صفحة من حياة العرب في العهد الجاهلي ح4

صفحة من حياة العرب في العهد الجاهلي ح4 (*) د. رضا العطار

نشأة اللغة العربية
كان سكان شبه الجزيرة العربية يتكلمون قديما اللغات الأرامية والكنعانية والعبرية والحجازية والتدمرية لكن هذه اللغات اندثرت مع العرب البائدة واختفت في مجاهل التاريخ. واما اللغة السريانية فهي منحدرة من الأرامية اصلا، وهي لغة السيد المسيح الذي كان يخاطب تلامذته بها
لقد قيل ان اللغة العربية في اصلها عبرانية لكن الخصائص اللغوية كجذور الأفعال وصيغ الماضي والحاضر المشتركة اظهرت الدليل على ان اللغة العربية اصيلة ومستقلة وانها جمعت الساميين مع بعضهم وان الأنتشار الواسع والبيئات المتباينة التي نزحوا اليها سببت تنوع اللهجات.

فاللغة العربية شملت الفصحى ولهجات اخرى نطقت بها قبائل الجنوب وهي اللغة
التي فازت بالبقاء في حين ان اخواتها اختفت في عالم النسيان.
لقد نهضت اللغة العربية بعدما كانت منزوية حتى اوائل القرن السادس الميلادي وامتازت على العبرانية والأرامية في بعض الخصائص فهي اشمل منها في المعاني واوفر بالمعلومات واوفى بالغرض، هذا الغنى الجليل الذي جعل اللغة العربية الفصحى متميزة بروحها الوثابة حتى غدت رحيق الحضارة العربية الحديثة
ففي خلال القرن السابع الميلادي انطلقت شعاعات هذه اللغة مع بزوغ فجرالأسلام بأتجاه الأمصار النائية ناشرة لهجاتها المتعددة في البلدان الممتدة بين المحيط الهادي شرقا الى المحيط الأطلسي غربا.
في اعتقادي ان العرب المسلمون وهم في ذروة المجد لم تقم حضارتهم بمجرد فوزهم في الفتوحات الحربية بقوة ايمانهم وسيوفهم وشجاعتهم، انما بفضل الفيض الوافر لقدرات اللغة العربية التي كانت الباعث الحقيقي في بزوغ شمس الثقافات الى السطوع على بغداد زمن العباسيين والقاهرة زمن الفاطميين وقرطبة زمن الأندلسيين التي شهدت حضاراتها عصورا ذهبية تجلت في رقيها وازدهارها شملت جميع مرافق الحياة.

في منتصف القرن التاسع عشر عندما تمكن العلماء من معرفة الكتابة المسمارية وفك رموزها، استطاعوا ان يدرسوا اللغات الأكدية والبابلية والأشورية التي كتبت بهذا الخط وقارنوها بالعربية والعبرية والأثيوبية، وتبين ان كل هذه اللغات تتلاقى في جذور الأفعال. فالفعل مؤلف من ثلاثة احرف مثل فعل وضرب وكذالك في صيغ الصرف لا اختلاف في جوهرها كما ان مخارج بعض الحروف كحرفي العين والحاء هي نفسها. بالأضافة الى تشابه الأسماء والضمائر والأعداد وعلى هذا الأساس استنتج الباحثون ان لغات هذه الأمم ترجع الى عنصر واحد اسموه بالعنصر السامي. كما اطلقوا على اللغات المتشابهة مصطلح اللغات السامية المتفرعة اصلا من منبع واحد اسموه لغة الأم

يعتقد الرافعي ان اللغة البابلية – الاشورية هي اصل اللغات السامية، وخط هذه اللغة مأخوذ عن السومريين، وقد ظلت هذه اللغة معمرة نحو الفي سنة، خضع لنفوذها الحثيون والليديون والميديون والفنيقيون والعبرانيون.
وقد اسس البابليون قوافل تجارية، فكان لا بد لهم من لغة للتفاهم مع الشعوب الاخرى، فكانت اللغة الاكادية. ثم هزًم الفرس البابليين ومعهم بدأت تذيع لغة اخرى هي الارامية.
والاراميون شعب قديم جدا ذكر في التوراة. وكانت هذه اللغة قوية فرضت نفسها على اخواتها . . ولم تزل حتى قضت عليها اللغة العربية.
ويمكننا ان نعود باصل اللغة المسمارية، وقد كانت هذه حلقة وصل بين الهيروغلوفية المصرية والابجدية الفينيقية.

