الفيلسوف حسن عجمي يواصل غزارته في البحث الفلسفي

الفيلسوف حسن عجمي يواصل غزارته في البحث الفلسفي المعمق ، وتتوالى اصداراته التي تحمل الكثير من الأسئلة، أسئلة الشك، مع احتمالات يقينيتها. ولمناسبة صدور كتابه الجديد كان لا بد من الاستفسار عن مضمونه، فكان لي معه هذا الحوار، فماذا يقول حسن عجمي؟

أجرى الحوار الشاعر والصحافي إسماعيل فقيه مع المفكّر حسن عجمي.

_ ما هو المضمون الأساسي لكتابك الجديد “الفلسفة الإنسانوية : العلمنالوجيا و العقلنالوجيا”؟ و ما أهمية الفلسفة الإنسانوية التي تدعو إليها؟

– في كتاب “الفلسفة الإنسانوية : العلمنالوجيا و العقلنالوجيا ” أوضحتُ المضامين الإنسانوية الأساسية التي تؤكِّد على وحدة البشر و وحدة الأديان والثقافات و وحدة المذاهب الفلسفية بغرض تحقيق السلام من خلال رفض فلسفة الثنائيات التي تميّز بين الأنا و الآخر. و العلمنالوجيا والعقلنالوجيا آليتان أساسيتان لبناء الإنسانوية. فالعلمنالوجيا (أي علم العلمنة) هي علمنة الظواهر من خلال فصلها عن ماهياتها المُحدَّدة سلفاً ما يضمن تحرّرنا من مُحدَّدية الظواهر والحقائق بينما العقلنالوجيا (أي علم العقلنة) فهي عقلنة الظواهر من خلال تحليلها على أنها قرارات إنسانوية عقلانية مستقبلية معتمدة في تكوّنها على الإنسان ما يتضمن محورية الوجود الإنساني و دوره الفعّال في صياغة الوقائع والحقائق ومعانيها. بالنسبة إلى الفلسفة الإنسانوية التي صغتها في هذا الكتاب ، الحقائق و المعاني قرارات علمية واجتماعية و إنسانوية تُتخَذ على ضوء القِيَم الإنسانية كقِيَم التفكير العلمي و الانسجام المنطقي و الإفادة النظرية و العملية و الأخلاقية ما يربطها بالفكر الإنسانوي القائم على مراعاة القِيَم. و من منطلق هذه الفلسفة ، الإنسان أيضاً قرار معرفي واجتماعي وأخلاقي ما يضمن أن يتكوّن الإنسان على أساس قراراته فيُحرِّره من أية ماهيات مُحدَّدة سلفاً. هكذا الفلسفة الإنسانوية قائمة على مبدأ الحرية الذي يستلزم المساواة الاجتماعية والاقتصادية فلا حرية بلا مساواة تماماً كما لا مساواة بلا حرية. من هنا أيضاً ، الفلسفة الإنسانوية تكمن في العدالة المتمثلة بالحريات والمساواة. أما العدالة فهي أنسنة المعلومات بمعنى أنَّ العدالة هي إنتاج العدد الأكبر من المعلومات الصادقة و توزيعها بالتساوي بين كل الأفراد ما يضمن الحرية والمساواة بفضل المساواة بين الجميع في امتلاك المعلومات الصادقة نفسها. تكمن أهمية الفلسفة الإنسانوية في أنها السبيل الوحيد لتحقيق السلام و بناء الحضارة و ضمان العدالة لأنها تصرّ على وحدة البشر والثقافات والأديان ما يحتِّم القضاء على التعصب. لا حضارة بلا فلسفة إنسانوية تماماً كما لا فلسفة إنسانوية بلا تحضّر.

