في ذكرى الانتفاضة .. أسئلة الوجود وآلام الفرص والأهداف الضائعة

في ذكرى الانتفاضة .. أسئلة الوجود وآلام الفرص والأهداف الضائعة
سامان نوح
بلا مهرجانات ولا احتفالات جماهيرية ولا وقفات رسمية مجلجلة كما جرت العادة، مرت الذكرى الثلاثين لانتفاضة الكرد في آذار 1991، وأكتفت الأحزاب القائدة باصدار بياناتها المستنسخة من أرشيفها الضخم للشعارات والتعهدات، فيما تبادل القادة عبر منصاتهم موجة جديدة من حملات الاتهام والتخوين على خلفية “لقاء مرتجى” جرى الترويج له قبل ان ينهار في لجة الشروط والشروط المقابلة.
وسط دخان الداخل المرتبك وحماسة الاعلام الحزبي بالانتفاضة التاريخية، واصلت تركيا تهديداتها بنار مستعرة في سنجار، كما ضغوطها السياسية مستغلة كل ثغرة تلوح لها في جسد الاقليم وآخرها “طابع البابا” الاحتفائي الذي تحول من مناسبة للتسويق الدعائي الى معضلة يبحث لها القادة عن مخرج يرضي الجارة “المتحفزة” ولا يكون مبعث احراج داخلي.
سائق التاكسي، والمعلم المتقاعد الذي وصف حياته بحرب طويلة مع كوكتيل أزمات، قال وهو يخفض صوت المذيع الذي كان يبارك القادة بذكرى الانتفاضة على انغام اغنية حماسية تسعينية الروح: “لم لا يباركون، لقد حققوا ما لم يكن يرونه حتى في احلامهم.. رواتب وامتيازات وقصور وعمارات وشركات واستثمارات وخدم وحشم لا ينقطعون عنهم ساعة.. أما نحن فما زلنا نكافح لتأمين الخبز ونتوسل العدالة والمساواة، واذا تكلمنا يشككون بقوميتنا أو يذكروننا بابادات البعث وبأيام العسكرية والجيش الشعبي”.
يتكرر ذات الكلام في الشارع كثيرا، وعلى منصات التواصل يتساءل نشطاء بقلق عن مصير الاقليم بعد 30 عاما وعن “تجربته” في الديمقراطية والحريات الأساسية؟ وعن الطبقية التي تتسع والمساواة التي تضمحل والفساد الذي يتفشى والحزبية التي تسود، وعن مؤسسات الدولة التي ماتت قبل ان تلد، والدستور الذي لم ير النور، والقانون الذي لا يحاسب الا الضعفاء ويعجز امام الفاسدين الكبار.
ليس حديث “نشطاء التواصل” هو وحده الذي يؤشر الكبوات ويتساءل عن الأهداف التي تحققت؟ فبيانات القادة بدورها لم تخلو بعد التذكير “بالانجازات الكبرى” من الاشارة للأهداف التي ماتزال بعيدة المنال، وبالتحديات التي تهدد الوجود، ومحطات التراجع المقلقة، والانتكاسات التي قد تحصل ما لم يتوحد الفرقاء ويتجاوزوا انقساماتهم المرتكزة على حرب المصالح الذاتية.
يضيف المعلم الستيني:”لقد دخلنا النفق المظلم منذ سنوات بعيدة ولا مفر اليوم. نصف عمري راح وسط حروب صدام أو هربا من اباداته وتقارير أزلامه، والنصف الآخر انقضى وأنا أعمل لتأمين الخبز وبناء بيت على مساحة 125 مترا، فيما صغار المسؤولين صار لهم في كل مدينة قصور ومزارع وابراج واستثمارات من رواتبهم الحكومية والحزبية الشرعية طبعا.
ضربت الأحزاب ضربتها في الأسس البنيوية التي ما من قيامة بعدها، وغاصت في وحول فساد لا خروج منها، وفي فخاخ لا نجاة منها نصبها “أصدقاء”، فلا تنفع معها مراجعات ومحاسبات لا باب لها أصلا في صدر الديوان، فيما يلف صمت القبور “نخب الأحزاب” من شعراء وكتاب وروائيين وأكاديميين، فيقفون متفرجين في محافلهم ومراكز بحوثهم الفسفورية، عاجزين حتى عن ايراد الوقائع وتفكيك النتائج وتحليل ما انتهى اليه حلم الكردي البسيط بالاقليم القوي “واحة الديمقراطية والحريات والعدالة والحكم الرشيد”.
