قراءة في رواية ( أصابع التمر ) للكاتب محسن الرملي

قراءة في رواية ( أصابع التمر ) للكاتب محسن الرملي
تدور احدث النص الروائي بين الماضي والحاضر عبر الاجيال الثلاثة , أو المراحل الثلاثة , التي يمثلها الشخصيات ( الجد والاب والابن ) وكل شخصية تمثل مرحلة معينة مرت على العراق في عواصفها الاجتماعية والسياسية . في مسائلها الحساسة والعويصة في دوامة الصراع وتقلباته وتحولاته عبر هذه الشخوص . الجد ( المطلق ) و الاب ( نوح ) والابن ( سليم ) التي احتلت احداث المتن السردي , الذي يملك براعة في الصياغة والمعنى والرؤية والتعبير في المغزى والرمز الدال . بما شهد العراق من تحولات تمثلت . الفترة الملكية . فترة عهد البعث . فترة الشباب الذي تشرد وعانى الغربة والاغتراب . وما تحمل هذه المراحل من صراعات مختلفة بالتناقض والاضداد في داخلها , في المعايير والمواقف تجاه الحكم واساليب السلطة في العراق , بما تعرض من احداث عاصفة صبغت بلونها هذه التحولات . وكل مرحلة تتسم بمواصفات معينة تميزها عن المراحل الاخرى , في سياق الاحداث الجسيمة التي جرت على العراق . وحملت في رحمها من زوابع في تهشيم النسيج الاجتماعي والسياسي . الى مرحلة التأم وحتى مزق الهوية . لذا نجد في هذه الشخصيات الرمزية الدالة , صورة العراق في العادات والتقاليد الاجتماعية في الثأر والانتقام . في منصات الحب وأشجان القلب وعواطفه المنفعلة بالانفعال العشقي . في مسائل الارهاب وخاصة في زمن الدكتاتور المتسلطة . التي جلبت الارهاب والحروب . مما جعل جيل الشباب ان يهرب من شبح الدكتاتورية والحروب . بعدما سدت آفاق الحياة والعيش . مما جعلهم ان يخوضون مغامرة الهجرة في الغربة والاغتراب . وبدورها تؤثرعلى وتيرة الصراع الاجتماعي والسياسي الى الذروة التأزم . تدور احداث المتن السردي في عتباته , بين الاب والابن في اسبانيا مدريد , اثناء تواجدهما . وما صاحبه من تسليط الضوء على صورة العراق . وكذلك الصراع الثقافي بين العقليتين الشرقية والغربية . من عواطف مشحونة بالانفعالات بين العقلانية والتهور . على خلفية الماضي والحاضر في خضم الصراع على صورة الوطن . ولكن لابد من التمييز والتفريق في مواصفات هذه الشخصيات التي تمثل مراحل العراق المتعاقبة . لاشك أن الجد ( مطلق ) يمثل الارضية الراسخة في الاقناع العقلي والفكري والديني . يمثل الحكمة البصيرية في رؤية ميادين الصراع القائم , يمثل العقلية المقبولة والموضوعية في مواجهة الاحداث بالعقلانية . بينما نجد الاب ( نوح ) يمثل المرحلة المضطربة والتي تعاني من الازدواجية في الشخصية بين ( المطيع والمتمرد ) . وهي اسطع مثال على فترة عهد الدكتاتورية البعثية في وجهها المتناقض بين ( الديني والارهابي ) في العقلية والثقافة . بينما نجد الابن ( سليم ) يمثل الجيل الذي عانى من وزر الدكتاتورية بين الارهاب والحرب . والهروب من وجه الدكتاتورية البشع . في محنته في التشتت والحرمان من الحرية والتأزم في الهوية . ولكن رغم هذه الاهوال ظل أميناً على حب