[ بوركو لازيسكي] بين سكوبي و بغداد

[ بوركو لازيسكي] بين سكوبي و بغداد ]

شاكر حمد

بينما كنت أبحث عن سيرة بوركو لازسكي الذاتية, ولأجل الإحاطة بمنجزه الفني, التأريخي؛ صادفت أمرين؛ أولهما أنه توفي عام 1993 أي العام الذي توفي فيه زميله البولندي آرتموفسكي مع فارق سنتين في العمر بينهما؛ لازيسكي مواليد 1917 والآخر مواليد 1919 وكلاهما عاش في العراق وفي ظروف دول أوربا الشرقية في هذه الحقبة من الزمن وسنأتي على ذلك.

الأمر الثاني كان الزلزال الذي دمّر إحدى جدارياتة عام (1963) يومئذٍ كان لازسكي في العراق يُشاركنا الصمت على الزلزال الدموي الذي ضربنا في الثامن من شباط لنفس العام, وفيما بعد ستحترق مجموعة جدارياته الكبيرة في الحريق الذي دمَّر مبنى البريد المركزي في مقدونيا عام 2005.

إحتفلت الأوساط الثقافية في سكوبي عاصمة جمهورية مقدونيا (اليوغسلافية/ سابقاً) بمئوية فنان الجداريات العالمي بوركو لازيسكي,. التي تُصادف في الثاني والعشرين من إكتوبر عام ( 2017)؛ حيث شملت المئوية تنظيم معرض خاص لأعماله.أُقيم المعرض في مبنى أثري يعود للعهد العثماني؛ يحمل إسم حمّام داوود باشا daut pasha)

ammam)

حمل الملصق والبطاقات عبارة (العظيم بوركو لازسكي) وفي فيديو الإفتتاح تحدث الدكتور كيريل بينوشلسكي (kiril penushliski) عن أعمال الفنان التي جُمعت من مصادر عدة, وتحدثت الفنانة التشكيلية روسيكا لازيسكا rosica) lazeska) إبنة الفنان بوركو لازيسكي.

وهنا إستذكرت معرضه في بغداد في عام 1965 في موجة المعارض المميزة في العقد الستيني, وما مصير تلك الأعمال, فقد ضمَّ معرضه حينئذ مايزيد على ثلاثين لوحة بالرسم والمواد المُختلفة كالذهب, في قاعة المتحف الوطني (كولبنكيان), حيث شهد العقد الستيني من القرن الماضي موجةً من التطورات إتّسَمت بالتجديد والتمرد على الأنماط المألوفة منذ الخمسينيات؛ حينها كانت الريادة تتأثر بالمدارس الأكاديمية والأنطباعية و على تأثيرات بيكاسو وهنري مور؛ ولهذه التطورات ظروف موضوعية كالإهتزازات السياسية ومآلاتها التي إنعكست على الأدب والشعر والرسم وما سُمَّي فيما بعد بجيل الستينيات. وسنحاول العودة إلى الظاهرة الستينية في الرسم العراقي في مقال خاص.

يُلخِّص مدون سيرته في الويكيبيديا أن فترة بغداد, تبدأ عام (1959) إلى عام (1967) إنه أقام ثلاثة معارض شخصية في بغداد؛ وإن حامل لوحاته أثمر حوالي مائة لوحة في العقدين الخامس والسادس؛ رسم هذه الأعمال في أجواء معيشية غير مُعتادة؛ مناظر شرقية خلاّبة, طقوس وعادات عراقية.

لهذه الفترة تعود الأعمال التالية (القيلولة/ الرمل الذهبي / سوق / تموز في بغداد 1965/ في الصحراء / فتاة المدينة / المناظر الطبيعية / بنات الشمس..إلخ ).

يتطابق منهج لازيسكي (الآيديولوجي) في الفن مع إنشغالاته مع الطبيعة والبيئة والعلاقات الإنسانية التي يرصدها في لوحاته؛ كالبيئة العراقية والمناخ وإنعكاساته على الأزياء وتصاميم الأبنية وما تحمله من الأشكال والزخارف؛ وبعين الفنان الأوربي فهي إكتشافات ومشاهدات جديدة وأسفار, وغالباً ما يُوَّثق رحلاته في لوحات أينما يحط الرحال.