– تعرِّف في كتابك “الفلسفة الإنسانوية” الدينَ على أنه قرار إنسانوي مستقبلي يتمحور حول فهم ما يعتبر وحياً على ضوء الواقع والعقل المنطقي والعلمي والقيم. هل هذا التعريف للدين جزء محوري في فلسفتك الإنسانوية ولماذا؟

– تحليل الدين على أنه قرار إنسانوي مستقبلي حول ما يعتبر وحياً على ضوء العِلم والمعارف والقيم هو الركيزة الأساسية للتحرّر من أزمات الحضارة الحالية لأنَّ هذا التحليل يحرّر الدين مما فُرِض عليه في الماضي فيجعله حياً من خلال استلزام التفكير فيه و تفسيره وتأويله على ضوء القرارات الإنسانوية المستقبلية المعتمدة على التفكير العلمي والقيم الإنسانية. هكذا يحرّرنا هذا التحليل من الفكر الماضوي وسلوكياته كما يدفع بنا إلى تطوير الفكر الديني و أنسنته على أساس ما نكتشف من نماذج ومبادىء و قيم جديدة. و هذا يضمن التطوّر من خلال التحرّر من سجون الماضي ما يؤدي إلى المشاركة في إنتاج فكر جديد و فلسفات وعلوم مبتكرة. الأديان المُقيَّدة بقيود الماضي أديان ميتة. حين نعتبر أنَّ الدين قرار إنسانوي مستقبلي أي يتشكّل في المستقبل على ضوء القيم والمعارف الإنسانية التي ننتجها فعندئذٍ يتكوّن الدين على أساس ما ننتج و ما سوف ننتج من قيم و معارف فنضمن التحرّر من الفهم الماضوي للدين. من هنا هذا التعريف الإنسانوي للدين جزء جوهري في الفلسفة الإنسانوية لأنه يضمن حرية الإنسان و دوره المُنتِج للعقائد.

– لماذا تصرّ على إشتقاق مفاهيم جديدة كالعلمنالوجيا و العقلنالوجيا؟ ما الهدف من ذلك و هل الاشتقاق اللغوي ضروري في سياق الفلسفة؟

– لا بدّ من اشتقاق مفاهيم ومصطلحات جديدة لكي تستعيد اللغة حياتها. فاللغات كائنات حية والاشتقاق اللغوي يبني اللغات و يُحييها. أيّ مصطلح جديد يتضمن أفكاراً جديدة ما يساهم في إحياء الفكر و اللغة معاً. اللغة و الفكر كينونة واحدة لا تتجزأ فبتطوّر اللغة تتطوّر العقول و العكس صحيح. من هنا ، من الضروري تطوير اللغة من خلال اشتقاق مفاهيم مبتكرة لكي يتطوّر الفكر تماماً كما من الضروري تطوير الفكر لكي تتطوّر اللغة. لا عقل جديد بلا لغة جديدة. الاشتقاق اللغوي ضروري في الفلسفة و العلوم أيضاً. فإحدى الوظائف الأساسية للفلسفة والعِلم هي بناء لغات جديدة معتمدة على الاشتقاق اللغوي وحاوية على نظريات مبتكرة تماماً كما اشتق أينشتاين مصطلح “الزمكان” الحاوي على فكر علمي جديد مفاده أنَّ الزمان و المكان يشكّلان بُعداً واحداً بدلاً من بُعديْن منفصليْن.

– هل ترتبط مصطلحاتك الفكرية السابقة كالسوبر حداثة و السوبر مستقبلية بالفلسفة الإنسانوية التي تدعو إلى قبولها و بناء النهضة الحضارية على أسسها؟

