العنصرية في النظرية والممارسة..أو حملات مذابح الأنفال في كردستان العراق

كاظم حبيب

هذه دراسة قدمت لأول مرة إلى المؤتمر الأكاديمي الأول الذي عقد في أربيل عام 2002 حول حملات ومذابح الأنفال التي نفذها النظام البعثي الفاشي ضد شعب كردستان العراق والتي استخدم كل أنواع الأسلحة التقليدية الحديثة، إضافة إلى السلاح الكيماوي ضد أهالي مدينة حلبچة. في عام 1988. في الذكرى الثالثة والثلاثين للإبادة الجماعية وضد الإنسانية 2021ذ أعيد نشر هذه المادة لتكون عبرة للجميع.

إقليم كردستان العراق – العراق

2002

الفهرست

المقدمة: الشعب العراقي ضحية الاستبداد والقمع والعنصرية ………………………………………………….. 3

المدخل: لمحة مكثفة عن الشعب الكردي …………………………………………………………………… 7

الفصل الأول: العنصرية والتطهير العنصري في العراق……………………………………………………… 11

أ. مفهوم العنصرية والتطهير العنصري …………………………………………………………………… 13

ب. الذهنية العنصرية وممارسات التمييز والتطهير العنصري في عهد حكم البعث وصدام حسين ………………… 19

المرحلة الأولى: فترة التأسيس 1951/1952 – 1958 ………………………………………………….. 19

المرحلة الثانية: فترة التميز والتهيؤ والانقضاض على السلطة 1959-1968 ……………………………….. 24

المرحلة الثالثة: فترة تكريس النظام ورسم السيات الاستراتيجية والتكتيكية 1968-1974 …………………….. 28

المرحلة الرابعة: البدء بالتهيئة الفعلية لتنفيذ سياسات البعث الاستراتيجية حتى عام 1979 ……………………. 30 المرحلة الخامسة: الهجوم التوسعي وممارسة فعالة للسياسات العنصرية والعدوانية التوسعية وشن الحرب ابتداءً من عام 1979 حتى الوقت الحاضر ……………………………………………………………………………. 35