الوطن ويحمل صورة الوطن في عقله وقلبه , رغم معاناة الغربة والاغتراب . نجد في شقة ( سليم ) الصغيرة جدرانها تمثل متحف لصور العراق . وكذلك يتميز بالسلوك العقلاني ووضوح الرؤية والموقف , في الصراع بين الثقافة والعقلية الشرقية والغربية . أن ( سليم ) في سلوكه وتصرفه يمثل صورة مشرقة للبطل الايجابي , عكس البطل السلبي في الصراع بين العقلية الشرقية والغربية . التي تناولتها الروايات العربية , على سبيل المثال , رواية ( موسم الهجرة الى الشمال ) ورواية ( الحي اللاتيني ) . ونجد الاب ( نوح ) والابن ( سليم ) في صراع وخلاف , ضمن المنطق المسموح بين الاب والابن , ولكن يجمعهما الجد ( مطلق ) في التوافق والانسجام . فالجد هو الخيمة الذي يجمع عليها الفرقاء في داخلها على التوافق . نجد ان المتن الروائي توغل عميقاً في تفاصيل صورة العراق وتحولاته عبر الفترات المتعاقبة . والتي كانت الدكتاتورية الضربة القاصمة التي كسرت ظهر العراق , في التحطم والتشتت والارهاب. واصابت الوطن في اعمق أزمة حتى مزقت هويته . واصبح كل أمل الغريب والمغترب ان يجد هويته داخل الوطن حتى ينهي عناء البحث عنها ( حيث أمارس هويتي الاولى , حنيني , شوقي الى احتضان الأم واخوتي ,الى زيارة قبر عالية , الى السباحة في نهر دجلة , الى اصدقائي , الى ابقارنا وحميرنا ودجاجاتنا والجبل .. أتلهف الى أخبارهم , وعنهم . كيف هم الآن ؟ ماذا حدث ؟ وماذا يحدث ؟ من مات منهم ؟ ومن تزوج ) ص38 . هذه لهفة الحنين والشوق التي تفور في أعماق الوجدان بقهر وحزن وحسرة ( أنه العراق يا أبي ) هذا الترابط العضوي بين الماضي والحاضر . الذي دنسته الدكتاتورية في مجيئها المشؤوم . والتي حرثت في الخراب والتدمير , وما أصاب العراق من فواجع , لذلك يقول الاب ( نوح ) الى أبنه ( سليم ) ( أكتب ما تشاء فلن يحدث أسوأ مما حدث .. هذا العالم الجايف ) هذه حكايات العراق المأساوية التي تقطع الانفاس بحشرجة الالم والحزن والغضب . بأنها معاناة تحطيم الانسان وتهميشه . هذه تجسيدات الشخصيات المحورية التي سلط عليها المتن السردي . ولكن لابد من استعراض الملامح السمات البارزة لهذه الشخصيات التي تمثل مراحل العراق المختلفة :
1 – الجد ( مطلق ) : يمثل الحكمة والعقلانية في الفعل والارشاد بحكمته القائلة ( أذا نبح عليك الكلب فلا تنبح عليه , ولكن أذا عضك فعضه ) ص9 . وكان سعيه الحثيث والمثابر , في تشيد ما يطلق عليه من تسمية بالمدينة الفاضلة أو القرية الفاضلة , لكن هذا الحلم والامل اصطدم في المواجهة مع الحكومة في اجهاضه . كان ملتزما بوعي في التراث الديني وتقاليده وما جاء في القرآن . كان ملتزماً بالعقلية التي تبعده عن الطيش والتهور وسوء التقدير . لذلك من اجل امتصاص انتقام السلطة انتقل بقريته الى الضفة الاخرى من النهر , ليكن بعيداً عن الصراع غير المتكافئ مع قوات الحكومية . وكان يقول عنه الاب ( نوح ) موجهاً كلامه الى أبنه ( سليم ) ( جدك رجل عظيم يا سليم , لكنه ربما ولد في غير عصره . أنني أحبه بشكل كبير ) ص116 .