إن رحلته إلى العراق والرسم فيها تُحاكي رحلة غوغان إلى جزيرة تاهيتي وهو يبحث عن موضوع جديد للرسم. ( يتلقى لازيسكي علامات ممتازة من النقاد العراقيين.. يلاحظ أحد النقاد العرب ” أقوى أعماله هي تلك التي تزداد قيمتها بالتأثير التجريدي الخاص فيها.. على سبيل المثال؛ الشمس, والحرارة, والضوء والصحراء, كلها مجتمعةً لإعطاء الجمال الحقيقي والطبيعي في الغلاف الجوي العراقي.. وشملت هذه الفترة التراكيب التجريدية ذات التصوير التعبيري المجازي والتي تُثير نفس الشعور بتأثير الواقع الشرقي مثل: (التجريد -1- (1965)/ التركيب باللون الأحمر / إيقاع(1966) وغيرها.

كانت الموجة الستينية في التشكيل قد رافقت تأسيس أكاديمية الفنون الجميلة على أيدي ثلاثة هم فائق حسن وآرتموفسكي ولازسكي إضافةً إلى موجِّه الرؤية الأكاديمية الدكتور خالد الجادر عميد الأكاديمة في عام التأسيس قبل إعتقاله في إنقلاب 1963.

وقد ترافق عطاء هؤلاء مع قدوم جيل جديد من الفنانين الشباب أكملوا دراستهم في الخارج؛ لكن إمتياز الطفرة التغييرية في التشكيل العراقي كانت على أيدي إثنين هما البولندي رومان آرتموفسكي والمقدوني بوركو لازيسكي.

درَّسَ لازسكي أهم مادة أكاديمية وهي درس الإنشاء التصويري إلى جانب درس الفنون الجدارية, المادة التي أدخلها للمرة الأولى في العراق بفروعها المُختلفة.

لنتوقف عند دروس لازيسكي كما نتذكرها اليوم وذلك لأهميتها في تأسيس كيان مدرسي لايقتصر على مدرسة بعينها ولا موجة مُتأثرة بعوامل آيديولوجية مُحددة؛ علماً أن بوركو لازسكي المقدوني جاء إلى العراق في هذه الفترة حيث كانت مقدونيا جزءاً من الإتحاد اليوغسلافي, ضمن مجموعة الدول الإشتراكية (بالسمات الوطنية الخاصَّة). وتُشير سيرته الذاتية على خبرة طويلة في الفن والآيديولوجيا الثورية والكفاح الوطني.

وكما أشرنا في مقالنا عن البولندي آرتموفسكي, تتميز بلدان أوربا الشرقية بنهضة شاملة للفنون الجدارية بحكم التدمير الذي طال مباني هذه البلدان في فترات الحروب وموجات الإحتلال ومن ثم إعادة البناء وإعادة تثبيت الهويات الوطنية وترسيخ جذورها في وعي الأجيال التي أعقبت سنوات الحروب, وبالتأكيد مع الوعي الإيديولوجي الإشتراكي في نشر الفنون الجدارية ومُخاطبة الجماهير في الميادين المفتوحة وأماكن إلتقاء المجموعات السكانية بشكل يومي.

كان للأُستاذ بوركو لازيسكي تميِّزه التدريسي الخاص, في الدرس العملي الذي يتطلب الصبر على توصيل المادة الجديدة, والغير مألوفة, وأحياناٍ لاتنسجم مع المزاج الشبابي المسحور بالطفرات المُفاجئة وما تُنتجه المُصادفات في البحث التجريبي العملي, خصوصاً مايجده الطلاّب من سحر في تقنيات أُخرى كما هو الحال مع دروس آرتموفسكي الكرافيكية.

كانت هناك موجة من الرفض صاحبتها إندفاعات للدخول في عصر(مابعد الحداثة) مع تأثير الطروحات الأدبية والفلسفية الجديدة على الشباب؛ كالوجودية واليسارية المتطرفة مع إستقبال الصرعات الحديثة في الفنون العالمية؛ وإتخذت الموجة شكل التسابق في التحديث والإبتكار, كحذف الشكل الإنساني ال (figure) بشكل نهائي فضلاً عن التخلي عن رسم الموضوعات الواقعية والمناظر الطبيعية.

لم يلتفت لازيسكي لهذه التوجهات فلديه مشروع تعليمي لمن يتعلم ثم يتحرر عند المغادرة.

بدأ لازيسكي بدرس الإنشاء التصويري؛ أي الدرس المحوري في تعليم الرسم؛ فالدرس يجمع بين المعرفة والخبرة والخيال والحرية, وقد تجتمع هذه العناصر في تجربة فنان وفي لحظات سريعة, وقد لايحصل هذا التوافق؛ حين يتطلب العمل إشتراطات مُحددة.

من العتبة الأولى يتوجب إدراك العلاقات الخطيَّة واللونية بصيغة المفردات العلمية, كمفردات القواعد اللغوية؛ وهذا الدرس هو درس (العناصر) وهو درس تطبيقي يتطلب الصبر والتقيّد بإرشادات الأستاذ في التنفيذ, ونقل الإسكيج بشكل حرفي عند التكبير خصوصاً في مادة الجداريات.