– المصطلحات الفكرية الجديدة التي صغتها في كتبي ترتبط فيما بينها بارتباط منطقي فلسفي. فمثلاً ، تقول السوبر حداثة بأنَّ اللامُحدَّد يحكم العالَم و رغم لا مُحدَّدية الكون من الممكن معرفته بفضل تفسير ظواهره من خلال لا مُحدَّديتها. و بذلك يطالب الكونُ بأن يُحدِّده الإنسان بما يعقل و يعي فيصبح بذلك الإنسان مُحدِّداً للكون غير المُحدَّد ما يتضمن محورية الإنسان و دوره الفعّال في صياغة الكون لأنَّ الإنسان يُحدِّد الكون اللامُحدَّد حين يعيه. هكذا ترتبط السوبر حداثة بالفلسفة الإنسانوية التي تؤكِّد على محورية الوجود الإنساني و دور الإنسان الفعّال في صناعة الواقع. أما السوبر مستقبلية فتقول بأنَّ التاريخ يبدأ من المستقبل فتُعرِّف المفاهيم والظواهر من خلال المستقبل كتعريفها للمعنى على أنه قرار اجتماعي في المستقبل و تعريفها للحقيقة على أنها قرار علمي في المستقبل. وبذلك ، بالنسبة إلى السوبر مستقبلية ، الحقائق لا تتحقق سوى في المستقبل على ضوء قرارات الإنسان العلمية و المعاني لا تتحقق سوى في المستقبل على ضوء قرارات الإنسان الاجتماعية ما يتضمن محورية الوجود الإنساني تماماً كما تؤكِّد الفلسفة الإنسانوية. كل هذا يرينا بأنَّ السوبر

حداثة و السوبر مستقبلية والفلسفة الإنسانوية تشكِّل حقلاً فلسفياً واحداً مرتبط العناصر و غير قابل للفصل والتجزئة.

– تقول في كتابك “السوبر تخلف” إنّ الشعب المتخلف هو الشعب الذي لا ينتج ما هو مفيد ، أما الشعب السوبر متخلف هو الشعب الذي يطوّر التخلف. كيف تربط هذا الموقف الفكري بالفلسفة الإنسانوية التي تحمل رايات السلام و التحضّر؟

– السوبر تخلّف هو تطوير التخلّف من خلال تقديم العِلم على أنه جهل و تقديم الجهل على أنه عِلم. لقد أجدنا في صياغة السوبر تخلّف لكنه اليوم يسود أيضاً في الغرب. أمسى السوبر تخلّف جائحة سائدة في الشرق والغرب معاً و هو أخطر من جائحة كورونا لأنه يُصيب العقل المنطقي و العلمي فيقتله من خلال التعصب لليقينيات المخادعة. مثل على السوبر تخلّف هو انتشار قبول نظرية المؤامرة في العالم العربي. فنظرية المؤامرة نظرية غير علمية لأنه من المستحيل اختبارها على ضوء أية وقائع بينما العِلم هو القابل للاختبار. لكن العديد منا يقدّمون نظرية المؤامرة على أنها عِلم صادق بينما في الحقيقة هي نظرية جهل و تجهيل لكونها غير علمية. هذا مثل على تقديم الجهل على أنه عِلم. كما تشارك العديد من وسائل الاعلام والقنوات التلفزيونية الفضائية منها والمحلية في نشر الجهل والتجهيل و دعم سيادة السوبر تخلّف من خلال بث برامج تقدّم الجهل كعِلم كبرامج التنجيم و الأبراج والتنبؤ الخرافي بالمستقبل بالإضافة إلى نشر التعصب والكراهية والاقتتال بين العرب والترويج للفتنة الطائفية الاسلامية الكبرى. إنه زمن نشر الفِتَن والحروب و هذا جزء لا يتجزأ من السوبر تخلّف الكامن في التعصب ليقينيات معيّنة تحتِّم رفض الآخر فتؤدي لا محالة إلى الحروب. لكن الفلسفة الإنسانوية خالية من التعصب ليقينيات مُحدَّدة لأنها معتمدة على القرارات العلمية القابلة للمراجعة والاستبدال ولكونها أيضاً تدعو إلى وحدة البشر والثقافات والعقائد. بذلك الفلسفة الإنسانوية خير علاج لداء السوبر تخلّف.

