كواليس الإطاحة بمافيا التقاعد.. روجوا 9000 معاملة مزورة أغلبها لعناصر داعش ونهبوا 30 مليار دينار شهرياً

فوجئ مراجعو هيئة التقاعد العامة في بغداد صباح يوم الثاني والعشرين من تشرين الثاني 2020، بعناصر أمنية مدججة بالسلاح تقود رتلاً من الموظفين وهم مقيدو الأيدي ومعصوبو الأعين الى خارج المبنى، ليكتشفوا لاحقاً انهم كانوا شهوداً لتفكيك شبكة تزوير كبرى كانت تنهب ثلاثين مليار دينار شهرياً من المال العام.

وكالة الاستخبارات والتحقيقات الاتحادية التابعة لوزارة الداخلية، أعلنت بعد ساعات في بيان اختراقها وتفكيكها لشبكة تزوير في هيئة التقاعد الوطنية، مؤلفة من 29 متهماً بينهم 17 موظفاً.

جاء البيان بعد مرور أكثر من شهرين على اعتقال أحمد السعدي الرئيس السابق لهيئة التقاعد في منطقة الوثبة وسط العاصمة بغداد، والذي اعتقل يوم الثلاثاء 15 أيلول بتهمة الفساد بعد متابعة دقيقة لتحركاته بحسب مصادر استخبارية.

ويقول صباح الكناني رئيس مؤسسة الإصلاح والتغيير المعنية بتتبع قضايا الفساد ان “ظاهرة التحايل على حقوق المتقاعدين ليست وليدة اليوم، بل هي متأصلة منذ زمن بعيد ويديرها موظفون فاسدون معروفون للقاصي والداني”.

الكناني المطلع عن كثب على ملف القضية، ذكر بأن الشبكة التي جرى القبض على افرادها مسؤولة عن ترويج آلافٍ من المعاملات التقاعدية المزورة بينها 4500 معاملة في محافظة الأنبار وحدها. وجميع المستفيدين منها لا تنطبق عليهم الشروط القانونية، مقدرا المبالغ التي كانوا يستحوذون عليها بأكثر من ثلاثين مليار دينار شهرياً”.

ويشير الى ان بعض المتورطين بعمليات التزوير “كانوا يديرون عمليات التلاعب والتحايل من خارج البلاد”.

مسؤولون كبار وراء التزوير

وبحسب الكناني فان “شبكة التزوير كانت تعمل بتواطؤ من رئيس الهيئة أحمد الساعدي المعتقل حاليا والذي يخضع مع مدير فرع الهيئة في محافظة الأنبار للتحقيق”، مبينا أن “أفراد الشبكة روجوا معاملات تقاعدية لعناصر في تنظيم داعش بعد قيامهم بالتلاعب في أوراقهم الرسمية واعتبارهم من ضحايا العمليات العسكرية التي جرت في الأنبار سنة 2016”.

ووفقاً للكناني فان “مجموع المعاملات المزورة التي تم ترويجها ومنحت بطاقات هوية تقاعدية بموجبها” بلغت نحو 9000 معاملة، بينها 4500 في محافظة الانبار و700 في محافظة ميسان و1500 في محافظة صلاح الدين و2600 في محافظة البصرة.

في الأشهر التي سبقت عملية الكشف، تصاعدت نداءات شعبية وبرلمانية تحذر من وجود عمليات فساد إداري ومالي في أقسام هيئة التقاعد المسؤولة عن احتساب حقوق موظفي الدولة بعد احالتهم على التقاعد واصدار هويات لهم بموجبها تصرف مستحقاتهم المالية عن طريق صندوق التقاعد، ما دفع الدوائر الرقابية الى التحرك بشأنها.

ماذا جرى في هيئة التقاعد؟

لم يقبل أي من الإداريين في هيئة التقاعد الوطنية ورفضوا الادلاء بأية تفاصيل بشأن عمليات التزوير التي كانت تجري، في ظل تعليمات تمنع الموظفين من التصريح، إلا أن (رسول) وهو اسم مستعار لموظف يعمل في الهيئة، وافق على توضيح جوانب من ما كان يحصل بعد أن شدد على عدم ذكر اسمه.

ويقول: “عمليات التزوير اتخذت صوراً وأشكالاً متعددة، بدأت بالتلاعب بملفات المتقاعدين وتغيير جهة الإحالة من وزارة إلى أخرى وزيادة عدد سنوات الخدمة وجعله مستحقاً لمكافأة نهاية الخدمة التي تصرف لمن تبلغ خدمته من موظفي الدولة أكثر من 30 سنة”.

