اهوار العراق، دُرر العراق ، اهمية قصب الهور في حياة المواطن السومري! (*) ح3

اهوار العراق، دُرر العراق ، اهمية قصب الهور في حياة المواطن السومري! (*) ح3 ، د. رضا العطار

لقد كان للقصب الذي يملأ اهوارالعراق، من اهمية بالغة في حياة المواطن السومري، فليست القصبة في نظره مجرد نبتة، انما للقصبة حاسة و صفات توحي بالدهش والمهابة. ففي نموها الممرع في الاهوار قوة غامضة، وللقصب قوة على اتيان العجب، كالموسيقى الصادحة في ناي الراعي، او العلاقات المليئة بالمعاني التي تتركها قصبة الكاتب، الذي بفضلها، تتحول افكاره الى اقاصيص او قصائد وغناء، هذا ما جاء في الالواح الطينية السومرية.

ان هذه القوى الموجودة في كل قصبة لا تتغير، تآلفت في نظر ساكني ما بين النهرين في شخصية الهية – هي الإلهه ( نيدابه ) . فنيدابة هي التي جعلت الاقصاب تمرع في المياه. واذا لم تكن بالقرب من الراعي قصبة، عجز ان يطرب آذانه بالناي. واذا ما راى الكاتب السومري ان عبارة صعبة جميلة خرجت من طرف قصبته، حمد الألهة نيدابة واثنى عليها.

فالالهة هذه تمنح الاقصاب جميعها، قوة غامضة خارقة. انها تتوحد في كل قصبة، بمعنى انها تحلّ فيها لتضفي عليها صفاتها، غير انها لا تفقد هويتها في الظاهرة المحسوسة، كما انها لا تحددها القصبة الواحدة او اقصاب اخرى. وقد عبر فنانو وادي الرافدين عن هذه العلاقة عند تصورهم الهة القصب، بشكل قوي رغم بدائيته. فهم رسموها في شكل انسان، كسيدة محترمة، و الاقصاب ايضا مرسومة معها : فهي تنمو من كتفيها – اي انها متحدة بها جسديا، تستمد حياتها منها مباشرة.

وهكذا فإن العراقي القديم كان يحس بانه في كثير من الظواهر الفردية، قطعة منها، واغرب من هذا، اعتقاده بأن الذات الواحدة قد تحل في ذوات اخرى تباينها، فتمنحها بعض خواصها، وبعض هويتها.
هناك دعاء يعتقد صاحبه انه عن طريقه سوف يسكب المناعة على كل عضو في جسمه بتوحده مع الآلهة والشارات المقدسة، هذا نصه :

( أنليل رأسي والنهار وجهي، والاله الفذ – اوراش – هو الروح الحامية التي تهدي خطاي، في عنقي قلادة الألهة انليل، وذراعي منجل الهلال الغربي. واصابعي طرفاء، عظم آلهة السماء. انها تدفع عني عناق السحْر، وتجعل قدماي جوالتان ).

والتشبه هنا ايضا جزئي، لأن ما يرجوه هذا السومري هو ان تحل صفات هذه الالهة والشارات المقدسة في جسمه فتجعله حصينا ازاء الأذى.
ولما كان من المعتقد ان الانسان يستطيع التشبه جزئيا بآلهة اخرى، يشاركها في طبائعها وقدراتها . فيقال مثلا ان وجه الاله نينورتا هو شاماش – اي اله الشمس، وان أذنيه هي الهة الحكمة – إيا – وهكذا. وقد تعني هذه العبارات ان وجه نينورتا يستمد ضياءه المتألق من ذلك النور الذي هو صفة الهة الشمس الكبرى.

وقد يتخذ هذا التوحد والتشبه الجزئي شكلا يخالف الشكل السابق بعض الشئ. وهناك كتابات تقول ان إله مردوك هو إله انليل اذا كان المقام مقام حكم او استشارة، غير ان إله القمر ( سين ) اذا كانت مهمته تنوير الليل وهكذا فالمعنى الظاهر في هذا هو ان إله مردوك حين يقوم بالحكم واتخاذ القرارات يشارك إله انليل شخصيته وصفاته وقدراته – اذ ان انليل يمثل القوة الاجرائية بين الالهة. اما اذا سطع مردوك نوره في السماء ليلا بصفته ( المشتري )، انذاك يشاركه اله القمر في بركاته .
الحلقة التالية في الغد !

* مقتبس من كتاب الواح طينية، السومريون لصموئيل كريمر جامعة شيكاغو 1963

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here