** الكريعات **

  منذ ثلاثة عقود غادرت بلدي الحبيب العراق الذي أحببته من خلال منطقتي الكريعات التي ولدت فيها وعشت أجمل أيام عمري بين أهلها الطيبين، ولم أستطع أن أنسى تلك الأيام الخوالي التي بقيَت محفورة في ذاكرتي بالرغم من أني أعيش في أميركا التي تعتبر واحدة من أرقى البلدان في العالم.
  كانت الكريعات بكلّ أهاليها تشكّل عائلةَ واحدةً كبيرة، تسكنها عشيرة الجبور (الواوي)  مع باقي العشائر الاخرى ، ولكن الجبور في الكريعات ينحدرون من جدٍّ مشترَك ومن فخذٍ واحد، ولم يستطع أحد أن يفرّقهم إلّا بعد أن دخل الغرباء بينهم ليجعلوا منهم شِيَعاً متفرّقين متناحرين، وكلٌ يدّعي بأنّه يمثّل الحقَّ وغيره على الباطل، مع العلم أنَّ الجميعَ يعرفون الحقيقةَ ويتجاهلونها لأنّها مُرّة، بينما كان آباؤنا إخوةً متحابّين متكاتفين فيما بينهم، يتمتعون بمزايا فريدة من نوعها تختلف عن الكثير من مناطق العراق الأخرى، إذ كانوا يحترمون الغرباءَ الذين سكنوا المنطقةَ بين ظهرانيِّهم، كما تميّزوا بالموالاة لأهل البيت ويسترشدون بتعاليم صاحب نهج البلاغة علي ابن أبي طالب عليهم السلام ، وقد دفعوا ثمناً باهضاً بسبب ذلك في جميع الحِقَب التي مرّت على العراق منذ تأسيس الدولة العراقية وإلى يومنا هذا !! نعم أهلي في الكريعات يتمتعون بأخلاق وطيبة مفرطة لا يمكن وصفها  ،  فهم الكرماء الأعزّاء النشامى الذين ينتخون للغير، وهم الذين يتصفون وإلى اليوم، بممارسة الحياة الاجتماعية في ظل الأعراف والتقاليد العشائرية الحميدة التي لم تتلوث بالرغم من أنهم يعيشون في العاصمة بغداد.
  الكريعات التي أنجبت خيرةَ الرجال الذين أكملوا دراساتهم العليا في أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، ورغم تحصيلهم العلمي العالي لكنّهم عانوا من التهميش والإقصاء في زمن المقبور صدام حسين، بل وإلى القتل والاعتقال والطرد من الوظائف لأنهم منحدرون من الكريعات فقط ، ولايوجد من أبناء الكريعات ، وزيراً ولا سفير ، بالرغم من كل الذي جرى عليهم ،
   تذكّرتُ أهلي في الكريعات وأنا أسير على شاطىء نهر (بتهومك) الذي يفصل العاصمةَ واشنطن إلى شطرَين كما سرتُ فوق جسرٍ عائم كأنّه جسر الأئمة الذي يربط الكاظميةَ بالأعظمية، وانا أشاهد الصيادين على ظهر تلك الزوارق الحديثة، تذكّرتُ حمد علوان ، ومهدي حمد ،  وصبري هاشم ، والحاج كريم عبيس ،  وحسون أبو السمك ،  وزوارقهم الخشبية التي تتم صناعتها في الكريعات من قبل عبد الرحمن الفلسطيني(أبو العوف) الذي يعيش بين أهالي الكريعات منذ خمسة عقود والذي يعتبر واحداً منهم كما يقول هو ذلك، وأنا أسير بمحاذاة نهر (بتهومك)  في تلك المناطق الجميلة والهادئة والنظيفة أحسُّ بالغربة التي قتلتني، ذلك لأنني لم أترك العراق من أجل النزهة والترف وجمع المال إطلاقاً، ولكنّي رأيت الباطلَ باطلاً ويجب أن يكون لي موقف منه لانني سأكون مسؤولاً عن ذلك يوم الدين، ثم واصلتُ السيرَ على رصيف الكورنيش المحاذي للنهر