واقدم رسم عُثر عليه كان مشتقا من الخط الكنعاني المنحدر اصلا من الهيروغليفي. وقد انبثق من الكنعاني كل من العبري والمؤابي والارامي والمسند. كما انبثق من الاخير الصفوي والثمودي والحميري. كما انبثق من الارامي كل من السرياني والنبطي ووالتدمري والعبري الحديث والفهلوي والزند، مثلما انبثق من السرياني الخط الكوفي ومن النبطي الخط الحجازي.
نرى من كل ما استعرضنا، ان الخط العربي نشأ وتطور في الحجاز. وقد نشأ من الخط النبطي وراح يتطور تدريجيا حتى استقر شكله في مطلع القرن السادس الميلادي.

العصر الجاهلي بعيد في الزمان، سشمل اطوار شبه الجزيرة العربية القديمة قبل الميلاد وبعده. وقد يبادر الى ذهننا ان لفظة الجاهلية تعني الجهل. إلا اننا اذا نظرنا الى حياة العرب ككل، ادركنا سريعا ان هذا اللفظ غير ما نريد ولا سيما ان عرب الجنوب كانت لهم حضارة راقية كما ذكرنا. والمعنى الثاني لهذه اللفظة قد يأتي على سبيل الدلالة على الغباء او قلة الذكاء. والعربي كان بطبعه ذكيا، بعيدا جدا عن الغباء.
بيد ان هذه اللفظة وردت عند الجاهليين. قال عمرو بن كلثوم (مات 570) اي قبل ظهور الاسلام بسنوات معدودة، في المعلقة :

ألا لا يجهلَنْ أحدُ علينا * * * فنجهلَ فوق جَهل الجاهلينا

ومن الواضح هنا ان لفظة الجاهليين تعني الطيش والسفه من جهة، وهي، من جهة اخرى، تعني الجهل الذي يناقض بمعناه العلم.
إلا اننا اذا ربطنا هذه اللفظة بالمعنى الديني ادركنا ابعادها. فالاسلام كان تأسيا وبداية هي أم البدايات. بل انه النهاية التي صارت بداية : نهاية عصر وفاتحة عصر.
من هنا فنحن (نعرف الجاهلية بالاسلام)، كما يتوضح ذلك في سورة الفتح في القرآن الكريم : ( إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحميُة حمية الجاهلية . . . )
وانطلاقا من هذا المفهوم، يمكن ان نقول ان العصر السابق لظهور الاسلام قد سُمي بالجاهلية لانه جهل هذا الدين، فعكف ابناؤه على عبادة الاصنام والاوثان، واتصفوا بالغضب والطيش والنزق والسفة. فللفظة هنا مدلول ديني قبل كل شيء.
وقد اتخذت هذا المدلول انطلاقا من القرآن، ورد في سورة البقرة : ( قالوا اتخذنا هزوا قال اعوذ بالله ان اكون من الجاهليين) فالجهل هنا جهل ديني.
كما ورد في القرآن ايضا في سورة الاعراف : ( خذ العفو وامر بالعرف واعرض عن الجاهليين) والجهل هنا يدل على السفه والغضب والطيش.

والباحثون في الادب العربي يقفون بابحاثهم الشعرية في الحقبة الممتدة بين مئة وخمسين الى مئتين عام قبل الاسلام.
قال الجاحظ : (واما الشعر، فحديث الميلاد صغير السن، اول من نهج سبيله وسلك الطريق اليه امرؤ القيس بن حجر ومهلهل بن ربيعة . . . فإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتي عام)

وانطلاقا من هذا يمكن ان نقسم العصر الجاهلي الى قسمين :
1 – جاهلية بعيدة : وهي التي عاشت فيها الامم البائدة واخبارها مجهولة، خاصة عرب الجنوب خلال مرحلة ازدهارهم الحضاري.
2 – جاهلية قريبة : وهي التي ذكرها الجاحظ والتي انحصرت في حقبة مئتين سنة، إلا ما عثر عليه من رقم ونقوش واخبار، ذكرنا بعضها.
كما ان اخبار الشعر لم تردنا إلا من الجاهلية الثانية. ويؤرخ اقدم الشعر بما قبل 565 م، وربما بشعر امرؤ القيس الا ان هذا الشعر يذكر من فصيدته التي مطلعها :

لِمن الديارُ غشيتها بسخام * * * فعمايتينِ فهضب ذي اقدام

يذكر ان ابن خذام قد وقف قبله على الاطلال وبكى واستبكى يقول :

عوجا على الطلل المحيل لاننا * * * نبكي الديار كما بكى ابن حذام

ولم يصلنا شيء عن ابن حذام هذا. من هنا نعتبر ان الجاهلية الاولى ما زالت مغمورة، وسنقف في بحثنا على الجاهلية الثانية واخبارها.