تشمل (العناصر) الخطوط والأشكال والحجوم والأفكار وأوضاع الأشكال وحالات الإنسجام والتضاد والتكرار وغيرها؛ وبصفتها مواد تعليمية, تطبيقية, تقل فيها المِتعة المزاجية مع تواصلها, كما إعتقد البعض في ذلك الوقت, لكن الأستاذ يتوقع مساؤئ التكرار التقليدي وخفوت شحنة المزاج التجديدي فيفترض تغيير وجهة المادة فيَطلب التحوُّل من سياق إلى آخر كالإنتقال من التطبيق التجريدي لبنية التكوين إلى الموضوع الواقعي للإنشاء.

كان هناك العنصر الأساسي المطلوب في كل عمل مُبدع وهو شوق العمل.. وقد توفر ذلك بحضور الأستاذ وإنشغاله بالمواد بكل حرفياتها.

وإذا تابعنا أهميَّة دروس لازيسكي وأثرها على تطوُّر الفن العراقي طوال المراحل التالية نجدها أسست لمنظور جديد سيشمل مُعظم التجارب الشبابية التي تلت مُغادرة لازيسكي للعراق وعودته إلى يوغوسلافيا ليتفرغ للأعمال الجدارية الكبيرة كما سنرى لاحقاً.

إستمرت دروس الجداريات وتطورت كما أراد لها؛ وأصبحت (عناصره) الإنشائية أدوات مُلاحظة وتدقيق وبناء وتفكيك وتجريد للعديد من المُجددين في الفن على مدى القرن الماضي وحتى الآن.

إن تكوينات الفن الحديث ماهي إلاّ تجارب متواصلة لم تتوقف لتلك الدروس التي عرفناها من خلال لازيسكي. أهم الدروس في الفن ذلك الدرس الذي يتوصل فيه الفنان إلى تجاوز التعاليم والقواعد والذهاب إلى المدرسة الكبرى أي الطبيعة.

كان لازيسكي يُرسِّخ المبادئ العملية التي يُمكن, من خلال معرفتها, النظر إلى كافة التجارب بما فيها الفنون الكلاسيكية والفنون الواقعية.

في بعض دروس الإنشاء كان يطلب رسم الموضوع (الواقعي) فكان يُطبِّق (نظرية العناصر) على الشكل الواقعي, وحين إتسعت موجة التجديد, كان المجددون يعتمدون على (عناصر) لازسكي في أكثر التجارب تطرفاً؛ مثال ذلك تنويع المواد بالكولاج, أو التعامل بالفراغات, فالفراغ عنصر من عناصر تكوين العمل الفني؛ إضافة إلى ذلك ان العناصر تتسع لتشمل المزاج والإيهامات البصرية والدعابة الإعلانية والفنطازيا والنشازات في الكتل وتنافر الألوان, وإنعدام الترابط بين المساحات والأشكال, كما هو الحال في التجارب السريالية وصولاً إلى تكنولوجيا ما بعد الحداثة؛ على سبيل المثال يُعتبر تكرار الشكل الواحد نمطاً مُملاً في السياقات التقليدية؛ غير أن التجارب الحديثة أظهرت منجزات كبرى تقوم على بنيات تكرارية لشكل مُحدد وبإختصار شديد في اللون ودرجة اللون, أو يُبنى التكوين الإنشائي على مُتضادات مُتنافرة في الألوان.

في ساعات الدرس كان لازيسكي يصحب معه مصادر ملونة من إنجازات الفن العالمي ليضع أمام أنظار الطلاب تلك الشواهد التي تتصل بمادة درسه, وكان يشرح خصائص تلك التجارب, في الغالب كانت أعمال تجريدية عالمية؛ يتحدث عن العناصر التي إعتمدها الفنان في هذا الإنشاء أو ذلك الفراغ؛ فهذه أعمال فنانين عالميين؛ وهنا طفرات وإنجازات في هذا العنصر أو ذاك, حتى مساحة اللوحة تخضع لعوامل نفسية وظروف ذاتية؛ خلف المساحة سبب وحالة نفسية, وكذلك اللون في حالات الإقتصاد أو الإثراء والتنوُّع. لاشئ يأتي تلقائياً مالم يكمن خلفه باعث وسبب وظروف. ويستشهد لازسكي بأسماء الأساتذة الكبار. ذات مرة ذكرت أمامه الرسم على الفايبر(الماسونايت) قال يصلح للرسم كبقية السطوح وقال أن بيكاسو نفّذَ بعض اللوحات على الماسونايت, وأكثر من ذلك أنه رسم بالأصباغ الدهنية السائلة (البوية).