2 – الاب ( نوح ) : يمثل مرحلة في عهد البعث بفترته الاولى والثانية , ويتميز هذا الجيل بين الاطاعة والتمرد . يمثل روح الازدواجية المتناقضة بين ( الديني والارهابي ). وهو بالذات نهج وسلوك حكم البعث في الارهاب , أوالدعوة الى الحملة الايمانية الدينية . وكذلك وجه الطيش والانتهاك . لذلك حين التقى ( سليم ) مع أبيه وجهاً لوجه في اسبانيا / مدريد . كان ( سليم ) صعق بالغرابة والاستغراب , لم يصدق عينيه بأن هذا الواقف أمامه هل هو أباه حقاُ ؟ , في هيئته المتنافرة والغرائبية ( هذا الرجل حليق الشاربين , صلع خفيف فوق الجبهة , طويل الشعر مربوطة الى الخلف , وخصلتان صغيرتان منه مصبوغتين بالاحمر والاخضر , ثلاث حلقات فضية تتدلى من أذنه اليسرى , أقراط .. أيعقل أن يكون هذا أبي ؟! أهذا هو أبي حقاً ) ص19 . . جاء الى أسبانيا / مدريد من أجل أخذ الثأر والانتقام من فتى السلطة الطائش , الذي تحرش بأبنته الصغيرة ( استبراق ) حين مسكها من مؤخرتها ( بالضبط مثلما كان يفعل عدي صدام حسين في التحرش بالفتيات ويخطفهن من الشوارع ) فما كان من الاب ( نوح) ان افرغ في مؤخرته طلقتين . والفتى الطائش يصيح بغضب ( أتعرف من أنا ؟ فيجيبه : أنت أبن كلب …. أبن قحبة ) ولكن كان الدمار والخراب حل بالقرية آل مطلق . فقد عاثت الحكومة قتلاً وخراباً , والنتيجة كان عدد الضحايا 17 قتيلاً حتى الاب ( نوح ) خرج من السجن معوق ومخصي . وسميت قريتهم بقرية ( القشامر ) وغيروا لقب ( مطلق ) الى اسم أل قشامر , ولكن بعد اشتداد ضراوة الحرب العراقية الايرانية , وحاجة الدكتاتورية الى وقود للحرب لتجنيد الشباب والرجال ودفعهم الى جبهات القتال . غيرت أسم قرية ( القشامر ) الى اسم ( قرية الفارس ) تيميماً بالفارس الدكتاتور , الذي حول العراق الى جحيم وتوابيت . فلذلك يتساءل بجزع عن عمل لجان التفتيش لنزع اسلحة الدمار الشامل بالقول ( أية أسلحة ودمار شامل , هل هناك ما هو أكثر دماراً من الدكتاتور نفسه , الذي قتل وشرد الملايين , فلماذا لا ينتزعونه ويخلصوننا ! ؟ ) ص125 . وفي الاخير عرف الاب ( نوح ) بأن فتى السلطة الطائش الذي عين بعد ذلك في السلك الدبلوماسي . قد انتقل الى بلد آخر , أو الى جهة مجهولة , وربما قتل أو مات . لذلك غير قناعاته بالثأر والانتقام .
3 – الابن ( سليم ) : يمثل الجيل الذي عانى الغربة والاغتراب , عاني شبح الدكتاتورية وارهابها , ومنهم السارد أو الروي نفسه , وهو يحمل مواصفات الكاتب أيضاً , في مقارعة النظام والسلطة الارهابية , لذلك يصيح بالتذمر والسخط ( لماذا …. لماذا فعلتم بنا كل هذا .. يا مجرمين ) ص164 . كان في بداية براعم حياته الشبابية , احب ( عالية ) أبنة عمه , حباً ملك جوانحه , وكان يبعث الرسائل والقصائد الشعرية عبر شقيقته الصغرى ( أستبراق ) وبعد ذلك اختار مكاناً لعش الحب بينهما , يلتقيان يومياً بالعاطفة العشقية الملتهبة وهم يمضغان أصابع التمر بكل شهية واشتياق وشهوانية . كان يطير بجوانحه العشقية بالبهجة , لكن الموت خطف ( عالية ) واصابه الحزن الشديد . وفي شبابه كان ضد الارهاب والسلطة مما ضيقت عليه الخناق . مما دفعه الى التخلص من شبح الدكتاتورية بالهجرة الى أسبانيا , وهناك استطاع ان يوصل صوته المعارض للنظام . وينقل محنة ومأساة الوطن الى الرأي العام الاسباني . وهو يمثل العقلية الناضجة والواعية من شريحة المغتربين في المهجر . ويحمل صورة العراق بكل معاناتها . يمثل الجيل الذي بأستطاعته ان يتحمل المسؤولية العراق في الانعتاق والحرية .
جمعة عبدالله

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here