البَصْرة.. إبدال الاغتيال بالنَّخيلِ!

البَصْرة.. إبدال الاغتيال بالنَّخيلِ!

رشيد الخيّون

كان المعماري محمد مكية(تـ: 2015) خيالياً عندما اقترح أن يغرس كلُّ عراقي نخلةً؛ لتعويض البّصْرة، الذي عُد نخيلها (1952) بـثلاثة عشر مليوناً وأربعمائة ألف، والعراق كافة بـاثنين وثلاثين مليون نخلة (الدَّباغ، النخيل والتُّمور في العِراق). أقدم مِن هذا، نُقل عن عبد الملك الأصمعي(تـ:216 هجرية): «سمعتُ هارون أمير المؤمنين يقول: نظرنا فإذا كلُّ ذهبٍ وفضةٍ على الأرض لا يبلغان ثمن نخل البصرة»، (السِّجستاني، كتاب النَّخل[RA1] ). لكن، بعد الحروب والحصار والعبث، ما قبل وما بعد(2003)، صار «يُهدى لوالي البصرة التَّمر»(ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة)، جاء شعراً فذهب مثلاً تعبيراً عن الغرائبَ.
لم يكن «مكية» ولا غيره، ممَّن كنا لا نحسب حساب العثرات، فالمعارضة التي كانت تصدر بياناتها، رسائلَ تنوير وعمران، حققت التُّؤْمَ: الانتقام والطَّائفيَّة. كيف انقلبت الضَّمائر سريعاً، بين صباح مؤتمر لندن(12/2002)، وصباح(4/2003)! ولله دَرُّ القائل في رجال الدِّين، عندما حالوا دون فتح مدرسة بنات: «ومِن عجبٍ أنَّ الذين تكفلوا/بإنقاذ أهليهِ هم العثرات»(الجواهري، الرَّجعيون 1929). أقول: صار غرس النَّخلة غريباً، وتأسيس فرقة موت مألوفاً!
كشف رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي الآتي: «عِصابة الموت، التي أرعبت أهلنا في البصرة، ونشرت الموت في شوارعها الحبيبة، وأزهقت أرواحاً زكية، سقطت في قبضة أبطال قواتنا الأمنية، تمهيداً لمحاكمة عادلة علنيَّة…»(14/2/2021).
اُستقبل هذا الكشف بأمل البداية في كسر حاجز الرُّعب، لكنَّ تسميَّةَ هذه الجماعة بـ«العصابة» فيها هروب عن إدانة «الاغتيال السِّياسي»، المرهون بفتاوى قتل دينية، فـ «فرقة الموت» (المجاهدة) لا تنشط مِن دون فتوى مرجعها ووليها. معلوم، أنَّ الفرقة غير العصابة، في دلالة اللفظ والمعنى. فلو كان الأمر بحدود مفهوم «العصابة» لهانت، وأرى الكاظمي قصد بوصف فرقة الموت بالعصابة، تخفيفاً للضالعين بها مِن الإسلام السِّياسي، الذي يصعب التَّمييز فيه بين عنيف ومعتدل، فالمسألة تدرج في المراحل، فالخصم «كافر»، والكافر «مقتول»!
أقول: كانت فرقة مِن كتائب دينية، ألقي القبض على الصف الثَّاني مِنها، أما الأول فعبروا إلى جار الجنب، حيث الملاذ الآمن، أما التأسيس فكان في زمن أمين حزب «ذوبوا في الخميني…»، ألقي القبض عليها(2017)، ولم تكن السُّلطة آنذاك والآن مستطيعة، فالكلمة الفصل في ملف الاغتيالات بيد حرس الولاية.
كان البَصْريون يعرفون جهاز الاغتيال ومؤسسه، الذي ترك تُراثاً مِن العنف بعد مقتله، لكن مَن يصرخ بالصِّدق مصيره الهلاك، يعيش رعباً صوره المعري(تـ:449 هجرية) بأجزل الكلام: «إذا قلتُ المحال رفعتُ صوتي/وإن قلتُ اليقين أطلتُ همسي(اللزوميات).
اغتالت فرقة الموت مَن لم يطق الهمس على فظائع «الولاية»: محمد مصبح الوائلي(2012)، مكي التميمي(2014). حسين عادل وزوجته سارة(2019)، مجتبى جاسم(2020)، جنان شمخي(2020). فاضحي الفساد: أحمد عبد الصَّمد وصفاء غالي(2020)، رهام يعقوب(2020). هذا، والمغتالون والمغتالات بالبَصْرة كثرٌ، سبقهم إلى حياض الموت: الشَّيخ يوسف حسان، ومدير الجنسية السابق حسن الخيَّون، وقبله شقيقه فيصل الخيُّون، ومجموعة من أقاربهما، والفاعل دراجة وكاتم، تم ذلك على أيدي مجاهدي الأمس ومتنفذي اليوم.
كان المشهور عن البَصْرة أنَّها أمّ النَّخيل، والفرق الفكرية، ومدرسة اللُّغة، أما «الموت» غيلةً، فصناعة استوطنتها مؤخراً. قال عبد الله بن المعتز(قُتل: 296 هجرية)، مدافعاً عن أبي نواس، الذي ظلمه الأولون والمتأخرون: «تأدبَ بالبَصْرةِ، وهي يومذاك أكثر بلاد اللهِ علماً وفقهاً وأدباً…»(طبقات الشُّعراء).

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here