مائة عام من الدولة

مائة عام من الدولة

بوادر انهيار الدولة العراقية لم تبدأ مع سقوط النظام السابق في العام 2003 انما بدأت ارهاصات ذلك الأنهيار و الدمار بعد ثورة او انقلاب تموز العام 1958 و استيلاء العسكر على زمام الأمور و انتقال ضباط الجيش من معسكراتهم و ثكناتهم الى مكاتب القصر الجمهوري و مقرات الوزارات الحكومية حينها بدأ العد العكسي في سلسلة الأنحدار الحتمي نحو المجهول مع تخبط و نزق الحكام العسكريين و تصرفاتهم الطائشة و التي أدت الى وقوع البلاد ضحية في مغامرات و نزاعات و حروب لم تحسب عواقبها و تركت للأقدار و ليس للحسابات السياسية الأستراتيجية و التي عادة ما يتنبأ بنتائجها و عواقبها السياسيون المدنيون المحترفون و كان النظام السابق ( صدام حسين ) هو ( الخلاصة و النموذج ) الذي اختزل كل العهود العسكرية في الحروب العدوانية الداخلية و الخارجية و القمع و التنكيل و الأعدامات العشوائية دون محاكمات عادلة و المقابر الجماعية المتعددة .

جاء نظام المحاصصة القومية و الطائفية و حتى الحزبية الذي اعقب احتلال العراق و سقوط النظام السابق هو من اسؤ الأنظمة التي شهدتها الحقب السياسية العراقية و كانت التجربة التحاصصية العراقية مستنسخة من التجربة اللبنانية في التقسيم الأثني و المذهبي و تقاسم المناصب الرئيسية في السلطات الحكومية العليا مع عدم الأخذ بالأعتبار و التقدير الفروق الأجتماعية بين الشعبين العراقي و اللبناني و تجذر ذلك النظام التحاصصي الأجتماعي و من ثم الحكومي في لبنان و عبر العشرات من السنين في حين لم يعرف العراق هذه التفرقة و الأنعزال في نسيجه الأجتماعي المختلط الذي ظل يفاخر و يتباهى به .

الحنين الى الماضي ليس فقط هو العودة الى عصر الأمن و الأعمار بعد ان سلبت انظمة الدكتاتوريات العسكرية و التي تلت العهد الملكي من المواطن نعمة الأمان و استرخاء الأمن في ميليشيات تجوب الشوارع و تنتشر في الأزقة و تفتش البيوت و العقول عن معارض خائف او سياسي معارض فتشكلت تلك الميليشيات المسلحة و تسلطت على اعناق الناس و ارزاقهم و كانت البداية مع ميليشيا تشكلت للدفاع عن الجمهورية سميت ( المقاومة الشعبية ) و بعد انقلاب عسكري آخر اطاح برفاقه تأسست مجموعة مسلحة وهي كذلك للدفاع عن النظام الجديد تحت اسم ( الحرس القومي ) و مع الأنقلاب الأجد تشكلت ميليشيا جديدة للدفاع عن الحزب و الثورة ( الجيش الشعبي ) و اخيرآ كانت تشكيلات الفصائل المسلحة ( الحشد الشعبي ) و التي استمرت بالتواجد و بقوة السلاح حتى بعد نهاية تنظيم ( داعش ) و هزيمة قواته و دحر فلوله .

كان الحكم الملكي و الذي و على الرغم من كل العيوب و الهفوات و الأخطاء التي رافقت مسيرة ذلك العهد الا ان المقارنة مع الأنظمة الجمهورية المتعددة التي اعقبته تكون الكفة و بكل تأكيد لصالح الحكم الملكي الذي اعتمد على الشخصيات الوطنية المحنكة و الكفؤة في الأدارة و القيادة و التي اسست الدولة العراقية الحديثة و لا يستوي القول الا بذكر تلك الشخصيات الفذة و التي مازالت ماثلة في الذاكرة و الوجدان العراقي و العربي و العالمي و لابد من تذكر السياسي الحاذق ( نوري السعيد ) و استاذ الدبلوماسية ( فاضل الجمالي ) و العديد من الشخصيات السياسية المرموقة الذين ارسوا دعائم الدولة العراقية الحديثة ما جعل منها ذات تأثير عظيم و دور محوري و مؤثر في الأحداث الأقليمية و العالمية .