كان سكان شبه الجزيرة العربية يتكلمون قديما اللغات الأرامية والكنعانية والعبرية والحجازية والتدمرية لكن هذه اللغات اندثرت مع العرب البائدة واختفت في مجاهل التاريخ. واما اللغة السريانية فهي منحدرة من الأرامية اصلا، وهي لغة السيد المسيح الذي كان يخاطب تلامذته بها
لقد قيل ان اللغة العربية في اصلها عبرانية لكن الخصائص اللغوية كجذور الأفعال وصيغ الماضي والحاضر المشتركة اظهرت الدليل على ان اللغة العربية اصيلة ومستقلة وانها جمعت الساميين مع بعضهم وان الأنتشار الواسع والبيئات المتباينة التي نزحوا اليها سببت تنوع اللهجات.

فاللغة العربية شملت الفصحى ولهجات اخرى نطقت بها قبائل الجنوب وهي اللغة
التي فازت بالبقاء في حين ان اخواتها اختفت في عالم النسيان.
لقد نهضت اللغة العربية بعدما كانت منزوية حتى اوائل القرن السادس الميلادي وامتازت على العبرانية والأرامية في بعض الخصائص فهي اشمل منها في المعاني واوفر بالمعلومات واوفى بالغرض، هذا الغنى الجليل الذي جعل اللغة العربية الفصحى متميزة بروحها الوثابة حتى غدت رحيق الحضارة العربية الحديثة
ففي خلال القرن السابع الميلادي انطلقت شعاعات هذه اللغة مع بزوغ فجرالأسلام بأتجاه الأمصار النائية ناشرة لهجاتها المتعددة في البلدان الممتدة بين المحيط الهادي شرقا الى المحيط الأطلسي غربا.
في اعتقادي ان العرب المسلمون وهم في ذروة المجد لم تقم حضارتهم بمجرد فوزهم في الفتوحات الحربية بقوة ايمانهم وسيوفهم وشجاعتهم، انما بفضل الفيض الوافر لقدرات اللغة العربية التي كانت الباعث الحقيقي في بزوغ شمس الثقافات الى السطوع على بغداد زمن العباسيين والقاهرة زمن الفاطميين وقرطبة زمن الأندلسيين التي شهدت حضاراتها عصورا ذهبية تجلت في رقيها وازدهارها شملت جميع مرافق الحياة.

في منتصف القرن التاسع عشر عندما تمكن العلماء من معرفة الكتابة المسمارية وفك رموزها، استطاعوا ان يدرسوا اللغات الأكدية والبابلية والأشورية التي كتبت بهذا الخط وقارنوها بالعربية والعبرية والأثيوبية، وتبين ان كل هذه اللغات تتلاقى في جذور الأفعال. فالفعل مؤلف من ثلاثة احرف مثل فعل وضرب وكذالك في صيغ الصرف لا اختلاف في جوهرها كما ان مخارج بعض الحروف كحرفي العين والحاء هي نفسها. بالأضافة الى تشابه الأسماء والضمائر والأعداد وعلى هذا الأساس استنتج الباحثون ان لغات هذه الأمم ترجع الى عنصر واحد اسموه بالعنصر السامي. كما اطلقوا على اللغات المتشابهة مصطلح اللغات السامية المتفرعة اصلا من منبع واحد اسموه لغة الأم

يعتقد الرافعي ان اللغة البابلية – الاشورية هي اصل اللغات السامية، وخط هذه اللغة مأخوذ عن السومريين، وقد ظلت هذه اللغة معمرة نحو الفي سنة، خضع لنفوذها الحثيون والليديون والميديون والفنيقيون والعبرانيون.
وقد اسس البابليون قوافل تجارية، فكان لا بد لهم من لغة للتفاهم مع الشعوب الاخرى، فكانت اللغة الاكادية. ثم هزًم الفرس البابليين ومعهم بدأت تذيع لغة اخرى هي الارامية.
والاراميون شعب قديم جدا ذكر في التوراة. وكانت هذه اللغة قوية فرضت نفسها على اخواتها . . ولم تزل حتى قضت عليها اللغة العربية.
ويمكننا ان نعود باصل اللغة المسمارية، وقد كانت هذه حلقة وصل بين الهيروغلوفية المصرية والابجدية الفينيقية.