لاحظنا فيما بعد أهميَّة تلك الدروس ومفرداته التي إعتمدها طلاّب لازيسكي في حياتهم العملية في المواقع التي شغلوها كمصممين أو أساتذة تدريسيين أو مُنفذي أعمال جدارية سواءً كانت موزائيك أو سيراميك أو بمواد أُخرى.

الدرس الآخر والأهم من دروس بوركو لازسكي هو درس الفنون الجدارية, أن هذا الدرس دخل العراق على يد هذا الأستاذ في أكاديمية الفنون مع تأسيس الأكاديمية عام 1962 .

الجداريات, بكافة فروعها, ترتبط بالحضارات القديمة وبتاريخ صناعة المواد البنائية وطلاء السطوح ومُثبتاتها على مر العصور, والكلام هنا ليس نظرياً إنما تطبيق وتمارين موزعة على الطلاب, فالدرس يقتضي العمل اليدوي في مواد بنائية.

درس الرسم على الجص الرطب (الفريسك) يعود بنا إلى عصر النهضة الإيطالية؛ فلكي تعرف كيف رسم ليوناردو دافنشي لوحته الشهيرة (العشاء الأخير) وكيف رسم (مايكل أنجلو سقف كنيسة سستين, أو كيف رسم رافائيل لوحته (مدرسة أثينا) وهو يشتغل بهذه المادة لأول مرّة؛ لكي تعرف خصائص تجارب هؤلاء مع المادة عليك أن تُطبقها عملياً؛ وهكذا قسَّم الأستاذ لازيسكي لوحة رافائيل (مدرسة أثينا) على الطلبة, لكل طالب وجه من وجوه فلاسفة رافائيل؛ كان نصيبي منها وجه ديوجين الأيوني الجالس في مقدمة اللوحة حائراً ففلسفته عدمية وسوداوية.

الموزائيك والزجاج المُعشَّق والكرافيتو وجميعها أعمال جدارية تتطلب إكساء السطوح والواجهات الخارجية والداخلية للمباني؛ هنا ينقل لنا لازسكي موروث الفنون في أوربا الشرقية.

إشتغلنا أول التمارين بالموزائيك, وكان ذلك في السنة الأولى, وجرَّبنا الكرافيتو عملياً بتقسيم الجدار بين الطلاب وإكسائه بطبقات ملونة, رقيقة, من الإسمنت لتأتي عملية قشط السطوح وإظهار الألوان المطلوبة.

لاداعي للقول أنه درس ممتع؛ بل ممتع جداً والأهم من ذلك ينسجم مع التجريد الهندسي والأشكال التكعيبية والسطوح ويُقرِّب تطلعاتنا من أعمال ميرو وكاندينسكي وبول كليَ وبيكاسو, ويمكن إستخدامه على مساحات جدارية كبيرة.

وشرح لنا طريقة العمل بالزجاج المُعشَّق من خلال عرض صور النوافذ الكنائسية القوطية؛ لكننا لم نُطبِّق ذلك عملياً لظروف دراسية خاصة في ذلك الوقت.

دخل بوركو لازسكي حياتنا في العقد الستيني وكان مُشاركاً في جميع النشاطات الفنية وعضواً في (جماعة بغداد للفن الحديث) و عضو (جمعية الفنانين العراقيين) – جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين – وأقام معرضه الشخصي في بغداد منتصف الستينيات, ومن خلاله إتَّضحت رؤيتنا للفن الحديث وللفن بشكل عام؛ ويوم دخلت الجداريات إلى فضاءآتنا في السبعينيات والثمانينيات؛ كانت توجيهات لازيسكي حاضرةً بصورةٍ يومية في أعمالنا.

تحضرني ملاحظاته اليومية وأنا أتصفح صور جدارياته الكبيرة ومعها أستقرئ تأريخ شعب وموجات كفاح وطني.

فمن هو بوركو لازيسكي؟

للأمانة يجدر القول أن الكتابة عن فنان عالمي كبير مثل بوركو لازيسكي هي ضرب من المُغامرة التي لا تخلو من العثرات والمطبّات.

لابد من إمتلاك الكاتب مؤهلات (الكتابة عن قرب) فالفنان ينتمي إلى وطن أوربي ولهذا الوطن تأريخ كبير من التحولات السياسية والتأريخية منها سنوات الكفاح والحرية والكفاح ضد الإحتلال النازي, في سنوات جمهورية يوغوسلافيا الإتحادية بزعامة تيتو, فقد عاصر لازيسكي سنوات الحروب والمقاومة والأنتفاضات الشعبية وتشكيل يوغسلافيا الإتحادية لغاية المرحلة الثانية من سيرته الفنية في جمهوية مقدونيا بعد تفكك الإتحاد اليوغسلافي عام 1991وبعدها بعامين توفي بوركو لازيسكي.