حكومات دول اجنبية تتدخل علانية و تفرض اشخاص بعينهم و اسمائهم لرئاسة الوزارة القادمة و تمنع آخرين عنها و قادة المخابرات الأجنبية يتجولون بكل حرية و علنية في شوارع بغداد و قادة عسكريون غرباء في زيارات سرية متى يشاؤن و وقت يريدون و فصائل مسلحة تهدد و تتوعد السفارات الأجنبية تسبقها رشقات من صواريخ ( الكاتيوشا ) تتطاير في سماء العاصمة في تسابق فج مع الألعاب النارية و مجموعات عسكرية تفرض الأتوات على دور البغاء و الملاهي الليلية و الضرائب على محال بيع الخمور و الكحول و الويل و العقاب الشديد على من يتخلف عن السداد فيكون القتل و التفجير العقاب السهل و المفضل و الحجة و التبرير جاهز و حاضر في ( الخروج على الأعراف و التقاليد و الدين ) و فصائل اخرى و ظيفتها الأستيلاء على املاك المهاجرين و المهجرين و وضع اليد على ( المال الذي ليس له صاحب ) حسب الفتوى الدينية التي تبيح ذلك السطو و تلك السرقة .

بعد ما يقارب المائة من الأعوام على قيام الدولة العراقية الحديثة و التي حلم المؤسسون الأوائل من الشخصيات الوطنية و ذلك الطاقم المهني الكفؤ و النزيه الذي كان يحيط بالملك المؤسس ( فيصل الأول ) و تابع مسيرة البناء و الأعمار لاحقآ بكل اخلاص و تفان و اتقان من اجل دولة وطيدة البنيان راسخة الأركان تكون عامل استقرار و أمان في المنطقة المضطربة و وسيط دائم في التفاهم بين الخصوم في المنازعات و المشاحنات و عامل توازن و حياد في العلاقات مع جميع دول العالم لكن الأمر لم يكن كذلك حتى بعد تلك الأعوام المائة اصبحت دولة مستباحة تتحكم بمقدراتها دوائر المخابرات الأجنبية حتى تلك الدول الصغيرة و التي تكاد لا ترى على الخارطة و تنفذ قراراتها الفصائل و الميليشيات المسلحة و التي تكاثرت و تناسلت و اصبح لكل حزب ( سياسي ) يد عسكرية ضاربة و ميليشيا يلوح ويهدد بها حتى اصبح امراء الحرب هم الحكام الفعليون في هذه ( الدولة ) .

هذه ملامح ( الدولة ) العراقية الحالية و بعد عشرات السنين من التأسيس الرصين و المؤسسات المحترمة و الشخصيات النزيهة تتحول و تتقلص الى مجموعة من الأقطاعيات التي تديرها فصائل مسلحة تملك من الأموال و السلاح و الأعلام الكثير الكثير و تسير في الشوارع و تفتش الأماكن و الأحياء بحثآ عن الذين لم يلتزموا بتعليماتها او اولئك الذي لم يدفعوا ما عليهم من جزية او اتوات و غرامات فرضتها تلك الميليشيات و العصابات لا بل تمادت الى تهديد الدولة و التعدي على صلاحيات الحكومة في رسم السياسات الداخلية و الخارجية و محاولة فرض الأجندات الأجنبية بما يتلائم مع مصالح الدول الأجنبية حتى و ان تعارض مع المصلحة الوطنية و اصبح التطاول و التهجم على رموز الدولة الرسمية أمرآ مألوفآ فعلم الدولة و شعارها و رئاساتها و اجبة التقدير و الأحترام و لا يجوز تحقيرها او الأستهنة بها مهما كان الأختلاف و التعارض لكن العصابات المسلحة الحاكمة لها شريعتها و اعرافها و لا تعترف بالدولة و قوانينها و هكذا تحولت الدولة العراقية الى دولة العشائر و القبائل و الميليشيات و الفصائل و العصابات التي يقودها رجال دين معممين .

حيدر الصراف

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here