والذي هو عبارة عن شارع طويل منقسم إلى شطرين وتتوسطه جزرة وسطية مزروعة بالأشجار وأنواع الزهور الجميلة تتصاعد بين مسافةٍ وأخرى مياه النافورات العديدة المتواصلة على طول الكورنيش، تذكّرتُ كورنيش الكريعات الذي كان من المفروض أن يكون المتنفّسَ الحقيقي والوحيد لأبناء الكريعات التي أصبحت منطقةً مكتظّة بالسكان بشكل عجيب، ولكن مع الأسف لم يستطع ( البعض ) من أهالي الكريعات أن يستوعبوا ذلك، فخرّبوا الكورنيش من خلال تجاوزهم على الشارع العام الذي أثر تأثيراً كبيراً على المنطقة من الناحية الجمالية ، الكريعات كانت مصيفاً من المصايف العباسية كما يذكر التأريخ، وكانت واحدةً من أجمل المناطق في بغداد فهي عبارة عن شبه جزيرة، وهي التي تعتبر من أشهر المناطق التي من أشجارها وازهارها قد تزينت حدائق كل بيوتات بغداد، الكريعات التي تغفو على نسمات دجلة الخالد والتي تتجاور مع الإمامين المعصومين الكاظم والجواد عليهما السلام، والتي تم تهميشها من قبل نظام المقبور صدام حسين (عليه اللعنات) لم يتم إنصافها من قبل الحكومات المتعاقبة بعد السقوط، فهي تعاني الكثير حيث لايزال مشروع الجسر بينها وبين الكاظمية مجرد حلم يراود أبناء المنطقة، ولايزال شبابُ الكريعات يحلمون بملعب ونادٍ رياضي يجمعهم، ولايزال أهالي الكريعات يتمنّون بناءَ مستشفى كبير يستوعب المرضى من الأعداد الكبيرة من أبناء المنطقة التي توسعت كثيراً دون أن يطرأ أيّ تغيير في تقديم الخدمات للأهالي ، والمدارس فيها قديمة ومكتظه بالطلاب ، ويحاول ( مدير الناحية ) جاهداً مع بعض الاخوة العمل على أنجاز كل مايخدم المنطقة لكنهم يصطدمون بالروتين الممل ، كما لايزال أهالي الكريعات يتمنون بمشاريع مدّ أنابيب إسالة الماء والمجاري رغمّ أنّهم تكفّلوا  بمدّهما وعلى حسابهمالخاص ،
   الكريعات منطقتي التي أحببتها، وهام شبابي بسحرها الفتانِ، هي ديرة أمّي وأبي وعشيرتي وإخواني، لذلك من واجبي أن أطالبَ الحكومةَ بالعمل على الاهتمام بها ومساعدة أهلها الطيبين لأنهم قدموا الكثير من التضحيات والشهداء ويستحقون من الدولة الاهتمام بهم ،  وكذلك على الدولة أن تصدر القرارَ الخاص بتمليك البيوت القديمة المسكونة من قبل أهالي الكريعات القدامى والذين لم يكملوا معاملات تمليكهم لبيوتهم بسبب سقوط النظام البعثي المجرم وتأجيل ذلك إلى الآن لأسباب مجهولة.
  الكريعات واحدة من مناطق العراق المعروفة والتي يجب أن ينهض أهلها للمطالبة بحقوقهم المشروعة في الاهتمام بمنطقتهم من حيث شمولِها بالخدمات والوقوف مع مدير الناحية( محمد هاشم الجبوري ) لتحقيق ذلك ،  وكذلك يجب علينا كأبناء الكريعات أن لا نسمح لأيّ شخص بأن يتجاوز على شوارع المنطقة وشاطئها الجميل وأن نكون أكثر واقعية وموضوعية في تحديد المتجاوزين والعمل على التفاهم معهم للخروج بنتائج طيبة ومثمرة تخدم الجميع …..
جبر شلال الجبوري
تنويه: جميع المقالات المنشورة تمثل رأي كتابها فقط
Read our Privacy Policy by clicking here