ج. العنصرية في التعامل اليومي مع الأحداث …………………………………………………………….. 37

الفصل الثاني: عنصرية النظام ومذابح الأنفال ……………………………………………………………. 40

أ. التهيئة لمذابح الأنفال ……………………………………………………………………………….. 40

ب. تنفيذ حملات ومذابح الأنفال ………………………………………………………………………… 46

ج. ما بعد مذابح الأنفال ……………………………………………………………………………….. 53

الاستنتاجات ………………………………………………………………………………………….. 55

الملاحق ……………………………………………………………………………………………… 59

المقدمة: الشعب العراقي ضحية الاستبداد والقمع والعنصرية

كان وما يزال القسم الأعظم من الشعب العراقي، بتكوينه السكاني المتنوع، عرباً وكرداً وأقليات قومية وأتباع ديانات وطوائف دينية عديدة أخرى وأصحاب عقائد وآراء سياسية مختلفة، يعاني منذ ما يقرب من أربعة عقود من السنين من أوضاعٍ شاذة واستثنائية غير منقطعة تجاوزت ما عاناه الشعب في ظل الحكم الملكي الإقطاعي في العراق، بحث بدأ البعض يترحم على نظام أرسى الساس المادي لما نعانيه اليوم من ويلات ومحن وكوارث متلاحقة. ومعاناة الشعب لا تقتصر على إرهاب النظام وقمعه الفاشي المتواصل وحسب، بل وبسبب الحصار الدولي المتعدد الجوانب الذي تمارسه الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا ضد هذا الشعب، رغم الادعاء بأن المستهدف بالحصار هو النظام، في حين أن المتضرر الأول والأخير منه، والمستهدف به هو الشعب العراقي وإذا ما جري البحث في هذا المجال عن نضال ومآسي وكوارث الشعب الكردي في كردستان العراق وعن مذابح الأنفال العنصرية، ومنها مجزرة الأسلحة الكيميائية في حلبچه، وهي قمة الإرهاب العنصري والعداء السافر للجنس البشري، فأن علينا أن لا ننسى معاناة بقية أبناء وبنات الشعب في الوسط والجنوب، وبتعبير أدق، على امتداد الرقعة العراقية الراهنة. فالمعاناة كما أشار إلى ذلك بصواب وصدق كبير الكاتب والروائي العراقي سلام عبود حين كتب، مقارنا بين تجربة العراق مع النظام الصدامي وتجربة ألمانيا مع النظام الهتلري، يقول: فرغم اختلاف التجربتين في أمور عديدة، لكن جوهر السؤال سيظل سليماً، حيث أن العنصر الأساسي فيه هو وجود نظام قائم على احتكار السلطة احتكاراً مطلقاً وسيادة الإيديولوجية العنصرية، وتحويل المجتمع إلى قوة حاملة لأعباء حرب مدمرة غير عادلة. والنقاط الثلاث السالفة، هي في تقديري جوهر خصائص الواقع السياسي في العراق، الجوهر الأساسي الذي يجعل الاعتبارات الأخرى مجرد تفاصيل إضافية، لا تلعب دوراً حاسماً في تكوين خصوصية لوحة الحياة العامة”1. ويمكن توسيع النقطة الثالثة ومدها إلى أبعد من الحرب والقول: …، وتحويل المجتمع إلى قوة حاملة لأعباء سياسات وحروب النظام غير العادلة الداخلية والإقليمية على امتداد العقود الأربعة المنصرمة وعواقبها على الأجيال الراهنة والقادمة. فالحرب ضد إيران وغزو الكويت والحرب الخليجية الثانية والحرب ضد الشعب الكردي وضد شعب الأهوار وضد المنتفضين كانت جزءاً من تلك السياسات، وأن كانت الجزء الدموي منها، فأن مجمل سياساته على مدى أكثر من ثلاثة عقود كانت وراء الأعباء التي يحملها الشعب العراقي على كاهله ويتلقى عواقبها مباشرة، في حين يبقى قادة النظام والقاعدة التي يستند إليها في منأى عنها.

فالأكراد الفيليون، وهم جزء من الشعب الكردي، بخصوصيتهم المعروفة، كما أنهم جزء من بنات وأبناء العراق، تعرضوا على امتداد العقود المنصرمة منذ تأسيس الدولة العراقية، لتمييز واضطهاد النظام الملكي بحدود معينة، ولكن معاناتهم الحقيقية بدأت مع وصول البعث وبعض القوى القومية إلى الحكم في المرة الأولى والبعث في المرة

الثانية. فالعوائل الكردية الفيلية البغدادية العريقة وفي المدن الأخرى تعرضت للمضايقة والملاحقة والتعذيب والقهر والنهب والسلب ومصادرة كل ممتلكاتهم المنقولة وغير المنقولة وتهجير عشرات الألوف منهم بالقوة القسرية الظالمة إلى إيران. كما أجهز البعث الحاكم بالقتل على مجموعة كبيرة من الشباب الكردي الفيلي المتمسك بوطنه العراق والمحب له. والموقف من الأكراد الفيليين كان وما يزال يتسم بالعنصرية البغيضة والحقد المسموم. ومارس النظام عملية “تطهير عرقية” فعلية ضد الأكراد الفيليين في مناطق سكناهم، ومنها بغداد.

وشمل هذا الحقد الأسود عرب الوسط والجنوب، حيث رحل النظام في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات أعداداً غفيرة من المواطنات والموطنين العرب بحجة كونهم من التبعية الإيرانية، بسبب كونهم يدينون بالمذهب الشيعي في الإسلام، وكأن المذهب الشيعي من نتاج المجتمع الإيراني وليس من اجتهاد المسلمين العرب منذ العصر العباسي ومنذ أيام الإمام جعفر الصادق على أقل تقدير.