يجب أن تُشاهد البلد الذي عاش فيه الفنان المعني بالبحث وتشاهد أعماله الأصلية في مواقعها؛ فهو فنان جداريات عالمي يُخاطب الجماهير في أعماله وفي جميع مراحله؛ فهنا إنتقالات في البيئات السياسية والجغرافية, وإلى جانب ذلك تحولاته في الإتجاهات والمدارس الحديثة في الفن, فهو مُجدد وباحث عن مكونات فن وطني يتجذر في تأريخ وطنه ويتلاقح عالميا مع الفنون المعاصرة في طفراتها وتغيّرات مفاهيمها, وفي مُختلف مواد العمل من الورقيات إلى الزيت والخشب والجص (الفريسك) والزجاج المُعشَّق والموزائيك وأخيراً مادة الأكريلك؛ فهو خبير وله إنجازات في جميع هذه المواد في أعمال جدارية بعشرات الأمتار المربعة..كما سنرى في هذا المقال.

يُلقَّب في وطنه مقدونيا بالعظيم بوركو لازيسكي: رسام عالمي وإختصَّ برسم الجداريات وأحد مؤسسي الفن المقدوني.

– ولد بوركو لازيسكي في بريليب في الثاني والعشرين من أكتوبر عام 1917

– الأم ماريجا والأب نيكولا لازيسكي.

– إكتشف موهبته في الرسم في ورشة الرسم الخاصَّة بوالده, بعدها يأتي دور التعليم على يد المعلم فيليبيت رندي الذي إكتشف موهبته أيضاً وأعدَّه في نفس الوقت للقبول في مدرسة الفنون في بلغراد ( وإتِّباعاً لتعليمات مُعلمه, قام لازيسكي بتكييف غرفة لتكون ستوديو.)

– عام 1933 نحتَ تمثال نصفي للملك بيتر وكان من المقرر أن يكون بمثابة تأشيرة للمدينة الكبيرة.

– في بلغراد يتلقى الدرس الأكاديمي على أيدي أساتذة مثل: بيتا فوكسانوفيتش, وليوبا إيفانوفيتش, ونيكولا باسيفيتش, وميلونو فيتش وآخرين وبمساعدة هؤلاء يُتقن الرسم الكاديمي, وبشكل خاص البروفيسور ليوبا إيفانوفيتش.

– خلال العطلة الصيفية يعود لازيسكي إلى المنزل ويستمر في الرسم.

من أعمال هذه الفترة ( دورة ” ماريونو ” وتتكون من إثنتين وثلاثين رسمة – بقلم الرصاص- عام 1936/ مظاهرات في بلغراد 1937/ دورة صائدي الآفات 1939/ صورة أوهريد 1939).

– عام 1937ألقى لازيسكي مُحاضرة في الجامعة الوطنية في مسقط رأسه في بريليب عن ” الفن والمُجتمع ” طوَّر فيها نظريته عن الفن والمُجتمع من ألتاميرا [ فن الكهوف] حتى عام 1937. إنه فن , حسب لازيسكي, ” يريد توحيد قلوب جميع أفراد الطبقة العاملة.” وهنا يتَّضح إنشغال لازيسكي بالفن الموضوعي المُعبِّر عن حركة المُجتمع وهموم الطبقات الشعبية ونضالاتها. نستطيع أن نُقدِّر رؤية الفنان الثوري الشاب, في هذه الفترة, مع إيمانه بدور الفن في تغيير المجتمعات الإنسانية ومن خلال الأساليب الفنية التي أنتجتها الإنسانية كالواقعية والإنطباعية والتعبيرية.

وإنطلاقاً من الموقف الآيديولوجي والظروف الموضوعية السائدة في بلدان أوربا الشرقية قبل الحرب العالمية الثانية, وبناءً على ذلك فقد تميَّزت أعمال لازيسكي بخصائص إنطباعية وتحضيرات تجريبية ستتجلى مؤثراتها في جدارياته الكبرى التي نفذها في مقدونيا, في السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية.

– هنا يُقال ان لازيسكي أصبحَ مؤرخاً في تصوير الأحداث, وفناناً مُلتزماً بقضايا الشعب, في فترة الإضطرابات المُخيفة التي سبقت سنوات الحرب.

– أثناء المواجهات الآيديولوجية في يوغسلافيا, [ما يتعلق بمغريات الفن الحديث], يواجه لازيسكي تلك التحديات؛ المُتمثلة بالأشكال الجديدة في الفن. وهي الفترة التي سينضج فيها أسلوبه الخاص للأعمال الجدارية الكبيرة لاحقاً.

