الاسلام ضد مفهوم الثيوقراطية

الاسلام ضد مفهوم الثيوقراطية

الاسلام هو الدين الذي ارسله الله للناس كافة “وما ارسلناك الا رحمة للعالمين”. جاء الاسلام كاخر دين يدعو لمبادئ تتوافق مع الفطرة الإنسانية السليمة ومكارم الاخلاق. دعى الاسلام الناس جميعا الى التفكر والتبصر والنظر لمعالجة مصالح العباد لرضى رب العباد.
ان جاء انبياء الله كابراهيم وموسى وسليمان وعيسى وغيرهم بمعاجز الهية لابطال السحر وقهر الناس لطاعة انبياء الله. لكن الاسلام لم ياتي بمجرات خارقة لقوانين الطبيعية انما بعث الله لاخر الانبياء محمد كتاب يخاطب العقل دون معاجز بعد ان اراد الله تعالى ان تتحمل الانسانية حكم نفسها بنفسها دون حاجة لمعجزات باهرة.
جاء رسول الله كي يدعوا الى دولة مدنية قوامها مباديء الاسلام المتعلقة بالعدالة والشورى والتسامح والتضامن. دين لا يفرق بين عربي واعجمي او بين ابيض واسود او بين ذكر وانثى الا بالتقوى. ليكون للفرد قيمته التي تعتمد على كفاءته لخدمة المجتمع في هذه الحياة بعيدا عن العرقية والقومية والعنصرية فالجميع سواسية كاسنان المشط.
كانت رسالات الاديان الاخرى عندما كانت الانسانية غير راشدة تعتمد على المعاجز وعلى فصل العبادات عن الحياة المعاشية. فبالنسبة للدين المسيحي ووفق مقولة نبي الله سيدنا عيسى عليه السلام ما لقيصر لقيصر وما لله لله. اي ان الامر واضح فوفق هذا القول نرى فصل عمل الدنيا التجاري المادي عن عمل الاخرة العبادي المخصص لله. اي ان السلطة الزمنية الدنيوية منفصلة عن العبادات الالهية.
جاء الدين المسيحي ايضا لتخليص بني اسرائيل من ظلم الحكام وكان دور نبي الله عيسى محدودا لقوم معينين. من اجل ابطال التراهات والخرافات والسحر بمعجزات الهية وهبها الله لنبيه منها خلق الطير من الطين ونفخ الروح فيه لتدب في جسده الحياة ويطير. اضافة الى شفاء الاكمه والابرص واحياء الموتى كما كان يعلم ما يدخره بني اسرائيل في بيوتهم وما ياكلون. لكن نبي الله عيسى كان يقول لقومه في كل معجزه ان عمله كان باذن الله وليس له من الامر شيء.
بعد انتهاء مهمة النبي عيسى ثم رفعه الله الى السماء ابتدع انصاره رهبانية ما انزل الله بها من سلطان. كما استغل بعض الملوك والقساوسة اسمه ليحكوا ويستولوا على الشان السياسي باسم الله فنشات الثيوقراطية (حكم الدين) فكانوا يبيعوا للناس صكوك الغفران للدخول الى الجنة وعاثوا في الارض فسادا. تحكم رجال الدين بالسلطة السياسية.
هذه المفاسد اجبرت المثقفين والكتاب والحقوقيين من المناداة بالديمقراطية (حكم الشعب). بالتالي العمل على عزل القساوسة والمستغلين للمسيحية من الاستمرارية في حكم الناس. فمنعت سلطات الكنيسة من التدخل في السياسة. هكذا ابتكرت العلمانية والدولة المدنية لتكون وسيلة اخرى للاستحواذ على سلطة مناوئة للدولة الدينية. عادت المسيحية حبيسة في الكنيسة. فتولى غيرهم قيادة الشان السياسي من الطبقات غير الدينية وغير المرتبطة بالدين.