يقدر عدد المهجرين العراقيين من العرب والأكراد الفيليين من جنوب ووسط العراق، بما فيها بغداد، بما يزيد على 450000 مواطنة ومواطن عراقي. وتعرض هؤلاء الذين هجروا في فترة الحرب العراقية الإيرانية بشكل خاص إلى مشاق السير بين الألغام والموت على هذا الطريق، وإلى الاعتداءات والإهانات التي يندى لها جبين الإنسان لبشاعتها، والتي لم تميز بين طفل وشيخ طاعن في السن أو رجل وامرأة حامل، أو رضيع أو مريض. كما اعتقل النظام أعداداً كبيرة من شباب الوسط والجنوب وزجهم في السجون والمعتقلات ولم تسمع أخبارهم منذ الثمانينات. وكل الدلائل تشير، كما في حالة الأكراد الفيلية ومذابح الأنفال، إلى إجهاز النظام عليهم وقتلهم ودفنهم في مقابر جماعية لم تكتشف كلها حتى الآن.

ومن الخطأ الاعتقاد بأن النظام العشائري والطائفي القائم في العراق قد عامل العراقيين من بنات وأبناء المذهب السني بطريقة إنسانية. فالاضطهاد والاعتقال والتعذيب والقتل شملهم أيضاً، فالنظام يقف ضد كل من يعارض النظام أو يختلف معه أو حتى يشك في ولائه للنظام بأي قدر كان.

وارتكب النظام جرائم بحق الأشوريين والكلدان بأساليب وصيغ شتى دفع بعدد كبير جداً منهم إلى ترك البلاد والهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واستراليا ونيوزيلندا وبعض الدول الأوروبية. ففي هذه البلدان يلتقي المرء بأكثر من 300 ألف إنسان من العراقيين الآشوريين والكلدان والسريان من أتباع الديانة المسيحية بطوائفها المختلفة.

كما يجد الإنسان عدداً متزايداً من الأكراد الإيزيديين المقيمين في أوروبا على نحو خاص، ولكنهم موجودون أيضاً في دول أخرى، ويزيد عدد المهاجرين الهاربين من ظلم النظام وقهره ما يقرب من 30 إنسان. وهكذا حال الصابئة المندائيين الموزعين على بلدان أوروبا الغربية وأمريكا وكندا وغيرها. فعدد العراقيين القاطنين في الشتات يصل اليوم إلى أكثر من 3 مليون إنسان، موزعين على إيران وسوريا والدول الأوروبية والولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلندا وغيرها من دول العالم. وهم يشكلون ما يقرب من 12 % من سكان العراق في الداخل والخارج البالغ عددهم حوالي 25 مليون نسمة.

ولكن اين تبرز معاناة العراقيات والعراقيين في المرحلة الراهنة؟ يمكن بلورة الجواب عن هذا السؤال بعدد من النقاط الجوهرية التي تشخص بوضوح الطبيعة الاستبدادية الشمولية والقمعية والعنصرية والعشائرية والطائفية التي يتميز بها النظام في العراق، إضافة إلى نزعاته الأخرى المنبثقة عن خصائصه الأساسية:

1. يفرض صدام حسين في العراق نظام حكم فردي دكتاتوري شمولي على الشعب العراقي كله دون استثناء، ويمارس سياسة تضرب عرض الحائط كل المبادئ والقيم والأسس الديمقراطية والدستورية في الحكم، كما يضرب كل المواثيق واللوائح الدولية الخاصة بحقوق الإنسان عرض الحائط. فالسجون مليئة بالسجناء والمعتقلين، سواء بمحاكمة صورية أم بدون محاكمة، ولم يعد ممكنا تقديم لوحة مقربة عن عددهم بسبب كثرة من اعتقلوا حتى الآن، وكثرة من قتلوا في السجون خلال السنوات العشرة الأخيرة على أقل تقدير. وعدد السجون والمعتقلات كبير جداً، وهي موجودة في كل مكان في العراق، سواء كانت بصورة علنية ومعروفة أو سرية تديرها أجهزة خاصة ترتبط مباشرة بأفراد عائلة صدام حسين المقربين جداً منه؛

2. وعلى هذا الأساس فكل ما هو موجود من مؤسسات تدعي الحكم باسم الشعب، إنما هي مزورة ومشوهة لإرادة الشعب، كما هو حال المجلس الوطني العراقي أو المنظمات والنقابات المهنية. فالحاكم بأمره هو الذي يقرر كل شئ في العراق، فهو المشرع والقاضي والمنفذ أو الحاكم في آن واحد، إضافة إلى أنه المسؤول عن الإعلام؛