– في بداية الحرب العالمية الثانية قطع لازيسكي دراسته في بلغراد وتابع تعليمه في بلغاريا, في أكاديمية الفنون في صوفيا, في صف البروفيسور نيكولا تانوشيف غانيف, وهو ممثل نموذجي للواقعيين الأكاديميين؛ ليس لهذه الأكاديمية أي تأثير على بناء لازيسكي كفنان, لذلك فهي لاتترك أي أثر على تطوره [ حسب رأي كاتب السيرة في الويكيبيديا].

– في عام 1934تخرَّج لازيسكي من الأكاديمية المذكورة, ثم عاد إلى بلاده وإنضم إلى حركة التحرير.

– عام 1936 يرسم على القماش لوحات مثل (المنازل القديمة في بريليب/ البيوت القديمة/ غداء..) ومجموعة من الرسوم الورقية (الدرجة الثالثة – طباشير- / العمال يتناولون الغداء – قلم رصاص -/خطّاف ومجرشة ) يُلمِّح لازيسكي في هذه البدايات إلى رؤيته المستقبلية للموضوعات الجدارية. وهنا يتكون أسلوب خاص من تأثيرات فان كوخ وسيزان, إضافة إلى أساتذته الأكاديميين.

– في الظروف غير المواتية التي سببتها الدوامة العسكرية للحرب العالمية الثانية؛ بدأ لازيسكي التعبير الفني المستقل بدورة رسومات من حرب التحرير الوطنية؛ والتي عبَّر من خلالها عن أفكاره الثورية ومُثل شبابه؛ لقد رسم حياة وأجواء الثوار؛ وأصبح مع زملائه الفنانين من جميع أنحاء يوغوسلافيا مؤرخاً للأحداث والمواقف والحالات النفسية في ذلك الوقت. إن مُعايشة ظروف الحرب وإنعكاساتها بصوَر الألم والعجز؛ سينتج بدوره سلسلة من الرسومات تعكس بصدق اللحظات والأحداث الحميمة والدرامية, وستلعب هذه الرسومات دوراً مهماً في موضوعات وتكوينات أعماله الأخيرة. كانت هذه الرسومات مهمة في تأريخ يوغوسلافيا آنذاك وتم الحفاظ على هذا التأريخ؛ على النحو التالي:( مرض/ إثنان من الرفاق / للنوم / حلم / تنظيف القمل / التوصيل / اليأس / بالقرب من بيروفو/ نقل الجريح / راحة حزبية / اللاّجئون.).

من هذه الفترة نشاهد تخطيط بالحبر على ورق بقياس (14/18سم) عام (1944) يؤشر التخطيط على أسلوب الفنان الواقعي التسجيلي في لحظات هامَّة ويومية, فالخط ينساب بدرجتين للدلالة على مستويين من العمق؛ حيث لايستخدم الفنان أيّة تظليلات. وهذه الإنسيابية الخطّيَّة تنسجم مع حالة المشهد المرسوم (نوم المقاتلين) في غرفة عارية من كل شيء, عدا نافذة طولية صغيرة بأسلحتهم وملابسهم القتالية.

في هذه الفترة رسمَ لازيسكي أول صورةً لتيتو ستُطبع وتنتشر على نطاق واسع بين الثوار في مقدونيا ( الصورة المنشورة هنا بالأسود والأبيض وبتقنية طباعة الحفر على الخشب.

نلاحظ توقيع بوركو لازيسكي في الزاوية العليا اليمنى).

– بعد إنتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945والتحرير النهائي ليوغوسلافيا, يلتحق لازيسكي بالمدرسة الوطنية العليا في باريس بموجب منحة دراسية من الحكومة الفرنسية.

يدرس في الإستوديو الجصّي في dukos de la haille (يدل إسم هذا الستوديو على تخصص في جداريات الفريسك – الرسم على الجص الرطب – تلك التقنية التي نقلها لازيسكي إلى العراق من بين ما نقل في دروسه لنا)

هنا يدرس لازيسكي التقنيات الضخمة التي ستكوِّن فيما بعد طابعه الفني وأسلوبه الخاص. ويحصل على الشهادة الأصلية بهذا التخصص. –

– في هذا الستوديو يُنفّذ لازيسكي الجداريات التالية:( رأس المرأة / محاضر/ سمك / الرماة /الرماية / اللاّجئون / مقاتل سقط ).

– يعمل على الزجاج الملوَّن واللوحات الجدارية والفسيفساء في ستوديو moma jean- موماجين- للزجاج المُعشَّق ( وبالتالي يتعافى مالياً وتمديد إقامته في هذه المدينة).

