من وحي زيارة البابا التاريخية للإمام السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله)

من وحي زيارة البابا التاريخية للإمام السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله)
العراق مهد التعددية والحوار
ا.د. ابراهيم العاتي
إن التنوع في هذا الكون ظاهرة ملحوظة، يدركها العقل ولا تخطئها العين، لكن هذا التنوع موجود في إطار من الوحدة والانسجام، وإلا انهار الكون بمجمله!
وفي القرآن الكريم دلالات كثيرة على معنى الوحدة والتنوع..فعلى الرغم أن النوع الانساني واحد، لكن الآية التالية تشير الى ان الله سبحانه خلقه متنوعا في اجناس ولغات مختلفة. قال تعالى: ((وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ)) (الروم: 22)، اي ليكون آيات او علامات او دلالات على قدرة الله وخلقه لهذا العالم.
هذا التنوع والاختلاف تشير اليه آية اخرى في قوله سبحانه: (( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)) (الحجرات: 13). وهنا يشير الباري جل شأنه الى ان التنوع في العروق والاجناس يمكن ان يكون مصدر ثراء وغنى بدلا من ان يكون مصدر صراع وشقاء، خاصة بين القوميات المختلفة، اذا ساد فيه مبدءآن:
الاول: مبدأ اجتماعي يعبر عنه بالتعارف، وما يترتب على ذلك التعارف من تعاون وانسجام، يعزز الالفة والمحبة بين البشر.
الثاني: مبدأ اخلاقي جوهره ان معيار التفاضل بين البشر ليس العنصر ولا الثروات ولا الكثرة ولا القوة العسكرية، بل ان الاكرم عند الله هو الاتقى.
ومنذ فجر التاريخ وقيام اولى الحضارات الانسانية في بلاد الرافدين جنوب العراق، وهي الحضارة السومرية التي عرفت اشكالا متطورة من التنظيم الاداري والسياسي والاقتصادي، وكتبت فيها اولى الملاحم الادبية التي تحمل بعدا فلسفيا اعني (ملحمة جلجامش)، وبابل حيث صدر (قانون حمورابي)، وهو اول شرعة قانونية في التاريخ تنظم مختلف اوجه الحياة الاجتماعية في حينها، وتصعد الى نينوى شمالا حيث الحضارة الاشورية التي انشا فيها (آشور بانيبال) اول مكتبة في التاريخ للالواح الطينية المكتوبة بالحرف المسماري، وحتى مجيء الإسلام، والعراق مهد التعددية والتنوع في اطار الاتساق والعيش المشترك. حيث بقيت الديانات القديمة في بلاد الرافدين موجودة وفاعلة، وقام المسيحيون السريان والصابئة وغيرهم بدور مهم في ترجمة الكتب العلمية والفكرية في الطب والفلك والفلسفة والمنطق، من لغات الحضارات السابقة عند اليونان وفارس والهند الى اللغة العربية، الأمر الذي ساهم في تقدم العلوم وازدهارها ابتداء من القرن الثاني للهجرة.
وحينما ظهرت المذاهب الفقهية والفرق الكلامية واختلفت حول تفسير او تأويل بعض نصوص الكتاب والسنة، فقد تحولت في العراق –ان لم تتدخل السياسة لتوظفها لمصالحها – الى مصدر ثراء وابداع، وايمان بأن الحوار هو الطريق الأمثل لإثبات صحة الآراء أو بطلانها، حتى سمي القرن الرابع الهجري في العراق، بالعصر الذهبي للحضارة الإسلامية.
وقد حافظت مرجعية النجف الاشرف على هذا الإرث الحضاري العظيم الذي ابتدأ مع انبلاج نور الرسالة الاسلامية ببعثة المصطفى المختار (ص)، وتناقلته الاجيال من مختلف المذاهب والامصار، وهم يطلبون العلم بالتتلمذ لأهل بيته الاطهار (ع)، وانطلاقا من مبدأ الحوار، كان اللقاء التاريخي يوم امس 6/3/ 2021 الذي جمع المرجع الديني الاعلى الامام السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله)، مع قداسة البابا فرنسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية، حيث يتجاوز عدد الكاثوليك في العالم المليار نسمة. فكان لقاء للقيم الانسانية الخالدة التي أرسى دعائمها النبي محمد (ص) والمسيح عيسى بن مريم (ع)، بجوار باب مدينة العلم الامام على (ع) الذي سنّ دستوراّ بل قاعدة ذهبية للتعايش بين البشرية كافة بقوله: (واعلم ان الناس صنفان: إما أخٌ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، قبل اربعة عشر قرنا من صدور شرعة حقوق الإنسان في القرن الماضي!
آملين ان يعلو صوت الحوار لحل مشكلاتنا على صوت الفتن وسفك الدماء، ودور الإيمان بالله ورسالات السماء، والتزام القيم الخُلُقية السامية، أمور أساسية للوصول الى تلك النتيجة.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here