3. والنظام العراقي كان وما يزال يستخدم أكثر من جهاز واحد للأمن الداخلي والمخابرات العسكرية التي تقوم برصد تحركات المجتمع العراقي بطريقة تساعده باستمرار على التقاط من يتحدث ضد النظام أو يعمل ضده. ويدخل الرصد في بيوت الناس ومحلات عملهم وفي كل مكان، بحيث لم يعد للإنسان القدرة على الحلم والتنفس بحرية. فالعراق يئن تحت وطأة القمع والقسوة، بالمعنى الإنساني العميق للكلمة. إذ أصبح الإنسان خشية قمع السلطة يقوم بقمع نفسه بصيغ وأشكال شتى، فالمجتمع كله، حتى الجلاد ذاته يعيش تحت أنواع مختلفة من القمع الذاتي والخاص والعام، وهي قمة التوتر والتدهور في المجتمع.

4. وتأخذ القوانين العراقية المليئة بأحكام الإعدام على عاتقها تحقيق حالة القمع العامة من خلال إرهاب الناس ودفعهم بعيداً عن العمل السياسي المعارض مثلاً، إذ أن الموت يمكن أن يحصدهم في كل لحظة دون مسائلة الجاني على فعلته ودون أن يعرف أحد بذلك؛

5. والجامعات والكليات والمعاهد ودوائر الدولة الأساسية، وخاصة وزارات الدفاع والخارجية والداخلية والإعلام والشباب والقوات المسلحة وغيرها، ليست محرمة على غير البعثيين وأنصارهم ومؤيديهم فحسب، بل هي أوكار لنشاط قوى الأمن واضطهاد المواطنين والتآمر. والاستبيانات المستمرة في محلات السكن والعمل والدراسة وغيرها مسؤولة عن تأمين معرفة مدققة بالناس العراقيين وعن قدرة الأجهزة الأمنية على التحكم بالوضع في مناطقهم وحمايتهم من قوى المعارضة السياسية لهم. إن من يريد الوصول إلى اي مقعد دراسي أو وظيفة ينبغي له أن يحمل بيديه كتاب تزكية له من الحزب الحاكم ومن أجهزة الأمن الداخلي، وهي غالباً

ما تكون مرتبطة بفرض تنازلات لهم، بما فيها المشاركة بتقديم معلومات ووشايات ضد الناس في محلات السكن أو العمل أو الدراسة (الملاحق)؛

6. وبسبب سياسات النظام العربية والإقليمية وحروبه الدموية كان وما زال الشعب العراقي يعاني لا من وطأة استبداد هذا النظام فحسب، بل ومن جور الحصار الدولي، وكلاهما يجهز على العراقيين بالقمع والتجويع والحرمان والموت بصيغ مختلفة. علماً بأن هذا الحصار الدولي لا يضعف النظام، بل يسمح له بطول العمر وكسب تأييد الشعوب العربية وشعوب الدول “الإسلامية” على نحو خاص.