وعن كيفية حصول الموظفين المتورطين بهذه الأعمال على مبالغ مالية، يوضح “المزورون يحصلون على مكافأة نهاية الخدمة كأجر أو أتعاب، وهو مبلغ كبير يتقاسمونه بينهم، بينما يحصل الشخص المستفيد على الراتب التقاعدي”.

ويكشف رسول ان المتهمين “قاموا بعد انتهاء عمليات تحرير مدينة الفلوجة بمحافظة الأنبار من داعش في حزيران 2016 بإدراج اسماء أشخاص متوفين لأسباب طبيعية داخل بيوتهم واعتبارهم من ضحايا الأعمال الحربية عبر التنسيق مع موظفين في لجان التعويضات الموجودة في المحافظة. وتم لاحقا ترويج المعاملات التقاعدية لهم بتنظيم محاضر أرسلت الى هيئة التقاعد لصرف الرواتب التقاعدية”.

يقول القانوني عبد السلام حيدر، شارحا ما يحدث، ان المتلاعبين يقومون بعملية تبييض سير عناصر من داعش أو متهمين بالولاء للتنظيم، ويتم ذلك بمجرد حصولهم على اوراق رسمية تفيد بوضع قانوني معين، كحالة الوفاة الطبيعية.

ويوضح: “بالاستناد إلى شهادة الوفاة المزورة، يتجنب ذووه الملاحقة ومن ثمة يستندون اليها في ترتيب اوضاع قانونية لمصلحتهم كالراتب التقاعدي وحتى التعويض المحتمل عن الاضرار خلال الاعمال الحربية”. وينبه إلى أن الأمر يقتصر على حالات وأنها ليست ظاهرة عامة وأغلبها تتعلق بأشخاص والوا التنظيم أو يشتبه في أنهم كانوا موالين له.

ويستدرك “مع ذلك ينبغي اعادة التدقيق في جميع المعاملات التي تم ترويجها في هيئة التقاعد وأيضاً في الجنسية والأحوال المدنية خلال السنوات السبع الأخيرة أي منذ سيطرة داعش على نينوى والمحافظات الغربية في 2014 ولغاية الآن”.

اعترافات

اعترافات لمتهمين ألقي القبض عليهم في هيئة التقاعد وبثتها قناة العراقية الفضائية، كشفوا فيها عن جوانب من عمليات التزوير والتلاعب، طابقت وبنحو كبير ما أفاد به مصدرنا (رسول). وذكر أحد المتهمين أنه وبحكم وظيفته، كان بوسعهِ اصدار أوامر تعيين حكومية مزورة لأي شخص وينسب للوزارة التي يرغب بها ثم يحال الى التقاعد بأوراق مزورة أيضا وتصرف له رواتب وحقوق تقاعدية كأنه موظف حقيقي متقاعد.

وبشأن الكيفية التي تم بها تزوير بطاقات هوية تقاعد لأشخاص بلا صفة وظيفية، قال المتهم “أصدرنا هويات تقاعدية لمقتولين من عناصر تنظيم داعش بحجة أنهم من ضحايا الارهاب، وزورنا لهم أوراقاً تحقيقية ثم خصصنا لهم في ضوئها رواتب تقاعدية”.

ويشير إلى أن أفراد مجموعته “تقاضوا مبالغ مالية جراء هذه العمليات وصلت بالمجمل إلى 600 ألف دولار”.

وكان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي قد أصدر أمراً ديوانياً في 27 آب 2020 شكل بموجبه لجنة دائمة للتحقيق في قضايا الفساد برئاسة الفريق الحقوقي في وزارة الداخلية أحمد طه هاشم أبو رغيف، وعضوية ممثلين عن جهازي المخابرات والأمن الوطني وهيـئة النزاهة، كما كلف قوات جهاز مكافحة الإرهاب بتنفيذ القرارات الصادرة عن قضاة التحقيق أو المحاكم المختصة المتعقلة بقضايا الفساد.

الداخلية تؤكد عمليات التزوير

ويؤكد مدير العلاقات والإعلام في وزارة الداخلية اللواء سعد معن، ان بعض عمليات التزوير في هيئة التقاعد ارتبطت بقيام افراد في الشبكة بعرقلة معاملات المتقاعدين بهدف ابتزازهم واجبارهم على دفع رشاوي الى جانب سرقة وثائق مهمة من معاملاتهم للاستفادة منها في عمليات التلاعب.