ان الخيار الغربي المسيحي بعزل الدين عن السياسة في بلدانهم كان كما راينا نتيجة طغيان وظلم وخزعبلات القساوسة. لكن انتشار الاسلام وعدالته بعد ان بسط سلطانه على اهم بلدان العالم حفز الغرب للانتقام منه. فعمل بعد الثورة الصناعية وانحراف الحكام المسلمين لاستعمار العالم الاسلامي. ان الذي شجع غزو تلك الدول ضعف وابتعاد المسلمين عن دينهم. ما سهل من تمرير مشاريع الغرب في استغلال ثروات المشرق والمغرب العربي. كان حقد الغرب على الاسلام كبيرا فلا بد له اذن من عزل الروح (الاسلام) عن الجسد (المسلمين). ان افضل حجة لتشويه الاسلام هي تصدير تجربتهم مع المسيحية ولصقها على الاسلام.
لقد اضحت العلمانية كدين سياسي جديد مناهض لجميع الاديان وخير وسيلة للاستعماريين من فرضها على المسلمين. لذا كان همهم الاول نشر العلمانية وفصل الاسلام عن حياة الناس. لقد عمموا وفرضوا قسرا المفاهيم المادية الغربية واثاروا الشبهات على الاسلام واسسوا احزاب وتكتلات لها الحق في قيادة الشان العام. تمكنوا من حرف اجيال عربية مسلمة كثيرة كانت تعتقد بان انطلاق نهضة اوربا عندما ابتعدت عن الدين وعزلته عن السياسة. اوحى الغرب للطبقات المتغربة ان بلدان المسلمين لا يمكن ان تتقدم الا بعزل الدين عن السياسة واتباع سياسة المستعمرين التنويرية بزعمهم.
انه كلام حق يراد به باطل فان كان القساوسة يحكمون باسم الله. فان المسلمين منذ عهد اول الخلفاء الراشدين بعد وفاة رسول الله لم يدعي الحكم باسم الله. واول كلمة قالها اني قد وليت عليكم ولست بخيركم فان اصبت فاعينوني وان اخطات فقوموني. كان الاسلام عامل تطور علمي وثقافي وادبي وقيمه الاساسية تدعوا الناس لقتال المستعمرين والظلم والطغيان. كما ان الاسلام لم يدعوا الى حكم ديني اطلاقا اي حكم يقوده اناس اختارهم الله من غير الرسل والانبياء. كان حكم الخلفاء على سبيل المثال اسلاميا وليس دينيا. فالحاكم يختاره الشعب بالشورى ولا يوجد احد منهم معين من قبل الله جله جلاله او رسوله.
على الرغم من ان رسول الله محمد اختاره الله للعالمين بالرسالة الخاتمة وانه لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى. لكنه كان يستشير قومه ويحكم في الشؤون غير الدينية بصورة مدنية تحتمل الخطا والصواب. كان في مواطن كثيرة ياخذ براي الصحابة كتغيير موقع الجيش في معركة بدر من قبل الخباب. او خروجه الى القتال بمعركة احد رغم عدم قناعته بعد الحاح بعض صحابته عليه. او موافقته لتطبيق نصيحة ام سلمه عندما رفض المسلمون طاعته لحلق رؤوسهم بعد صلح الحديبية. او مقولته الشهيرة انتم اعلم بشؤون دنياكم عندما لم يابروا نخيلهم في المدينة. اضافة الى الكثير من الامثلة التي تؤكد بضرورة اعتماد المسلمين على انفسهم اولا والتوكل على الله فيما بعد وفق الاية القرانية “ان الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم”.
اما اسلامي اليوم من مختلف المذاهب والملل والنحل فقد شوهوا صورة الاسلام. فلا يعتد بتاصيلهم وتفصيلهم وفقههم السياسي لانهم يستخدمون الوسائل والادوات الغربية للوصول الى غايات اسلامية بزعمهم. فمرة يساندون الدكتاتوريين ومرة يساندون ملوك الجور العملاء. في حين ان مبتغاهم اناني حزبي فئوي يتعارض تماما مع المصلحة الاسلامية العليا.
الدكتور نصيف الجبوري

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here