المدخل: لمحة مكثفة عن الشعب الكردي

تعتبر المسألة الكردية واحدة من الإشكاليات الكبيرة التي تواجه شعوب منطقة الشرق الأوسط، وخاصة في تلك البلدان التي اقتسمت في ما بينها كردستان في أعقاب الحرب العالمية الأولى، أو التي وزعت عليها، رغم أن التقسيم الأول لكردستان كان قد تم عملياً في وقت سابق. والإشكالية الحقيقية تبرز في أن شعوب المنطقة كلها تقريباً أسست خلال القرن العشرين دولها المستقلة الجديدة، ومنها الشعوب العربية التي كونت لها في منطقة الشرق الأوسط وحدها خمسة عشر دولة، وبعضها قزمي، كما في بعض إمارات الخليج، ومُنح يهود العالم دولة أقيمت على القسم الأكبر من أرض فلسطين، في حين لا يتمتع الشعب الكردي، أو الأمة الكردية، بسكانه الذين تجاوز عددهم اليوم أكثر من 30 مليون نسمة بدولته المستقلة على أرض وطنه كردستان. وهذه الإشكالية المؤرقة، وبحق، للشعب الكردي، لا تجد حتى الآن التفهم العقلاني والإنساني من جانب الحكومات والنظم في المنطقة وبقية دول العالم ولا حتى من الأمم المتحدة، إذ لا يبدو في الأفق القريب أي حل جذري لهذه المشكلة لصالح الأكراد. والإشكالية الأكثر قساوة تكمن في أن غالبية القوى القومية المتعصبة واليمينية، سواء كانت عربية أم فارسية أم تركية، ترفض حتى الآن الاعتراف بواقع وجود شعب كردي كان وما يزال محروماً من حقه في تقرير مصيره في الأجزاء التي توزع عليها عبر القرون المنصرمة لإقامة دولته الوطنية المستقلة، كما أن بعضها يرفض حتى حقه في إقامة اتحاد فدرالي في إطار الدولة القائمة أو حتى إقامة الحكم الذاتي، بغض النظر عن الواجهة القومية أو الدينية التي يسعى البعض للتستر بها لتغطية الروح الشوفينية التي تميز سياساته ومواقفه. والبعض الآخر ينسى تماماً أن الشعب الكردي واحد من أقدم شعوب المنطقة، كما كانت له يوما دولة عامرة، وكانت له فيما بعد إمارات كثيرة وفي مختلف العصور، ولكنه خضع أيضاً، كما في حالات شعوب أخرى للهيمنة والاضطهاد والظلم والقهر المتنوع.

فتاريخ الشعب الكردي عريق في المنطقة وعلى الأرض التي يعيش عليها اليوم. فالتنقيبات الأثرية المكتشفة عن عهد الملك الآشوري توكولتي -ننورتا في أواخر القرن الثالث عشر ق.م. تشير إلى وجود شعب في المنطقة أطلق عليه في أحد الألواح كوتي وفي لوح آخر كورتي (والراء الزائد بسبب تضعيف التاء في جميع اللغات)، وأن هذا الشعب ينحدر من أمم جبال زاغروس الكبرى أثناء العهد السومري، وكان أول ملوك هذا الشعب هو “أي أناتوم” الذي حارب العيلاميين، وكان ملكاً على لكش، ثم الملك “لوكال – زاكيزي” االكوتي لذي حكم في أوروك (الوركاء) وسومر. ومن ملوكهم أيضاً “انو بانيني” فاتح هالمان أو حلوان الواقعة بين قصر شيرين وكرمنشاه. ووفق دراسات المتخصصين فأن الشعب الگوتي كان يعيش في بلاد سومر قبل أن تؤلف الحكومات

فيها بزمن غير قصير. وأن آخر ملوكهم كان أتريكان الگوتي. وأكراد اليوم هم أحفاد الكوتيين القدامى. وجاء ذكر بلاد الكرد عند زينوفون في كتابه “Anabasis” المشهور برحلة زينوفون2، حيث أشير إلى مرور الجيش اليوناني الناكص على أعقابه نحو اليونان ببلاد الكرد الجبلية المتاخمة لأرمينية، أي أن الكرد هم أحفاد الكوردوك الوارد أسمهم في كتاب زينفوون3.

لم يكن الأكراد عشيرة واحدة بل كانوا وما زالوا عشائر كثيرة، كما هو حال بقية شعوب العالم حينذاك وبعضها الكثير حتى يومنا هذا. وتعتبر القبائل الميدية أو الميذية كردية أيضاً، وهم في الوقت نفسه، كما في حال الكورتين، أسلاف الشعب الكردي الحالي. والأكراد ينتمون، كما في التقسيم الشائع عالمياً، بغض النظر عن مدى صواب التقسيم الدولي أصلاً، إلى الأقوام الأرو-هندية، كما يقال نفس الأمر عن الشعب السومري، والتي تداخلت بطبيعة الحال، بسبب عيشها المشترك في المنطقة منذ آلاف السنين، بالأقوام السامية وتفاعلت الحضارات فيما بينها لتنتج الثقافة الراهنة للشعب الكردي في مختلف الأجزاء التي يعيش فيها. ولا تختلف التباينات الموجودة بين الشعب الكردي في العراق عن الشعب الكردي في تركيا أو في إيران أو عن الأكراد الفيلية الذين هم من نفس الأصل والانحدار الگوتي أو الميدي، بكثير أو قليل عن الاختلافات القائمة بين الشعوب العربية في المنطقة. فكما أن العرب يعودون لأمة عربية واحدة، فالأكراد في وطنهم الموزع يعودون لأمة كردية واحدة أيضاً.