ويقول “المزورون كانوا يموهون على أعمالهم من خلال ترددهم على مكاتب في ضاحيتي المنصور والشواكة وسط العاصمة بغداد وضعت عليها لافتات تدل على أنها مكاتب للمحاماة”.

ويكشف اللواء معن، عن ضبط مجموعة من الأختام المزورة ولواصق فسفورية تحمل اسم هيئة التقاعد، وعدد كبير من بطاقات الماستر كارد، وطابعات قديمة، استخدمت في تزوير الأوراق القديمة، وشهادات الوفاة والتقارير الطبية جميعها كانت بحوزة أفراد الشبكة الملقى القبض عليهم.

ووفقاً لما يورده مدير العلاقات في وزارة الداخلية فأن أحد المتهمين الذي كان يعمل موظفاً في وقت سابق في هيئة التقاعد (دون أن يشير الى اسمه او صفته الوظيفية) هو من أشرف على عمليات التزوير والتلاعب في معاملات المتقاعدين وكان يستخدم منزله الواقع شرقي بغداد كورشة لأعمال التزوير.

ويوضح أن “عملية القاء القبض على بعض المتهمين خارج أروقة هيئة التقاعد، استغرقت عدة أشهر وبدأت بتلقي المعلومات ثم الاستدراج والتعقب وانتهت بنصب الكمائن في مناطق مختلفة من العاصمة للإيقاع بهم”.

يشكو الكثير من المتقاعدين من تأخر انجاز معاملاتهم التقاعدية لأشهر طويلة، في ظل الزحام والبيروقراطية التي يتطلبها انجاز الاوراق الرسمية، ما يجبر بعضهم الى دفع رشى من اجل تسريع انجاز معاملاتهم.

يطلق غانم محي الدين ضحكة ساخرة وبين يديه رزمة كبيرة من الأوراق قال بأنها مصورة عن ملفٍ يحكي قصة معاملة التقاعد الخاصة به. ويقول: “قضيت أكثر من خمسة وثلاثين سنة موظفاً في وزارة الزراعة قسم الثروة الحيوانية، وسيرتي الوظيفية بأسرها ليست فيها أوراق رسمية كالتي اجبروني على احضارها على مدى أكثر من سنة من المراجعات، وأيضاً بلا جدوى”.

رفت شفته السفلى ورمشت عيناه عدة مرات: “رفضت أن ادفع لهم رشى مقابل حق شرعي لي وهو التقاعد بعد سنوات طويلة من الخدمة. وكانت النتيجة دخولي في متاهة من العرقلة المتعمدة لكي أصل الى مرحلة اليأس وأدفع لهم”.

وبحسب غانم فأن مبالغ الرشى تختلف بحسب الدرجة الوظيفية وهنالك سماسرة ومعقبون لتسهيل الأمور. والسير في اجراءات رسمية بدون المرور بقنواتهم أو قبول دفع الرشوة يعني فترة انتظار طويلة تمتد لأشهر أو سنوات.

ويشير برزمة الاوراق التي بين يديه “ليس من السهل الحصول على هذا العدد من الأوراق والكتب الرسمية التي ليس لها داعٍ مطلقاً!”.

الى ذلك، ترى عضو لجنة النزاهة النيابية بالبرلمان عالية نصيف، ان ظاهرة الفساد في هيئة التقاعد قد بدأت منذ العام 2011 واتسعت لعدم وجود رادع حقيقي، مبينة انها “من أكبر ملفات الفساد التي تستلزم الوقوف بوجهها بشجاعة”.

نصيف تقول ان الفاسدين يهدفون الى “تدمير الاقتصاد ويسعون للاستحواذ على المال العام بمختلف الطرق غير المشروعة”.

وتعتقد نصيف أن “شركة الدفع الالكتروني (كي كارد) متهمة بالتواطؤ مع المزورين في هيئة التقاعد لتمرير المعاملات المزورة، مستغلة عدم وجود قاعدة بيانات كالتي تملكها دول أخرى وعدم توفر احصائيات دقيقة عن أعداد موظفي الدولة لدى المؤسسات الحكومية”.

وتلقي باللوم على ما تسميه “العلاقات المشبوهة بين بعض من نواب البرلمان ومسؤولي الشركة ودورهم في تأخير إجراءات المتابعة والتدقيق بحق الشركة”.

عن موقع درج

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here