واقدم رسم عُثر عليه كان مشتقا من الخط الكنعاني المنحدر اصلا من الهيروغليفي. وقد انبثق من الكنعاني كل من العبري والمؤابي والارامي والمسند. كما انبثق من الاخير الصفوي والثمودي والحميري. كما انبثق من الارامي كل من السرياني والنبطي ووالتدمري والعبري الحديث والفهلوي والزند، مثلما انبثق من السرياني الخط الكوفي ومن النبطي الخط الحجازي.
نرى من كل ما استعرضنا، ان الخط العربي نشأ وتطور في الحجاز. وقد نشأ من الخط النبطي وراح يتطور تدريجيا حتى استقر شكله في مطلع القرن السادس الميلادي.

اما سيكولوجية الأنسان الجاهلي فهي انعكاس لظروف بيئته التي نشأ فيها. فالجغرافيا والمناخ لهما تأثير كبير على حياة الفرد, وهما يحددان سلوكه وتطوره.
كان العربي القديم علوقا بالأرض كافح من اجل البقاء. وكان احساسه بقسوة المناخ من سخونة الصحراء وانعدام المطر وشحة الغذاء يتجلى في معاناته وتضحياته. فالجاهلي فارس جبار ومعاركه ضد ظلم الطبيعة يصعب تصورها. وفي هذا السياق يقول الشاعر الجاهلي تميم ابن مقبل

ما اطيب العيش لو ان الفتى حجر — تنبوا الحوادث عنه وهو ملموم

وقد فاضت نرجسية الجاهلي على ما حوله وحاول ان يستعلي على الظروف القاهرة بالفروسية كما عبر عنها الشاعر الجاهلي عنتر بن شداد

هلا سألت الخيل يا ابنة مالك — ان كنت جاهلة بما لم تعلمي
يخبرك من شهد الوقيعة انني — اغشى الوغى واعفوعن المغنم

واذا راجعنا سيرة عمرو بن كلثوم يتبين ان سلوك الجاهلي في حياته اليومية يشبه سلوك الأطفال. فهو يؤخذ بالعظيم من الاشياء يهتم بالحجم والكم دون المحتوى تبهره وهو يوجز ولا يطيل ولعل صفة البطولة لديه تفسير لواقعه المرير.
ان الجاهلي تبهره القوة ويأخذ بها، واذا استعرضنا معلقة عمرو بن كلثوم تبيننا هذا، فهي صراخ شبيه بصراخ الاطفال، وفي احسن الاحوال المراهقين، عندما يغضبون، قوله :

ابا هند فلا تعجل علينا — وانظرنا نخبرك اليقينا
بأننا نورد الرايات بيضا — ونصدرها حمرا قد روينا
تركنا الخيل عاكفة عليه — مقلدة اعنتها صفونا
تكون ثِقالها، شرقي نجد — ولُهوتها قضاعة اجمعينا

هذه الأبيات الشعرية تذكرنا بسلوك الأطفال عندما يتوعدون ويتشنجون, فالطفل يأخذ بالمبالغات ويعظم الحوادث وذالك بفضل خياله الخصب ورغبته في تصعيد الذات بغية اشباع متطلباته المكبوتة. ان نفسية الجاهلي نفسية مضطربة تجمع فيها تناقضات البيئة ….. انها نفسية الطفل في اولى تجلياتها. ومن خلال هذا يمكن القول ان شخصية الجاهلي هي اقرب للخير منه الى الشر، انها الأنا التي تؤكد نرجسيتها بوجه الزمن انتقاما من المحيط الضاغط.
يقول عمرو بن كلثوم :

ملأنا البرً حتى ضاق عنًا — وظهر البحر نملأه سفينا
إذا بلغ الفطامَ لنا صبيًى — تخرً له الجبابرُ ساجدينا
والشاعر هنا يدل على عظمة الشيء بالحجم والمبالغة. والواقع الذي يصلنا من الشعر لا يوجد الا في خيال صاحبه، فحجم القبيلة وقوة افرادها في بيتي عمرو بن كلثوم ليسا إلا انعكاسا لتصوره وتضخيمه الامور، ومثل هذا الخيال مألوف جدا عند الاطفال.

اما انعكاس المكان في شخصية الجاهلي فيتجلى من خلال التكرار، تكرار المشاهد والاشياء نفسها. فالشعر الجاهلي شعر التعبير النقلي عن الصحراء، شعر اجترار الصور وان كان التفصيل يدخلها وبعض التغييرات، إلا انها سطحية بالنسبة الى الجوهر.

* مقتبس من كتاب العرب في العهد الجاهلي لديريزه سقال، بيروت 1995 .

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here