– سجَّل لازيسكي في الستوديو الشهير الخاص بالمُنظِّر أندريه لوت, حيث يلتقي فنانون من جميع بلدان العالم, ويدرس طروحاته ومُناظراته في الفن المُعاصر. وفي هذا الستوديو يُنفذ لازيسكي عدداً من الأعمال؛ عُرضت في معرض ” سبعة رسامين ونحاتين من المدرسة الإسبانية ” في باريس عام 1948. ومع ذلك لم يستطع إظهارها لسنوات عديدة بعد عودته إلى وطنه. (وحسب مدوِّن الوكيبيديا) أن الإتجاه السائد, المدعوم, في مقدونيا آنذاك, بعد التحرير, هو الواقعية الإشتراكية. وكان يُنظر إلى الإتجاه الآخر[ التجريد وغيره] على أنه فن مدني؛ لكن لازيسكي خلال تخصصه في باريس رسم عدة رسومات ذات محتوى إجتماعي مثل ( في العمل / شاطئ البحر / بارتيزان / الأسرة العاملة / صياد فرنسي..).

في نفس الوقت رسم لازيسكي مناظر طبيعية, مستوحاة من الفضاء الحصري والجو الجذّاب لباريس ومن هذه الأعمال: ( البرتقالي/ المناظر الطبيعية في سماء خضراء/ بلاس دي لا باريس/ نوتردام/ جسر السين وغيره..). تدور هذه الأعمال حول تسجيلات ولحظات يومية تشبه الذكريات حسب مُدوِّن الويكيبيديا( فترة مُختلفة تماماً, وخالية من مشاكل المشاركة ومن الإفتراضات الفنيَّة البحتة؛ إنها مطلية بنثر قصير وصغير ولا تترك مجالاً لبعد ثالث. الألوان في هذه الرسومات مُحايدة, باستيل وناعمة.). نُضيف ملاحظة حول تسميات لوحاته, في جميع مرحله, فالتسميات تدل على صِلات حميمية مع الأماكن التي عاش فيها الفنان ومع الناس الذين تواصل معهم؛ فهو يرسم, ويوثِّق, الأماكن والعادات والتقاليد في أية مدينة إستقرَّ فيها وقتاً من الزمن, ونحن نتذكر معرضه في بغداد وقد تضمَّن مشاهد عراقية؛ كجلسات المقاهي الشعبية والمباني والحرف والأبواب والواجهات المُزخرفة.

والملاحظ أن اللوحة تسبقها دراسات وتحضيرات, إنطلاقاً من تخصصاته الجدارية؛ حيث لايتقبل العمل أيَّة أهواء تخلقها المصادفات, وكل خطوة تسير على وفق المُخطط الأولي. كان مشغولاً بنظرية الفن للإنسان. حتي في تجريداته كان يسعى لخلق روابط بين الناس؛ من خلال حركة المجموعات البشرية في الميادين العّامة أو القاعات الكبرى؛ فمشاهدة العمل الجداري, بصورةٍ جماعية, وبشكل حركة يومية, يخلق تلك الروابط الإجتماعية والثقافية بين السكان.

بعد عودته من باريس إلى وطنه يواجه لازيسكي نوعاً من العداء, في الواقع هي أصعب سنوات المواجهة بين الفن الإشتراكي على المسرح المحلي؛ عندما يتم إدانة الحداثة وصياغة التأثير الغربي على أنه فن مُنحط ( لانتفق مع رأي مدوِّن السيرة حول تقييم هذه الفترة, وقد يعود التقييم إلى آراء بعض النقّاد, فأعمال لازيسكي تدل على أمانته للفن الذي يُخاطب الجماهير, بما في ذلك الفنون الإنطباعية والأكاديمية وتعكس ذلك لوحته الجدارية المسماة.. بيتولا بابام بيتولا.. ذات الأسلوب الجداري المكسيكي.) فالأعمال التي تعود لهذه الفترة تتنافى مع هذا الرأي فهي تعكس رؤية واقعية, إنطباعية, مثل: (وينتر كرنيش/ الشتاء في سكوبي/ جسر فادار/ وجبة إفطار/ بريسبا / زلاتوف وآخرون.).

– في الفترة منذ ( 1951-1952) رسم لازيسكي عدة أعمال بزخارف فولكلورية وخصائص توضيحية منها: (الرسامين من توشكا / لازار و بولكا / روساليا / فتاة الحياكة/ مايو) والعمل الأكثر ذكراً في هذه الفترة هو( لاجئ من مقدونيا بحر إيجة) – زيت على قماش –

في عام (1955) يرسم جداريته الفسيفساء التي دُمّرت أثناء الزلزال في سكوبي.

(في هذه الفترة يصبح عضواً في جماعة ” اليوم” – أول مجموعة فنية لديها برنامج ثوري في مقدونيا.