جاء ذكر الأكراد أو الكوتين في أحد الرقم السومرية في عهد الملك سرجون الأول (حوالي 2330-2280 ق.م.) التي كتبت بأذنه في عام 2340 ق.م. قوله بفخر كبير، بأنه غزا بلاد الگوتيين4. ويشير الدكتور زهدي الداوودي أيضاً إلى ما يلي: “ونسب أحد الملوك الذين جاءوا من بعده لنفسه أنه قمع إحدى انتفاضات الگوتيين”5.

والمعلومات التاريخية الموثقة تشير أيضاً إلى قيام تحالف سياسي-عسكري بين الميديين والبابليين، وكان الكلدانيون قد أسسوا لتوهم دولتهم الجديدة، الدولة الكلدانية أو الدولة البابلية الحديثة في عام 626 ق.م.، وتمكنوا معاً من احتلال مدينة آشور سنة 612 ق.م. واستمرت قوات التحالف الميدي (الكردي -البابلي أو الكلداني) في مطاردة فلول الجيش الآشوري حتى حران وقضت عليها. واختفت بذلك واحدة من أكثر الإمبراطوريات العراقية القديمة سطوعاً وتوسعاً

وتركت آثاراً ستبقى خالدة باعتبارها جزءا من الإرث الحضاري البشري. ووفق الدراسات التاريخية تم اقتسام مناطق الدولة الآشورية بين الكلدانيين والميديين فكانت منطقة جنوب بلاد ما بين النهرين وقسم من شمالها، وحصة الميديين الأجزاء الشمالية والشمالية الشرقية.6

وجاء ذكر الكرد في كتابات الجغرافي اليوناني سترابون في القرن الأول قبل الميلاد حين كتب يقول:

“بالقرب من دجلة بلاد الكرد الذي سماهم القدامى “كوردوك” ومن مدنهم “سريزا” و “ستالكا” و “بيناكا”7 وهي محصنة جداً وفيها آكام مسورة بسور خاص يجعلها تكون ثلاث مدن، غير أن ملك أرمينية استولى عليها ثم استولى عليها الرومان بهجوم خاطف. إن الكورد بارعون جداً في العمارة والريازة والتحصينات الحربية وفنون المحاصرة والاستيلاء”8.

وتمكن كورش، إمبراطور الفرس القضاء على الدولة الكلدانية ودخول بابل في عام 539 ق.م.. ولكن كان قبل ذاك قد قضى على مملكة ميديا وألحقها بفارس ثم أخضع آسيا الصغرى قبل أن يدمر الدولة الكلدانية ويحتل أراضيها9.

وعاش الأكراد في ظل الحكم الأموي والعباسي، وكذلك في العهد العثماني في إطار ما أطلق عليه بالدول الإسلامية العربية وغير العربية، وشكل في فترات مختلفة إماراته التابعة أو المستقلة نسبياً في مختلف مناطق كردستان. وكاتن نضاله معروفاً وعلى امتداد العصور المنصرمة في سبيل أن يحكم نفسه بنفسه. ولكن الصراعات والأطماع وغيرها لم تسعفه ذلك، إضافة إلى تدخل المصالح الإمبريالية الحديثة التي أعاقت نشوء الدولة الوطنية المستقلة للأكراد في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حيث كرس الوضع القائم حالياً حينذاك، ولم يكن في كل الأحوال في صالح الشعب الكردي. وكان السبب الأساسي في كل ما عاناه وما يزال يعاني منه هذا الشعب من محن وكوارث وقمع ويتعرض لتعامل عنصري مهين من حكومات الدول التي توزعت عليها ارض وشعب كردستان.

وكانت كردستان الجنوبي من حصة العراق، الدولة الملكية الإقطاعية الحديثة التي

تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here