كتاب كثر تركوا الكتابة وانزوا تحت وقع الرواتب والامتيازات، فيما يكتفي آخرون بكتابة “بوستات فلسفية” أو نشر “نصوص تأويلية” على صفحاتهم الشخصية. بوستات تنقل اقوالا وحكما مأثورة لسياسيين ومؤرخين تؤشر الخراب المجتمعي الذي يشكله تحالف التجار والساسة الشطار. كتاب يعيشون في حقبة السبعينات باللجوء الى التلميح خوفا من تداعيات التوضيح على مواقعهم، فيما تزدحم طاولات جلساتهم الخاصة بتنظيرات الانتكاسات والفرص الضائعة.
ثلاثون عاما مرت على الانتفاضة الكردية الكبرى ضد البعث، لم يقدم اي حزب لائحة اعتراف بالأخطاء، ولم يقترح برنامجا اجتماعيا سياسيا لمراجعة مسارات العمل ومواجهة التحديات وتغيير الواقع الذي يتفق الجميع انه يمضي باتجاه خاطئ محفوف بالمهالك، وانه في كثير من مفاصله يستنسخ مسارات عمل “الأنظمة التقدمية” بالمنطقة ويكرر تجاربها “الحرة” بلا اتعاظ.
قوى المعارضة الكردية كما تصنف نفسها، مثلهما مثل احزاب السلطة، لم تستذكر الا في بياناتها وقائع ودروس الانتفاضة. الأولى تموضعت في مقراتها وتمترست خلف بيانات انتقاداتها للسلطة واستسلمت ليأس جمهورها المتفكك المتحول، فيما واصلت الثانية تحزيب مكاسب الانتفاضة والتهامها ككعكة ثورية دون التفات لأوضاع “رعيتها” ولهيكلية الدولة ولبنية المؤسسات ومسارات الانتقال الى مرحلة ما بعد “سلطة الجبل”. في أبراجها السحابية هي لا تؤمن أصلا بوجود عُقد تحتاج الى مراجعات، ومعادلات تتطلب تفكيكا واعادة انتاج او حتى اعادة قراءة.
الانقسامات عميقة، هي طالما كانت حاضرة ومنذ الأيام الأولى للانتفاضة مرورا بالاقتتال الداخلي ومن ثم شراكة تقاسم المغانم وانتهاء بتحاصص الغرماء، لكن كانت هناك آفاق للحلول وشخصيات لتبنيها. اليوم لا آفاق ولا حلول ولا مرجعيات حاسمة. القادة لا يستطيعون عقد اجتماعات للمكاشفة وطرح الحلول خارج نفق مصالحهم الحزبية.
والخلافات في كل موضع وحول كل شيء، في البرلمان الهزيل حيث يلتقي حول امتيازاتهم وفي قلب استعراضاتهم موظفو الصف الثالث من الكوادر الحزبية، كما هي في المؤسسات الامنية، وفي الدوائر القضائية، وفي صفوف البيشمركة، وفي اروقة الحكومة، وفي كل محفل ومؤتمر وزيارة، وحتى في مسرح حضور البابا الاحتفالي.
الجيش مازال على الأرض جيشان، والأمن منقسم حتى في بياناته، والمؤسسة القضائية تضربها الخلافات وبيانات التشكيك الحزبية، ومؤسسات المواطنة في خبر كان، الدستور الكردستاني مازال في أرقة الغيبة الصغرى ولا احد يتحدث عنه، وكركوك وسط خطوطها الحزبية في دائرة النسيان، وسنجار في دائرة الابتلاع التركية الايرانية، و”سهل” نينوى صار صعب المنال.
لا شيء يثير قلق الكبار، ولا ضير في كل الانقسامات، فالمصالح التجارية والاستثمارية ومشاركة الحصص تبقيهم متفقين على الاستمرار في حكومة واحدة يتقاسمون غنائهما رغم كل خلافاتهم، وليتركوا للشعب نشوة الاحتفال بأعياد آذار تحت وقع الأناشيد الحماسية وقرع حملات التحشيد الحزبية وتراتيل الشعارات القومية.
في كل ذكرى تتقافز الأسئلة عن الأهداف التي تحققت وتلك التي ضاعت وتحولت الى مجرد احلام، وعن مصير الاقليم الذي كان قبل سنوات صانع الملوك في العراق وأصبح عاجزا حتى عن حماية مكتسباته الدستورية تحت وقع الحروب التجارية لأحزابه، وعلى أنغام الضربات السياسية والأمنية التركية الايرانية التي تفضح في كل مرة المستور من الضعف في ظاهر القوة.
في كل ذكرى يلملم منتفضون وثائرون كثر جراحهم منزوين وهم يتأملون بحسرة ما انتهت اليه الأحوال والآمال، وكيف تقدم صفوف الأمة “بحبر التزكيات” انتهازيون تتلخص كفاءاتهم في اجادتهم فنون الطاعة والتطبيل التي تكاد تغرق الجميع في سيل الضياع.

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here