ضمَّت مجموعة ” اليوم” رسامين ونحاتين من بينهم بوركو لازيسكي, كيوبوميربيلوغاسكي, ويجيتاركوندوفسكي, ديميسي بروتوجير, بوزين بارتوفسكي وآخرين. إن الشعار الذي تسعى إليه هذه المجموعة هو إستخدام الإنجازات الفنية المُعاصرة في العالم وخلق (فننا المُعاصر), فضلاً عن مُحاربة التفاهات الفنية التي عفا عليها الزمن.

كان لازيسكي أبرز المؤسسين والزعماء الآيديولوجيين لهذه المجموعة.

– يحصل لازيسكي على لقب ” أبرز ممثل للإتجاه الحديث”.

بسبب الظروف التي خلقها الفنانون أنفسهم من خارج فرقة ” اليوم” فإنها تنهار مع نهاية العرض الثاني.).

في سيرته الفنية مسار آيديولوجي لايبتعد عن البيئة الإجتماعية ومشاهد الطبيعة وعلاقات الناس المُحيطين به؛ كما أن جذوره التأريخية الراصدة لمشاهد حركة التأريخ تتواصل مع التطورات التي حصلت في صياغاته الأسلوبية. لاننسى تعامله مع مواد لاتتجانس فيما بينها؛ فقد إشتغل بكل مادة خدمته في وقتها, من الورقيات, كاليوميات, بقلم الرصاص والباستيل, إلى الزيت على القماش, صعوداً إلى الجداريات الضخمة, الفريسك أو الزجاج المُعشَّق. ومعلوم أن لكل مادة تقنيتها الخاصَّة وعلاقتها بالأسلوب وبروح العصر وتجربة الفنان.

هنا سيرة طويلة من التجارب مع التقنيات الصعبة, كما في تجربة الزجاج المُعشَّق؛ فمع هذه المادة يظهر لنا تكوين معماري جديد يعتمد المساحات المتقاربة بالأشكال الهندسية والعلاقات اللونية. لكننا نرى أن حياته الفنية تتكون من مراحل تأريخية وتأثيرات دراسية؛ أكثرها نضوجاً فترة الدراسة في باريس حيث إكتسب المهارات البنائية وتأثر بالتكعيبية بشكل خاص دون أن يبتعد عن موضوعه المحوري المتمثل بثقافة بلده ورموزه الوطنية. وبالإمكان تقسيم تجربته الطويلة إلى ثلاث فترات أساسية وطويلة وهي :

– فترة الكفاح في ظروف النضال ضد النازية, وحرب التحرير, والرسم بين الثوار, وهي الفترة الإنطباعية, التعبيرية المُتمثلة بالأعمال الزيتية على القماش إضافةً إلى الرسوم الورقية والتخطيطات وألوان الباستيل.

– فترة الدراسة في بلغراد وصوفيا وباريس؛ بصورة خاصَّة الدراسة في باريس؛ ويمكن تمييز هذه الفترة بتخصص الفنان في الأعمال الجدارية بمُختلف الخامات.

– فترة التكوين الخاص؛ أي إحتواء التجارب العملية والإندماج مع الحياة. ولكل فترة تأثراتها بالحياة والتكنولوجيا وبالتنقلات والمشاهدات والمشاركات والبحث التأريخي والمواجهات النظرية وغيرها. ويتجلى نضوج هذه الفترة بالأعمال الجدارية الكبيرة. وتُجسدها الأعمال الجدارية التي أعاد رسمها سواءً بالتمبرا على الجص أو بالأكريلك.

الجوائز والتكريمات:-

• 1955- الجائزة الأولى لمسابقة الفسيفساء ′ ′ على حراسة “سكوبي”.

• الجائزة الثانية في مسابقة جدارية يوغوسلافية في المجلس التنفيذي الفيدرالي بلغراد.

• 1970 – الجائزة الفيدرالية ( 4 يوليو) الجدارية لنيويورك / بلغراد

• 1972 – الجائزة الأولى في مسابقة يوغوسلافيا لإنتاج الزجاج المعشق لـ ′ ′ Monument Ilinden ′ ′ في Krushevo ، سكوبي.

• 1974- تقدير من جمعية الفنانين التشكيليين المقدونيين.

• 1978-أكتوبر جائزة مقدونيا SR لإنجاز العمر ، سكوبي.

• 1988- نجمة ذهبية ( ترتيب مزايا الناس)

• 1989- 9 سبتمبر جائزة الإنجاز مدى الحياة ′ ′ في بريليب

مسقط رأس بوركو لازيسكي.

يتبع..( جداريات بوركو لازبسكي)..

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here