن الدولة ونمنع تعليم الدين في المدارس . وهم اذا اختلطوا بنا بالتزاوج وصارت لغتنا لغتهم فليس ببعيد ان ننزع نزعتهم في الصناعة والعلو والتجارة والصيرفة .

وقد يكون استعمال القبعة اكثر ما يقرب بيننا وبين الاجانب ويجعلنا امة واحدة . والقبعة هي رمز الحضارة يلبسها كل رجل متحضر سواء اكان يابانيا ام صينيا ام انكليزيا ام امريكيا . ونحن اذا لبسنا القبعة فلسنا بذلك نلبس لباس اوربا فقط بل نصطنع لباسا اتفق المتحضرون على وضعه على رؤوسهم كما اتفقوا على ان ياكلوا بالسكين والشوكة او كما اتفقوا على ان يستحموا كل يوم . فان للمتحضريين عادات يتعارفون بها ويصطلحون عليها , واتخاذ القبعة من هذه العادات . فلسنا نحب ان نخرج على العالم المتمدن بلباس خاص يجعلنا في مركز من الشذوذ يجلب الينا الانظار فيعمد السائحون الى تصويرنا كاننا امة غريبة عن الامم .

ومما يدل على ان حركتنا الوطنية بيد اناس غير قادرين على الاضطلاع بها . بدليل ان الحركة التي قام بها الوطنيون حديثا بخصوص القبعة قاوموها وقتلوها في مهدها . فأثبتوا بذلك انهم لا يزالون آسيويين في افكارهم . لا يرغبون في حضارة اوربا الا مكروهين . ولذلك سنبقى في نظر الاوربين شرقيين حتى نتخذ القبعة لرجالنا ونسائنا ونعلن انسلاخنا من الشرق .

واجبنا لانفسنا ان نرقى بلادنا بالسير في ما ينهجه المتمدنون من الحضارة . نتخذ الحضارة بدل الزراعة والعلم بدل الادب , اي ان نجعل الادب والزراعة علميين .
ولكن علينا واجبا نحو العالم لا يفكر فيه ادبائنا او شيوخنا البته . بل نرى من الناس من يبالغ في تعصبه للقديم ان يتمنوا زوال الحضارة الاوربية . وهذا عين الجحود بالانسان والكفر بالتطور . فان الانسان الاوربي ارقى انسان ظهر في العالم للأن . والحضارة الاوربية على ما فيها من عيوب تعد بالمئات هي اخر درجات التطور الاجتماعي . ومن البلاهة البالغة ان يظن احد الشيوخ ان حضارة المسلمين كانت تبلغ في السمو جزء بالمئة مما تبلغه الحضارة الاوربية الان .

ان واجبنا تجاه العالم هو ترقيته لان العالم هو الامة الكبرى وليست مصر سوى احد اعضائه . واذا كنا نعلم صبياننا بانه يجب ان نضحي بانفسنا لاجل مصر فيجب ان نضحي بمصر لاجل العالم . ولم تكون خدمتنا مسعدة لها الا بالنهوض والسير في الحضارة الغربية . ويجب ان يكف كتابنا عن التنطح والزهو في انتقاد هذه الحضارة وان يعمدوا الى الاخلاص في خدمة العالم . وبمقدور الصحف ان تربي الجمهور على الاهتمام بالعالم اذا هي خصت صفحاتها المهمة باخبار العالم . تستوي في ذلك اخبار مصر مع اخبار الامم الاخرى . كما تفعل الصحف الانكليزية .

وختاما اوكد على دعوتي للتنصل من آسيا والانضمام لاوربا وعلى القارئ لكتابي الذي تلمس فيه مقدار حماسي لهذه الحضارة وثقافتها لا يعجب اذا هو تأمل احوال الامم الناهضة . فليست امّة تنهض في العالم ما لم تنسلخ من قديمها القديمة , سواء اكان هذا القديم اسيويا ام غير آسيوي . فهذه اليابان قد تفرنجت ودخلت في الطور الصناعي وصار لها علماء يكتشفون ويخترعون . وهذه الصين قد اصطنعت اللغة العامية وهذبتها وتركت لغة الشيوخ القديمة والادب القديم واخذت تترجم كل ما تجد من المطبوعات الاوربية .
ونحن في مصر ما لنا من مؤسسات الا واكتسبناها من الاوربين , وكل ما هو باق لنا من القديم سيء لا يزال يؤذينا . مثل وزارة الاوقاف والمحاكم الشرعية وجامعة الازهر والمجالس الشعبية والبطركيات العديدة . فشبابنا قد سئم سخافة ادبائنا وصار يطلب من الاديب شيئا جديدا مغذيا غير الكلام عن العرب بلغة العرب .

يرى كاتب السطور ان المؤلف القدير قد تغاضى سلطان اللغة العربية بما فيها من البلاغة والبيان ودورها الايجابي الفاعل في إقامة الحضارات العربية الاسلامية في ماضي الايام، سواء أكانت في بغداد العباسية او في القاهرة الفاطمية او في قرطبة الاندلسية مزدهرة يانعة، تنضح بمختلف الوان الثقافات من علم وفن وأدب, تنشر نورها في ظلمة القرون الوسطى، فلم بكن في الامكان ان يتحقق ذلك المجد الشامخ، لولا عظمة اللغة العربية والقوة المحركة فيها، هوية كل العرب !.

* مقتبس بتصرف من كتاب (اليوم والغد) للموسوعي سلامه موسى , دار النشر للكفاح الهادف القاهرة 1928

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here