– كيف تنظر إلى مستقبل الإنسان في ظل انتشار جائحة كورونا و ما صاحبت من انهيار اقتصادي؟ و هل من خلاص من الفِتَن و الحروب في عالمنا العربي؟

– لا يختلف مستقبل الإنسان عن مستقبل الأرض التي يحيا عليها و بها. فالأرض كينونة حية واحدة لا تنفصل تماماً كما أنَّ الكون كائن حيّ واحد لا يتجزأ. حين طغى الإنسان بقتل الأرض و ما فيها و مَن عليها ثارت بفيروسها لكي تستعيد توازنها. فكما رأينا جائحة كورونا أبعدت العديد من الناس عن قتل الأرض و مَن عليها فتنفّست الأرض و قلّ فيها التلوّث. دائماً تنتصر الحياة و ليست بالضرورة أن تكون حياتنا نحن. مستقبل الإنسان مستقبل الأرض التي تحيا بلا قتلٍ لمواردها و أبنائها. أما الانهيار الاقتصادي فسببه اللامساواة الاجتماعية والاقتصادية التي تُؤسِّس للفِتَن والحروب بعزلها لفئة الفقراء و محدودي الدخل و منعهم من المشاركة في الإنتاج والإبداع والابتكار لِقِلة مواردهم. و الخلاص من فِتَن و حروب عالَمنا العربي كامن في قبول الفلسفة الإنسانوية التي تؤكِّد على وحدة الأديان والمذاهب و وحدة الثقافات والبشر فتتضمن بذلك تحقيق السلام. فحين نعتقد بأنَّ كل البشر يشكّلون كائناً بشرياً واحداً و أنَّ كل الحضارات حضارة واحدة هي الحضارة الإنسانية فسوف تزول الحروب و يَسُود السلام الذي يُحتِّم سيادة الحريات والعدالة والازدهار.

– ما مستقبل الأدب العربي في ظل الثورة التكنولوجية وانتشار المواقع الثقافية الإلكترونية؟ ما تأثير الثقافة الإلكترونية على الأدب والمثقف؟

– الفلسفة والآداب والفنون والعلوم تشكّل كينونة واحدة غير قابلة للفصل والتجزئة. فالشعوب المتطوّرة بأدبها متطوّرة أيضاً بعلومها وفلسفاتها. من هنا ، لا مستقبل للأدب العربي بلا تطوير فلسفات و علوم عربية ومشاركة عربية حقيقية في إنتاج الفلسفة والعلوم. أما الثقافة الإلكترونية المتمثلة بانتشار المواقع الثقافية على الأنترنت فلا تحقق هدفها الأساس ألا و هو حق كل فرد في الحصول على المعرفة إن لم نتحرّر من رفض العِلم والتفكير العلمي والإنسانوي. نشهد اليوم استخدام التكنولوجيا من أجل نشر الجهل والفِتَن والحروب والسبب وراء ذلك رفض الفكر المنطقي والعلمي والإنسانوي الذي يوحِّد فيما بيننا. وبذلك سوف يموت أدبنا العربي و عقلنا العربي أيضاً إن لم نستعد قبول العِلم و نستخدم التكنولوجيا لنشر العِلم والقِيَم الإنسانية. فالعِلم خالٍ من اليقينيات ما يحرِّرنا من التعصب فيُحتِّم قبول الآخر و سيادة الحضارة والتحضّر. الثقافة الإلكترونية الخالية من قبول العِلم وإنتاجه تقتل الأدب و تغتال المثقف لأنها تسجن الإبداع الذي يتصف بطبيعته بالتحرّر من أية قيود. الثقافة الإلكترونية تسجن المثقف بقوالب مُحدَّدة سلفاً و مبادىء لا بدّ من مراعاتها لكي يتحقق النجاح على الأنترنت ما يُقيِّد الفكر والإبداع فيُحتِّم قتل الثقافة. إنه زمن اغتيال الثقافة والمثقفين. العقل الأنترنتي قاتل العقل المُبدِع و الخلاق.

حسن عجمي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here